الشيعية السياسية: الخميني وصدّام.. كليشيه وأطماع ودم (2)

إذا كان لجردة حسابية مع "الشيعية السياسية" أن تقول أشياء كثيرة في لبنان وأشياء أكثر عن دور حزب الله الممتد من زمن البوسنة والهرسك إلى زمن الحوثيين في اليمن، فإن هذا ذاته جعل "الشيعية السياسية" نفسها تأخذ حيزاً هاماً من الإهتمام عند كثرة من الدول العربية. إهتمام ينهض على خوفٍ منها، إزداد منسوبه بعد سقوط صدام حسين "حارس البوابة الشرقية" للخليج.

في هذه الجولة، وهي الثانية، مع الشيعية السياسية في لبنان، لا بأس من الإضاءة على هلع بعض العرب من “الشيعية الخمينية”. هلع إستولدته نظرية “تصدير الثورة” الإسلامية التي قادها الإمام الخميني في الربع الأخير من القرن العشرين. هلع لا يخفي كراهية مَبْعَثُها يتأتى من مصدرين: الأول تاريخي، وآخر شديد الصلة بالحاضر.

الأول، يغوص في التاريخ الديني ومليء بمكاسرات عن الولاية على الأمة بعد وفاة النبي محمد. الثاني، سببه عدم تقبل أهل السنة المتغيرات الجيوبوليتيكية. رفضوا التكيف بأنهم ما عادوا وحدهم “أهل الأمة”. لم يتقبلوا أنهم ما عادوا “طائفة حكم”. الأصعب عليهم والأكثر إيلاماً كان رؤية صدام حسين قائد “معركة القادسية” ضد إيران يتدلى من على حبل المشنقة، بشراكة أميركية ـ إيرانية.

لا بأس هنا من مصارحة. لن يُغفَر لأولئك العراقيين الذين إستلوا هواتفهم الخلوية يصوّرون لحظة اعدام صدام. هو ديكتاتور وأكثر، لكنهم بصورتهم له في تلك البُرهة، حوّلوه إلى أيقونة. إستدرجهم الأميركي إلى “الصورة”.. وكانوا لها!

يُمكن تقديم مثل على الهلع والكراهية في آن معاً. ثمة واقعة يرويها صحافي عربي كبير ما يزال على قيد الحياة. يقول “إلتقيت مسؤولاً كويتياً كبيراً عند عتبة إتخاذ القرار الأميركي بغزو العراق في العام 2003. قال لي هذا المسؤول “ماذا يمنع، يا أخي (…) إذا طار صدام، أن تأتينا غداً دولة شيعية في العراق. نحن في الكويت لا نحمل هكذا دولة جارة لنا”!

عندما يصدر الكلام عن لسان مسؤول كويتي قاسى شعبه الأمرين جراء قرار صدام حسين بغزو الكويت في العام 1990، فهذا يعني أن الحدود الفاصلة لم تعد وطنية أو قومية بل من طبيعة مذهبية بحتة!

نعم، مشهد صدام حسين، في صبيحة عيد الأضحى من العام 2006، كان صاعقاً ومدوياً. فالرجل الذي انتشى حتى الثمالة وهو يستمع للخميني قبوله بتجرع “كأس السم” لوقف الحرب الإيرانية ـ العراقية، ستنطبع صورته في العقل المذهبي عند الشيعة والسُنة، لتقدم الغرائز على كل ما عداها. عند السُنة، مات من وقف سداً منيعاً بوجه الخميني وكابد الأخير مشقة الإعتراف بخسارة حرب “القادسية” المُتجددة من غير مُبرر. أما عند الشيعة، فقد كانت الصورة إعلاناً فاقعاً عن أن زمناً جديداً قد بدأ وشعاره مبتدأ “المظلومية الشيعية” وخبرُه: “يا لثارات الحسين”!

الشطر الثاني من الإسلام السياسي

لقد أصلى صدام حسين إيران الخمينية حرباً لا هوادة فيها. طموحه كان بحر العرب. رافعات حربه نهضت على شيء من “قومية عربية” وعلى شيء من “علمانية”، غير أن “القومية” و”العلمانية” كانتا قناعاً لحرب أرادها الرئيس العراقي وحزبه البعثي ضد إيران “الخمينية والفارسية والشيعية”. وطأة التاريخ والجغرافيا محرك للحرب وما بعدها من انسحاب إلى الداخل العراقي. هذا الأثر سيتجلى في العام 2003 مع الغزو الاميركي لبغداد واقتلاع تمثال صدام وجرّه في الشوارع، في سياق مشهد هوليودي شحن الغرائز زوداً على ما فيها من أحقاد.

كان يمكن أيضاً لإيران أن تتصالح مع العراق، لا أن تُهيمن عليه. أن تتصالح مع كل مكوناته وأولهم جمهور السنة والأكراد، وهذه الفرصة ما زالت متاحة حتى يومنا هذا، لكنها إختارت مسالك أخرى

كان يمكن لهذه الشعارات أن تكون أقل وطأة وتأثيراً، لو أن إيران الخمينية، ومن موقعها الأوراسي نجحت في بناء منظومة قوية وعلانية مع “حاكمية الإسلام” عند تنظيم “الإخوان المسلمين” في العالمين العربي والإسلامي. لقد كانت تريد مثل هكذا علاقة لتحصين داخلها من زحف انماط ليبرالية وعلمانية. لكن تبين لها لاحقاً أن الهوة مع الشطر الثاني من الإسلام السياسي عميقة مذهبياً، والأمثلة في هذا الصدد كانت جلية في سوريا مع حركة “حماس” التي جعلت من مخيم اليرموك جرحاً كبيراً في جسد النظام وصولاً إلى العلاقة مع تركيا رجب طيب أردوغان والتي لم تعرف بعد مقراً أو مستقراً، ناهيك عن واقعة يرويها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عندما تمنى على قيادة “حماس” حذف بعض المناهج التي تدرس في الجامعة الإسلامية في غزة، لما تتضمنه من مضمون مذهبي مزور غير أن شيئاً من هذا القبيل لم يحصل!

كان يمكن أيضاً لإيران أن تتصالح مع العراق، لا أن تُهيمن عليه. أن تتصالح مع كل مكوناته وأولهم جمهور السنة والأكراد، وهذه الفرصة ما زالت متاحة حتى يومنا هذا، لكنها إختارت مسالك أخرى.

مسألة واحدة قرّبت بين عالمي الشيعة والسُنة. هما الفقهان الشيعي والسني. الأول، تحدث عن ولاية الفقيه المطلقة. الثاني، كان يُوًكد على مفهوم الخليفة لإقامة العدل. التقارب النظري بين الإثنين لم يترجم عملياً إلا توتراً. هذا ظهر واضحاً مع دعوة الإمام الخميني إلى تسيير تظاهرة في اليوم الأخير من الحج، بعنوان إعلان البرءاة من المشركين. لكن الرد السعودي كان سريعاً برفض وفض هذه المسيرة. فانتقل قائد الثورة الإيرانية إلى المربع الثاني مطالباً بـ”إشراف إسلامي مُشترك”. ومجدداً أطلقت الرياض رفضاً جديداً. وذهب الملك فهد بن عبد العزيز بإعلان نفسه “خادماً للحرمين الشريفين”.

كان هذا يجري على وقع الحرب الإيرانية ـ العراقية. أمام هذا الواقع، سحب الخميني من صدام حسين “كليشيه” الصراع مع إسرائيل، داعياً الى اعتبار يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان هو “يوم القدس العالمي”. إنتزع قائد ثورة إيران العلم الفلسطيني من أيدي كل قادة وزعماء العرب. هذه الخطوة أعطته وبلاده دفعاً جديداً في العالم الإسلامي عموماً. فقد كان قائد الثورة الايرانية قد انشأ دولة دينية إنما على أساس ما قدّمته الحضارة الغربية، من تقاليد لجهة رئاسة الجمهورية، البرلمان، الحكومة، إشراك المرأة…. بينما كانت غالبية النظم العربية تقوم على حكم الأُسرة والتوارث، خؤولةً وعمومةً.

شكوى.. وجهل 

أمام هذا الانشداد والتوتر، إنكفأ العالمان السٌني والشيعي للبناء على ذواتهما. فجأة ظهر شيعة افغانستان، فالباكستان. الشكوى الشيعية من الحرمان راحت تزداد في شرقي السعودية. وكذلك بالبحرين. وفي الاثناء بالعراق. قابل ذلك شكوى من عرب الأحواز السنة مع مطالبة بالانفصال والحكم الذاتي.

من كبريات الأخطاء الإسلامية السٌنية واستطراداً العربية، وهي كثيرة، كانت في التعامل مع الشيعة على أنهم جميعهم فرس أو إيرانيون أو صفويون. صاروا ينادون الشيعة بأنهم مجوسيون. كانوا بذلك يردونهم إلى الأصل الفارسي. الاستثناء على ذلك قليل ونادر جداً. وإذا حصل شيء من هذا القبيل فكان من باب “المُهادنة”. كل التعاملات السياسية العربية والاسلامية الأخيرة تقول ذلك بوضوح لا لبس فيه أو عليه. هذا التعامل إنطوى على خطأ شائع ولم يكن له أصل حتى وقت قريب. كان ينم عن جهل سياسي ـ اجتماعي بالواقع الشيعي. وعن جهل بالفروقات بين “الانتظار” السلبي لظهور المهدي، وبين “الانتظار” الايجابي المطلوب منه تثوير المجتمعات وعسكرتها تمهيداً لإقامة الدولة العادلة.

هكذا فعل السيستاني عندما انبرى شخصياً مستعملاً ثقله المرجعي في كبح جماعات شيعية خرجت للتصدي للقوات الاميركية في العراق في العام 2003. يومها خاف أن ينتهي شيعة العراق بخطأ مماثل للعام 1920

الجهل صار أعمق عندما تم القفز بين فوارق المرجعية العراقية ونظيرتها الإيرانية. الأولى، ترفض فكرة “الولاية” وتقول بأنها شأن من شؤون الأئمة المعصومين. أما الثانية، فقد اقامت ونادت بولاية الفقيه المطلقة. الخلاف بين الاثنتين كان واضحاً في زمن الخميني بايران، والإمام أبو القاسم الخوئي بالعراق. فارق الاجتهاد في المذهب الواحد راح يذوي مع ارتفاع وتيرة الاحتقان المذهبي الشيعي ـ السُني. كاد أن يختفي لولا إطلالات ضعيفة ما زالت تظهر من العراق. لكنها إطلالات باهتة. مكتومة بفعل صراع شيعي على السلطة وخير من يحسن استغلاله هم الإيرانيون والأميركيون، وكُلٌ بحسب أجندته. لكن كلما تصاعدت مفاعيل الجهل وتم التعامل مع الشيعة على أنهم إيرانيون، كانت بعض الكيانات تحاكي الجمهورية الإسلامية في آليات العمل. هكذا فعل السيستاني عندما انبرى شخصياً مستعملاً ثقله المرجعي في كبح جماعات شيعية خرجت للتصدي للقوات الاميركية في العراق في العام 2003. يومها خاف أن ينتهي شيعة العراق بخطأ مماثل للعام 1920. حين ثار شيعة العراق ضد الاحتلال البريطاني فكانت النتيجة اقصاؤهم عن السلطة.. وهذا ما سيندمون عليه كثيراً.

إقرأ على موقع 180  حزب الله وإسرائيل: ذروة "فن الحروب" في صراع العقول

“الإيرانيون كانوا يرومون هلالاً شيعياً” على ما كشف ملك الأردن في حديث لصحيفة “الواشنطن بوست” عام 2004 عندما كان في زيارة إلى واشنطن. الإعلان أطلق غضباً خصوصاً أنه جاء معطوفاُ على مخاوف جدية حددها بوضوح الملك الهاشمي. يومها، ذهب بعيداً في التحذير من هكذا هلال عندما تخوف من وصول حكومة عراقية تتعاون مع ثنائي طهران ودمشق، وفي ظل وزن شيعي بلبنان لا يمكن القفز فوقه بأي حالٍ من الأحوال. لكن كان استدراك ما حصل ضرباً من المستحيل. فقد كانت الوقائع الصلبة تشكلت. والصعود المتقطع لـ”الشيعية السياسية” صار أميل للوصل، بينما بقي سياق التاريخ مأزوماً ومتداخلاً. وما عادت سلاسة اللغة العربية وكليشيهات “الوحدة الاسلامية” قادرة على معالجة اضطراب عمره 1400 سنة.

ما بين العراق ولبنان

لقد بدا أن إيران الخمينية ليست محكومة بالأيديولوجية فقط. ذلك أنها اتسمت ببراغماتية عالية. حيناً بذريعة الحماية من “الغرب الكافر” كما حصل في العلاقة مع أرمينيا بمواجهة آذربيجان الشيعية. وأحياناً لحماية مشروع جيوستراتيجي يمتد من غزة إلى صنعاء. مع مشاركات حربية في البوسنة والهرسك. وحتى في نيجيريا ضد منظمة بوكو حرام، ناهيك عن ضربات أمنية هزت العالم واتهمت بها إيران وذراعها الأقوى حزب الله اللبناني. وهذا المنطق نفسه سيتبدل في التحالف مع “رأس الغرب الكافر” أي الولايات المتحدة، ليصنع الإثنان حلفاً غير معلن رسمياً بمواجهة “الإسلام الجهادي” في أفغانستان. لقد نجحت إيران بايجاد حيز للتشابك مع الغرب والاميركيين، من دون أن تسقط إمكان الاشتباك، ولو على نطاق ضيق ومحدد بالمكان والزمان. وهذا ما حصل على وجه التحديد في اغتيال الجنرال قاسم سليماني، إذ راحت واشنطن تبحث عن أسانيد دولية لهذا الاغتيال.. والمفارقة أن إيران برّرت ردها أيضاً بالمعايير الدولية.

ما يستحق الوقوف عنده كثيراً هو سبب إهمال الانظمة العربية للفوارق في تجربة الاسلام السياسي الشيعي. وهي فوارق شاسعة وكبيرة. في العراق، كانت معارضة المرجعية لمسألة الانخراط السياسي حادة في التمييز بين ما هو ديني وبين ما هو سياسوي. هذه الحالة هي التي صدعت “حزب الدعوة” بما شكله من تعبير شيعي سياسي في خمسينيات القرن الماضي. ذلك انه وبعد اغتيال مؤسسه محمد باقر الصدر تشظى وصار على مثل ومثال العصبيات القبلية العراقية التي تزداد تنافراً جراء المصالح الشخصية. وهذه الحال ستأخذ من إيران وقادتها جهوداً مديدة منذ سقوط صدام حسين. إلا أن النجاح في تغيير الحال إلى ما هو أفضل بقي أدنى من الأماني.  وعلى الملاءة الدينية والسياسية التي تحوزها إيران، فإن الأخيرة ستبقى تتعثر بالعراق. حيناً بسبب الخروقات الاميركية، وأحياناً أكثر بسبب النزاعات الشيعية ـ الشيعية.

أما في لبنان، فسيبقى حزب الله الوجه الأكثر وضوحاً للشيعية السياسية الإيرانية في العالمين العربي والإسلامي. وهو كذلك بفعل ما صنعه في المطاحنة مع إسرائيل… كل ذلك، لا يعني القفز فوق ما ينبغي التوقف عنده في ما خص حزب الله الذي أعلن ولادته الرسمية في رسالته الأولى عام 1985. هذا الحزب بدأ وجوده الفكري والتنظيمي عام 1982 مندفعاً بتأثير إيراني مباشر. لكنه لم يُفلح دوماً بتجاوز الوقائع اللبنانية الصعبة، والتي تجعل من فكرة الدولة الإسلامية استحالة مُطلقة، وان بقيت حاضرة على مستوى الفكر السياسي. المفارقة في سيرة هذا الحزب انه اكتسب شعبيته وشرعيته من طريق العمل المسلح ضد إسرائيل.. هكذا راح حزب الله يصنع تاريخاً من الانتصارات بدأه بإذلال جنود “المارينز” في بيروت في العام 1983 وختمه بتحرير الجنوب في العام 2000. أما في الداخل اللبناني، فلم يعد للحزب من مشروع.. إلا أن يكون مثله، مثل غيره من أحزاب السلطة، بسجل عدليٍ نظيف، حتى الآن، من مفاسد السلطة.

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  حالةُ غيابٍ عربي أم تروٍِ وتقريرُ مصير؟