الشيعية السياسية.. حزب الله ولّادة تفاهمات إقليمية وأزمات محلية (4)

طوال سنوات ما بعد انتهاء الحرب الأهلية وتطبيق اتفاق الطائف (1990 ـ 2005)، أدارت سوريا الحياة السياسة اللبنانية، وفق معادلة "تخصيص الطوائف"، بحسب الباحث أحمد بيضون، أي خصخصة "المقاومة" العسكرية لحزب الله أو الشيعة، وخصخصة "الإعمار" (ومعه الإقتصاد) للرئيس رفيق الحريري أو السنّة. ما بينهما كان التهميش من نصيب المسيحيين إذ نُفي وسُجن قادتهم (ميشال عون، أمين الجميل، وسمير جعجع).

هذه المُعادلة أرست صراعاً كانت كل مراحل تشكُلِه تشي بانفجار آتٍ لا محالة. إذ يستحيل فصل السياسة حرباً وسلماً عن مشروع الإعمار. الصراع بين مشروع المقاومة ومشروع الاعمار كان مُعلناً أحياناً ومُضمراً أحياناً أخرى، وإختُصر بمقولة أطلقها وليد جنبلاط مُبكّراً وكانت كثيفة سياسياً وبالغة الدلالات وجاء فيها :”لبنان هانوي أم هونغ كونغ”؟

في منتصف تسعينيات القرن الماضي (1996)، تم التوصل الى ما عُرف بـ”تفاهم نيسان”. هذا الاتفاق كان عبارة عن هدنة أبرمت عملياً وواقعياً بين لبنان وإسرائيل برعاية أميركية سورية فرنسية. أسقط التفاهم نظرية “الحزام الأمني” الحامي للمستوطنات الشمالية والتي كانت في صلب إحتلال إسرائيل للجنوب، ولم يعد بمقدور الإسرائيليين إستهداف المدنيين في لبنان، إثر أية عملية عسكرية تستهدف جنودهم في الأرض اللبنانية المحتلة.. وإذا حصل الإستهداف، ثمة حتمية لرد لبناني بالصواريخ على المستوطنات في الجليل الأعلى، كما شرّع التفاهم حق مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان.

ما هو متداول أن الدولة اللبنانية هي التي أبرمت الإتفاق، لكن الحقيقة هي أن حزب الله ممثلاً بأمينه العام السيد حسن نصرالله هو الذي خاض المفاوضات غير المباشرة مع الأميركيين والفرنسيين من العاصمة السورية، وذلك من خلال فريق سوري كان يقوده الرئيس حافظ الأسد شخصياً، وذلك بعدما تمت تنحية فريق سوري آخر كان يضغط على الحزب بدعوى “جر لبنان إلى مواجهة عسكرية خاسرة”. وقتذاك، وهذه رواية حزب الله، في كتاب “حزب الله والدولة” للنائب حسن فضل الله، سأل نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام “ماذا يعتقد نفسه السيد نصرالله حتى يخوض هذه الحرب؟ هل يريد أن يكون أبو عمار ثانٍ”؟

موقف خدام إستوجب طلباً رئاسياً سورياً بوقف الضغط السياسي على حزب الله من جهة، ودعمه عسكريا عن طريق مدّه بالصواريخ عن طريق “الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة” من جهة أخرى.

أما رفيق الحريري، فقد إرتأى أن يلعب دور وزير خارجية لبنان وسوريا والسعودية وإيران. جال على عواصم عربية وعالمية دفاعاً عن المقاومة، ووفّر فرصة لفرنسا الشيراكية بالعودة الى المنطقة من هذه البوابة المفصلية. يومها ردّ جاك شيراك على تذمّر وزير خارجيته هيرفيه دوشاريت من طول المفاوضات متذرّعاً بعدم امتلاكه أكثر من قميصين في حقيبته بالقول: “لا عودة الى باريس قبل إنجاز مهمتك، وبإمكانك شراء عشرة قمصان على نفقتي الخاصة”.

لماذا إستعادة هذه الوقائع؟

هذا التاريخ شكّل جسراً عريضاً لعبور حزب الله إلى تاريخ الحركات الثورية التي فاوضت دولاً محتلة. وعند هذا التاريخ بدأت ترتفع وتيرة عمليات حزب الله وتزداد نوعيتها وتؤسس للحظة الإنسحاب الإسرائيلي، وكان طبيعياً أن يأتي رئيسٌ للجمهورية من متن هذا التحول ـ الجسر ومن صلبه، فكان أن إنتخب قائد الجيش إميل لحود عام 1998 رئيسا للجمهورية اللبنانية، بتأخير مدته ثلاث سنوات، عندما نجح الفريق اللبناني ـ السوري إياه بالتمديد لإلياس الهراوي، طمعاً بشطب لحود وإحالته للتقاعد!

ومن حسن حظ إميل لحود، أن المحطة الأهم لبنانياً في التاريخ السياسي للشيعة في لبنان، قد حصلت في عهده وصارت الأيقونة التي لطالما كان يتغنى بها، تماماً كما إستفاد الشيعة من البعد الإجتماعي لعهد فؤاد شهاب، عندما أنشأ الجامعة اللبنانية وقلّص الفوارق بين المدينة والريف، فكان شيعة لبنان أكثر المستفيدين بالعلم والفرص وتوسيع قاعدتهم الإجتماعية، ومن ثم بدأ تأريخ نهوضهم السياسي في لبنان ما بعد الإستقلال.

“شيعية” الانتصار جعلت فائض القوة يتخطى حدود “الطائفة المقاومة”. لنتذكر رمزية “بوابة فاطمة” في كفركلا قبالة مستوطنة المطلة الإسرائيلية، وكيف جاءت آلاف الوفود والشخصيات العربية والإسلامية وحتى الأممية (إدوارد سعيد، نعوم تشومسكي إلخ) فقط لرمي الحجارة على مواقع الإحتلال في الجهة الفلسطينية. لم يكف حزب الله عن إستثمار صورة مقاومة “إعجازية” ساعده في نشرها “تعطش جماهيري” انتشر في العالم العربي قوامه رؤية إسرائيل تهزم للمرة الأولى.. والأهم أن صورة المقاومة وقيادتها صارت بعد خطاب بنت جبيل التاريخي (إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت)، تحظى بمصداقية عند الجمهور الإسرائيلي أكثر من قادتهم الإسرائيليين أنفسهم.

برع حزب الله بالتضخم والتمدد والاستقطاب بعد العام 2000، وراح يأكل من جمهور اليسار اللبناني. كما راح يقضم تدريجياً من جمهور حركة أمل والعائلات السياسية الشيعية، في ظل حضور استثنائي وكاريزماتي للسيد نصرالله، لم يتمتع به من قبل أي زعيم لبناني على امتداد التاريخ اللبناني الحديث

لم تمض شهور قليلة على التحرير، حتى بدأ ما يشبه الإنقلاب في الداخل اللبناني، الأمر الذي يفسّر نقزة السوريين في تلك المرحلة من إنسحاب إسرائيلي سيفقدهم أحد أوراق القوة التي كان حافظ الأسد يتسلح بها في مفاوضاته المكوكية مع الأميركيين والإسرائيليين. هذا الإنقلاب مهّد له “بيان بكركي” الشهير في العشرين من أيلول/سبتمبر 2000، عندما نادى بعودة الدولة إلى الجنوب.. ثم “بعد أن خرجت إسرائيل، أفلم يحن الوقت للجيش السوري ليعيد النظر في انتشاره تمهيداً لانسحابه نهائياً، عملاً بإتفاق الطائف”؟

إقرأ على موقع 180  لماذا ينأى نصرالله بنفسه عن ترسيم الحدود البحرية؟

انقلب الاحتفال بذكرى التحرير إلى تشكيك بسلاح حزب الله وبمقولته إن مزارع شبعا لا زالت محتلة. تنبه آنذاك وليد جنبلاط إلى الأمر فاعتبر “إضافة صفة الاحتلال” على تلال كفرشوبا ومزارع شبعا حجة سورية لكي يحافظ حزب الله على سلاحه ويرهن لبنان وشعبه لمصلحة سوريا، واندلعت “حرب الخرائط” في مؤتمرات صحافية وبرامج “توك شو” لبنانية، وظلت فصولها تتوالى حتى العام الماضي، عندما كرر جنبلاط أن ضباطاً سوريين ولبنانيين إخترعوا قضية “المزارع” في العام 2000 “كي تبقى الذرائع السورية وغير السورية بأن مزارع شبعا لبنانية ويجب تحريرها بأي وسيلة من الوسائل”!

في هذه الأثناء، برع حزب الله بالتضخم والتمدد والاستقطاب بعد العام 2000، وراح يأكل من جمهور اليسار اللبناني. كما راح يقضم تدريجياً من جمهور حركة أمل والعائلات السياسية الشيعية، في ظل حضور استثنائي وكاريزماتي للسيد حسن نصرالله، لم يتمتع به من قبل أي زعيم لبناني على امتداد التاريخ اللبناني الحديث. زدْ على ذلك أن زمن “قوة لبنان في ضعفه” إنتهى لمصلحة خطاب سياسي جديد جعل لبنان دولة قادرة على إقلاق الإقليم، بعدما كان العالم يتعاطى معه بوصفه مجرد “ساحة” أو “صندوقة بريد”.

لقد تحول حزب الله الى “مارد” بفعل أمرين: أحدهما ايجابي صب في مصلحته، أما الآخر فكان سلبياً بامتياز. وكان المراد منه تضخيم حجم الحزب للتأطير لاحقاً ضده. الأول، كان في سقوط نظام صدام حسين عام 2003 (ولاحقاً اعدامه). أما الآخر فقد كان في اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير عام 2005، ثم نزول حزب الله وحلفائه إلى ساحة رياض الصلح في 8 آذار/مارس رافعاً شعاراً استفزازياً “شكراً سوريا”. وهو الشعار الذي ما كان له من ضرورة سياسية في ظل الشكوى اساساً من هيمنة استخبارية وأمنية سورية استمرت 29 عاماً ولعبت على التناقضات الأهلية اللبنانية ولم يسلم منها لا يمين ولا يسار، حتى حزب الله الذي كان في مراحل عديدة من أكثر المتضررين منها وفي مرمى نيرانها الأمنية والعسكرية والسياسية، بما فيها الإغتيال السياسي.

هذه التظاهرة ستجعل الشيعة في مواجهة الاجتماع الأهلي اللبناني بتنويعاته المتعددة، إذ ردت القوى السياسية الأخرى (المستقبل، القوات، التيار العوني، وليد جنبلاط، وقوى حزبية ومدنية) بالنزول في 14 آذار/مارس في تظاهرة مليونية، ليبدأ المشهد السياسي اللبناني بالانقسام العمودي، ثم انسحاب الجيش السوري من لبنان في أواخر نيسان/أبريل 2005.

كان لا بد من الإنحناء للعاصفة. قرر “الثنائي الشيعي” أن ينخرط في الانتخابات النيابية عام 2005، في ظل “الاتفاق الرباعي” الذي جمعه بكل من تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية. لم يدم الوفاق طويلاً وسرعان ما طار “الإتفاق الرباعي”. لكن المدد وَفَد من الدانمارك ووفّر لحزب الله مخرجاً. فقد تركت تظاهرة الإسلاميين في الخامس من شباط/فبراير 2006 اثاراً سوداء على أهالي الأشرفية (بيروت) المصدومين من هول ما جرى. يومها دخل رهطٌ من الأصوليين الإسلاميين إلى منطقة التباريس بحثا عن السفارة الدانماركية للاحتجاج على الاساءة للرسول من خلال رسوم كاريكاتورية نُشرت في الدولة الاسكندنافية، وأفرغوا جام غضبهم على احياء المنطقة ومحالها التجارية وابنيتها، ليبدأ الترويج الطائفي والمذهبي بأن السنّة هم المسؤولون عما حصل.

في السادس من شباط/فبراير 2006، فاجأ حزب الله والتيار الوطني الحر الجميع بتوقيع إتفاق التفاهم في مار مخايل بحضور السيد نصرالله والعماد ميشال عون. أثبت حزب الله قدرته على الاستفادة من أخطاء الآخرين أكثر من كونه صانعاً لسياسات، واستطاع آنذاك ان “يستثمر” في التيار العوني غطاءً مسيحياً في معرض تصحيح التوازنات الداخلية التي إختلت بفعل الخروج السوري. سرعان ما شكّل التيار البرتقالي غطاء داخلياً لحزب الله في “حرب تموز” 2006، وهي لحظة سياسية حوّلت حزب الله وزعيمه “الى تكتل سياسي يتمتع بشعبية عربية كبيرة”، على ما لاحظ السفير نواف سلام، وكان يومها كاتباً سياسياً.

بعد “حرب تموز”، إرتدّ حزب الله إلى الداخل اللبناني المثخن بالجراح، وكان لا بد من تلمس مسار صعب بدأ التأسيس له في خضم حرب الثلاثة وثلاثين يوما، عندما سّربت وكالة الصحافة الفرنسية أول خبر يتحدث عن تورط حزب الله في جريمة إغتيال رفيق الحريري. في سياق هذا المسار، تم إستخدام المحكمة الدولية، غداة حرب تموز، ضد حزب الله. لذلك، لم يكن مفاجئاً رؤية الواقع اللبناني يشهد حالة من التفسخ والإنقسام بدأت نذرها مع إستقالة الوزراء الشيعة (ومعهم الأرثوذكسي يعقوب الصراف) من حكومة فؤاد السنيورة في نهاية 2006. وللمرة الأولى منذ تأسيسه في العام 1982، وجد حزب الله نفسه منخرطاً في الداخل اللبناني حتى أذنيه، بعدما أصبح الجنوب مقيداً بمفاعيل القرار الدولي الرقم 1701، فكان النزول مجدداً إلى الشارع وإحتلال وسط بيروت ومحاصرة السراي الكبير.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  الشيعية السياسية: قلق التاريخ وأهوال الهوية (1)