ما بلغته “الشيعية السياسية” حالياً كان ممره الدم. أو قُل “الثورة”. ذلك أن مؤسسها الإمام المُغيب السيد موسى الصدر دعا إخوته الشيعة إلى البقاء في وضعية ثورية. خاطبهم بجلاء لا غبار عليه. قال لهم إنهم ثوار، وأنهم كـ”موج البحر متى توقفتم إنتهيتم”. هكذا كان الصدر أول من “عَسكر” الشيعة كطائفة. حتماً لم يكن الشيعة من قبله رُسل سلام. بل على العكس، إنغمسوا حتى الرأس في تشكيلات وقوى عسكرية. تاريخهم العسكري بدأ مع اليسار مذ إستولت إسرائيل على سهل الحولة، في أواخر أربعينيات القرن الماضي، إثر سقوط فلسطين تحت الاحتلال الصهيوني.
المفارقة أن الشيعة إلتحفوا رداء الثورة الفلسطينية، حتى قبل أن يُثوّرهم السيد موسى الصدر. شكلوا عصب قوى اليسار، من شيوعيين وبعثيين وقومييين وناصريين. حماسة كانت تعبّر عن حيوية سياسية ثورية. سقط لهم شهداء في المقاومة بينهم البعثي الأخضر العربي (أمين سعد) في العام 1969 في بيادر شبعا. الشيوعي إبراهيم جابر في السنة نفسها في غور الأدرن. الشيوعي علي أيوب في كروم الزيتون في عيناثا في العام 1972. يسري ذلك أيضاً على بدايات الحرب الأهلية. من يراجع الكرّاسات التي تؤرخ لمن سقطوا “دفاعاً عن وحدة لبنان وعروبته وتطوره الديموقراطي”، سيجد مئات الشهداء الشيوعيين والبعثيين والناصريين والقوميين من منابت يسارية شيعية، عدا عن الذين سقطوا في صفوف التنظيمات الفلسطينية.
مع اليسار اللبناني، لم نكن أمام تحشيد طائفي. الطائفة الأكثر حرماناً قدّمت خيرة شبابها وقوداً لـ”الثورة” والتغيير. تطور سردية “الشيعية السياسية” برمتها وما إنتهت عليه راهناً مع “الثنائي الشيعي” يشي أنهم كانوا يبحثون عن قوة أو قوى تنتشلهم من حرمان عصف بهم جراء نقص دولتي بإزائهم منذ قيام لبنان أولاً.. ومنذ اعلان استقلال الكيان ثانياً. لقد بدا في مطلع ثمانينيات القرن الماضي أن “الحيوية المُدعاة” ما هي إلا مخاض ما قبل ولادة الإطار الطائفي الذي سيُقاتل في كل الاتجاهات دفاعاً عن “الأهل” و”العصبية المذهبية”.
وجد الشيعة في الإهمال التنموي مبرراً ليكونوا مع الدولة وضدها. وقفوا الى جانب الشهابية بمبالغةٍ لم تجد ما يوازيها عند المسيحيين. وانخرطوا في اليسار بكل مسمياته على الضد من “الدولة البرجوازية الرأسمالية”. ومن ارتبك أو أُربك في خياراته، ذهب إلى المنظمات الفلسطينية مستظلاً “القضية الفلسطينية” ومشروعيتها “الثورية” في العمل من الجنوب من أجل تحرير فلسطين. الانتساب لـ”العامل الفدائي الفلسطيني” كانت له تبريراته العاطفية لجهة الصلة بين جبل عامل وفلسطين واعتبار الشمال الفلسطيني امتداداً حيوياً للشيعة وتجارتهم..
هذان العنصران “القتال” و”العاطفة” مع الفلسطينيين لن يمنعا لاحقاً جزءًا من الشيعة، من تأييد “حرب المخيمات” (1985 ـ 1988) والتي خلفت جرحاً غائراً بين الاثنين. لكن هذا الجرح كان يعبّر ـ بالوعي وعكسه ـ عن تقاطع عاطفي طائفي مسيحي ـ شيعي (مُعززاً بدعم سوري) بوجه الغلبة الديموغرافية في لبنان.
“الشيعية السياسية” ستواجه عطباً موضعياً في حركة سيرها وصعودها، مع اختطاف الإمام موسى الصدر، ربما تعبيراً عن “إرادة عربية ما” نفذها نظام الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي
صعود “الشيعية السياسية” الذي مثله الإمام موسى الصدر كان خليطاً من شأنين: تنموي وحربي. التنموي حمل صراخاً من بعلبك والهرمل المتروكتين لله ولتجارة المخدرات ولغياب كلي للدولة. والتنموي نفسه حمل وجعاً مُزمناً للجنوبيين الذين توزعوا بين مزارعي تبغ، وعمال “عتالة” على البور أو في بلدية بيروت (عمال نظافة)، ناهيك عن ماسحي أحذية.
اما العامل الحربي، فراحت تغذيه “حرارة” القضايا المطروحة آنذاك. ومن مفارقات ذاك الزمن أن “البعث العراقي” سيضم وزناً شيعياً ثقيلاً في صفوفه مقابل “حزب الدعوة” الذي ذوى معظمه ليتوزع بين حركة أمل وحزب الله. وما جعل “العنصر الحربي” مقرراً في الشأن السياسي والتنموي، هما الشعاران اللذان نادى بهما قائد حركة أمل حينذاك. الأول، وحرفيته “السلاح زينة الرجال”. أما الآخر، فكان حاسماً بوجه النظام والإجتماع اللبنانيين وجاء فيه حرفياً أيضاً “لن نقبل أن يبتسم لبنان ويبقى جنوبه متألماً”. فكان ذلك يعني أن “الظلم في السوية عدلٌ في الرعية”. ووضع لبنان كله مقابل الجنوب… كل الجهات هي الجنوب، حسب الشعار التاريخي للمجلس الثقافي للبنان الجنوبي.
الشعار الثاني وما انطوى عليه من ذكاء عاطفي ـ إذا صح التعبير ـ كان إيذاناً بانطلاق صافرة قطار “الشيعية السياسية”. فالقوى المسلحة الكثيرة العدد والاسماء في الجنوب كانت تتعامل مع واقع الجنوبيين، وهم في غالبيتهم شيعة، من منظار وطني يرى إلى البلد ككل معضلة سياسية بنيوية. أما الإعلان عن “أفواج المقاومة اللبنانية” (أمل) وإن نادى بدخول الجيش الى مناطق التماس مع العدو الإسرائيلي حتى تتحمل مسؤوليتها في الدفاع عن القرى الأمامية، فقد كان يعرف كما كل اللبنانيين أن الجيش قاصر عن هكذا مهمة في ظل إرادة عربية بجعل الجنوب حيزاً لوقود الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وكان يعرف أن أمن كيان العدو الصهيوني هو “أمن دولي” بكل المعايير وممنوع تهديده!
هذا الإعلان سيكتسب مضامين سياسية تحدد موقع الشيعة كطائفة بإزاء ذاتها. كما بإزاء الآخرين. ذلك أنها ستقطع مع الإقطاع الشيعي حليف المارونية السياسية وأبرز تجلياته الأسعدية بشخص رئيس مجلس النواب حينها كامل الأسعد. كما سيتموضع داخلياً في علاقته مع اليسار بمسمياته الكثيرة من الناصرية إلى الماركسية وما بينهما من اتجاهات قومية عربية.
وعلى الرغم من هذين القطع والتموضع، إلا أن “الشيعية السياسية” ستواجه عطباً موضعياً في حركة سيرها وصعودها، مع اختطاف الإمام موسى الصدر، ربما تعبيراً عن “إرادة عربية ما” نفذها نظام الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي. وفي الزمن الفاصل بين الاختطاف عام 1978 وبين الاجتياح الإسرائلي للبنان عام 1982، كان أن إزداد وضع الجنوب تردياً، فقد اصبح مسرحاً للعمليات العسكرية بين “القوات المشتركة” (الفلسطينية ـ اللبنانية) وبين إسرائيل.. وبين “القوات المشتركة” التي كانت منقسمة على نفسها ويشهد على ذلك ما شهدته عشرات القرى والمدن من “إقتتال الأخوة”، عشية إجتياحي العامين 1978 و1982.
غداة تغييب الصدر، إنتصرت الثورة الخمينية في إيران. صرنا أمام نقاش غير مسبوق عن ارتباط شيعة لبنان بشيعة إيران. نقاش كان له ما يبرره في سيرة الصدر نفسه. فالرجل وان عكس فكراً شيعياً سياسياً، أولويته الدولة العادلة، فَعّل رابطة الانتماء بين أبناء طائفته، وأنشأ مدارس وجمعيات ومؤسسات على غرار ما عند الطوائف الأخرى، إلا أنه بقي رجل الدين الشيعي القادم من إيران على الرغم من كونه “جنوبي لبناني” أو “عاملي” وابن السيد صدر الدين الصدر. وما زاد من وطأة “إيرانيته” عاملان: الأول، ان معظم دراسته الحوزوية كانت في قم وجاء إلى لبنان موفداً وممثلاً لآية الله حسين البروجردي ولآية الله السيد محسن الحكيم، والثانية، أنه أنشأ المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ولم يتصدر رئاسته إلا بعد عامين لأنه لم يكن قد حاز بعد على الجنسية اللبنانية.
الثابت في الشكل أن السيد موسى الصدر عمل جاهداً على ربط شيعة لبنان بلبنان. وكان متناغماً مع الشهابية من موقع شيعي خالص معتبراً أن “الطوائف نعمة لكن الطائفية نقمة”
وعلى الرغم من تغييب الصدر، إلا أن حركة أمل التي كُشف عنها غداة خطأ تدريبي عسكري في بعلبك، في العام 1975، وذهب ضحيته أكثر من 35 شاباً شهيداً، واصلت “نموها البطيء”. لكنه نمو سار بشكل “حثيث” من جراء تصادم يومي حيناً مع المنظمات الفلسطينية، وأحياناً من المكاسرة الحادة مع حزب البعث العراقي، وهذا بالضبط ما راح يُفعل “حرارة” الانحياز والانتماء إلى جسد الطائفة السياسي. جرى ذلك بينما كان التطاحن الإيراني ـ العراقي بالخليج في أوجه. وإزدادت حرارة “الأهل” بالانتساب والإنحياز إلى الجسد الشيعي العسكري والسياسي (أمل) مع تسلم رئيس مجلس النواب الحالي نبيه بري قيادة الحركة آنذاك، خلفاً لرئيس مجلس النواب السابق حسين الحسيني. فقد حاز بري الاعجاب المتزايد داخل طائفته وحتى عند الآخرين لما تمتع به من “كاريزما” وذكاء سياسيين.
“ثورية” الشيعة والميل الحاد لـ”عسكرة” الطائفة منذ الوجود الفلسطيني المُسلح حتى حزب الله راهناً، وما بينهما من اليسار العلماني والمُلحد إلى أمل الحركة الإيمانية ستبقى محل سؤال مفتوح على تنويعات كثيرة في مفاهيم الدولة والانتماء اللبناني العام. وستبقى نوعاً من استعصاء سياسي. ذلك أنها بررت لذاتها هذا الميل بالانتصار للقضية الفلسطينية. وثورةً على غياب الدولة. واندماجاً مع ماركسية ـ غيفارية ترفض السكون طالما هناك “عالمٌ” يضج فوق صدور الفقراء. واستجابة لعروبة ناصرية وبعثية ضد استعمار هيولي.
طبعاً لم تكن هذه الثورية على ايقاع واحد. ولا على الأدوات ذاتها. وتيرتها إختلفت من حقبة إلى أخرى. كذلك تحالفاتها الداخلية والخارجية. وهي ستبقى كذلك طالما لا أفق مرئياً لعودة حزب الله إلى الداخل وايجاد تسوية لسلاحه صاحب الأدوار والمؤثرات الإقليمية..
الثابت في الشكل أن السيد موسى الصدر عمل جاهداً على ربط شيعة لبنان بلبنان. وكان متناغماً مع الشهابية من موقع شيعي خالص معتبراً أن “الطوائف نعمة لكن الطائفية نقمة”. وأمعن مديحاً بالصيغة اللبنانية التي دفنها الرئيس بشير الجميل، لكن من دون أن يسميها، حيث أطلق مقولته الشهيرة عن أن لبنان كطائر “لا يُحلق إلا بجناحيه المسيحي والمسلم”.
صحيح أن “الشيعية السياسية” ليست سياقاً واحداً لا في تشكلها، ولا في مسيرها وسيرها. لكن الأصح أن هذا الإطار على تنويعات مسمياته، وعلى امتداد سنواته منذ البدء مع الإمام الصدر، ارتبط بخارج ما. وهذا لا يرمي إلى الإدانة أو المحاكمة، ولا حتى التبرئة، بقدر ما يروم إلى اثبات ان هذه الطائفة على مثال غيرها من الطوائف قد استنجدت أو ربطت أو دُعمت من مددٍ خارجي. وهذا المدد كان حيناً سورياً، وأحياناً إيرانياً. وحال كهذا جعل لبنان، وعلى الدوام، يفتقد إجماعاً وطنياً بدونه لا معنى للحديث عن دولة لبنانية مركزية قوية ومستقلة. فالجميع له مددٌ خارجي. وهذا هو التاريخ المشترك بين اللبنانيين بكل طوائفهم ومع كل تقلباتها.. وتقلباتهم!
وعلى مثال غيرها من الطوائف، شهدت سيرة “الشيعية السياسية” تقلبا بالتراتبيات. كانت حركة أمل أولاً، وثمة محطات فارقة في سجلها السياسي، أبرزها 6 شباط/فبراير 1984، ثم ما لبثت أن حلت ثانيةً بعد حزب الله. التبدل في التراتبية ممره الإلزامي حرب بين “الإخوة” أو “حرب إقليم التفاح” في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي. حرب عكست فصلا حاسماً من فصول الصراع الإيراني ـ السوري على الإمساك بورقة جبهة الصراع اللبناني ـ الإسرائيلي. وقتذاك، كانت مجلة “العواصف” الناطقة بإسم الحركة تُكثر من صور أسلحة تقول أن قواتها صادرتها ومذيلة بكتابات فارسية، وذلك لبرهنة عروبة (سورية بالدرجة الأولى) كان يخفت وهجها تدريجياً، وأساساً ما عادت تملك ملاءة سياسية في أوساط أجيال شيعية راحت تنجذب إلى “حزب المستضعفين” لجاذبيته العسكرية في المنازلات التي خاضها ضد الاحتلال الإسرائيلي أولاً، ولتعففه عن مغانم النظام ثانياً.
جاء إتفاق الطائف وأنهى ليس فقط صراعاً سياسياً طائفياً دام 15 سنة بعنوان الصلاحيات، بل أنهى كل ما نبت حولة من صراعات فرعية. أنهى حرب الإلغاء بين القوات اللبنانية وميشال عون. أنهى حرب الأخوة بين حزب الله وأمل. أنهى حرب المخيمات.
أقفل الطائف صفحات وفتح صفحات بالمقابل. تدريجياً، ستصبح حركة أمل متخصصة بتحصيل ما تعتقده حقوقاً للطائفة على الدولة مقابل الطوائف الأخرى، وبرعاية خاصة من النظام السوري وبحضور مباشر لرئيسها نبيه بري على رأس المؤسسة التشريعية. أما حزب الله فسيدخل النظام على مضضٍ. وسيتابع الحزب ذو الولاء العقائدي الخامنئي معركةً قدم فيها سيلاً من الشهداء والدم حتى بلغ التحرير عام 2000 وتربع شعبياً على عرش “الشيعية السياسية”.. وما يزال.
(*)الحلقة الأولى، قلق التاريخ وأهوال الهوية:
https://180post.com/archives/11161
(*)الحلقة الثانية، الخميني وصدّام.. كليشيه وأطماع ودم: