ماكرون ونصرالله: تحالف رباعي جديد؟

ثلاثة أيام مضت على "النكبة". مأساة مقيمة في كل بيت بيروتي. في كل مؤسسة. في كل زاوية. جروح أعمق من أن تلتئم بسرعة. تحتاج إلى سنوات. هذا حدث تأسيسي بكل معنى الكلمة. علينا أن نقر ونعترف أن لبنان الذي عرفناه منذ مئة سنة قد إنتهى وأن الوطن الآتي هو قيد التأسيس والتفكير.

منذ “الثلاثاء الأسود” أو “11 سبتمبر اللبناني”، كرت سبحة التطورات في لبنان.

دعونا نعود 16 سنة إلى الوراء. إلى العام 2004. إلى لحظة صدور القرار الدولي الرقم 1559. الرياح الدولية لاحت تباشيرها من بعد لقاء الرئيسين الأميركي جورج بوش والفرنسي جاك شيراك في حزيران/يونيو 2004 في النورماندي الفرنسية لمناسبة الذكرى الستين لإنزال قوات الحلفاء عند السواحل الفرنسية إبان الحرب العالمية الثانية. في هذا اللقاء، إرتسمت ملامح “الطبخة”. لم يعد لبنان على خط الزلازل، كما هو حاله منذ الإحتلال الأميركي للعراق. صار في قلب الزلزال. ردّت سوريا، القابضة على أمر لبنان وأنفاسه منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، بأن قررت التمديد لإميل لحود رئيساً للجمهورية. أعطت الإشارة للقاء عين التينة الذي لم يُهمل حزباً أو شخصية من حلفاء سوريا (إنقلب عدد منهم لاحقاً عليها)، وذلك تحت مظلة رئيس مجلس النواب نبيه بري.

وقتذاك، كان حزب الله في عز صعوده، بعد سنوات على التحرير وما إكتسبه من عطف لبناني وعربي وإسلامي. لم تكن روسيا لتُغير شيئاً في المشهد الدولي. إكتفى سفيرها الآتي حديثاً إلى بيروت (الراحل سيرغيه بوكين) بالتحذير من حريق لبناني كبير في ظل موجة التدويل الزاحفة. ولدت حكومة عمر كرامي، بعدما دُفع رفيق الحريري إلى تقديم إستقالته. إنخرط الجميع في لعبة تجميع الأوراق. بدا الفريق السياسي المناهض لسوريا مشدوداً إلى الإنتخابات النيابية. القانون الإنتخابي وتقسيماته. اللوائح والتحالفات و”الودائع”.

قرر حزب الله في العام 2005 أن يحني رأسه للعاصفة، لا سيما بعد أن قررت سوريا الإنسحاب نهائياً من لبنان. إتخذت الحماية الموعودة شكل “تحالف رباعي”

في 14 شباط/فبراير 2005، سقط رفيق الحريري شهيداً. تفجرت حمم البركان اللبناني. كانت عبارة “شكراً سوريا” ولّادة “14 آذار”. سقطت حكومة كرامي في الشارع. سقط التحقيق المحلي ثم العربي. لا بد من تحقيق دولي. للمرة الأولى منذ وصول رفيق الحريري إلى السلطة في العام 1992، يأتي رئيس للحكومة (نجيب ميقاتي) في لبنان بإرادة دولية وإقليمية (فرنسية ـ سورية ـ سعودية وبدور جزائري لم يكشف النقاب عن تفاصيله حتى الآن). قرر حزب الله أن يحني رأسه للعاصفة، لا سيما بعد أن قررت سوريا الإنسحاب نهائياً من لبنان. إتخذت الحماية الموعودة شكل “تحالف رباعي” (“الثنائي الشيعي” أمل وحزب الله وتيار المستقبل والحزب التقدمي الإشتراكي والقوات اللبنانية). إنعقدت الأكثرية لفريق 14 آذار، لكن ممهورة بختم السيد حسن نصرالله الذي رفع شعار بشير الجميل (10452كلم2) في أثناء إعلان لائحة بعبدا ونواتها تحالف حزب الله والقوات اللبنانية في مواجهة ميشال عون. كل صمامات الأمان التي حاول حزب الله صياغتها تبخرت كلياً، من خلال ماكينة القتل التي كانت تستولد وقائع سياسية جديدة، أخطرها وضع لبنان على سكة التدويل (المحكمة الدولية). مسار دموي صعب أفضى إلى ما سيصدر عن المحكمة الخاصة من أحكام في غضون أيام قليلة.

منذ ذلك الزمن، تغيرت وقائع لبنانية كثيرة، لعل أخطرها هذه المرة الواقع الإقتصادي والمالي. سقوط النموذج الذي قام عليه “لبنان الكبير”: المصارف والترانزيت (مرفأ بيروت). هذا النموذج كان يعيش على المقويات والهندسات إلى أن أتت لحظة إنتفاضة 17 تشرين/أكتوبر 2019.

سقطت حكومة سعد الحريري وسقطت معها التسوية الرئاسية ووجد حزب الله نفسه وحيداً في مواجهة إستحقاقات داخلية إستثنائية. هو من قرر أن يكون ميشال عون رئيساً للجمهورية، وهو من يملك الأكثرية النيابية ويقرر هوية رئيس الحكومة، أكان إسمه سعد الحريري أم حسان دياب. هو الآمر والناهي، فكيف يجب أن يتصرف؟

إستحكم الحصار الدولي بلبنان. تقاطع مع أزمة إقتصادية ومالية ونقدية بنيوية، أسبابها اللبنانية أكبر من تأثيرات خارجية زادتها تفاقماً. زدْ على ذلك فيروس كورونا، بأكلافه البشرية والإقتصادية والصحية. أداء بليد لحكومة حسان دياب. رئاسة جمهورية معطلة بوهم صناعة رئاسة متجددة من النسل السياسي نفسه. مجلس نواب شبه مقفل. حرب ناعمة تخوضها الولايات المتحدة ضد حزب الله، لا بل ضد لبنان بأسره. لا قروض ولا مساعدات ولا تحويلات. مناخ من إنعدام الثقة بلبنان، لا سيما في ضوء فساد بلغ مستويات قياسية.

برغم كل ما بلغه حزب الله حالياً من نفوذ في معادلات لبنان والإقليم، بدا للبعض كأنه أضعف من لحظة القرار القرار 1559. قبل 16 سنة، كانت أميركا من خلال إحتلالها للعراق دولة جوار لسوريا وضمناً للبنان (الأمن السوري واللبناني كان واحداً). أما السعودية، وبرغم ما أصاب نفوذها في لبنان، قبل إغتيال الحريري وبعده، فقد إتسم سلوك قيادتها بالهدوء والعقلانية ومحاولة إنتاج صياغات سياسية مقبولة للواقع اللبناني (إستقبلت الشيخ نعيم قاسم على رأس وفد من حزب الله في العام 2006). حزب الله المهجوس بمحظور الفتنة السنية الشيعية وإنتقال الفيروس المذهبي من بغداد إلى بيروت، لم يقصّر في حياكة صياغات تجعله يتفادى هذا الكأس المر، غير أن فريقاً لبنانياً وازناً مُدعماً بـ”قناصل” مؤثرين، كان له بالمرصاد محاولاً تغيير الوقائع اللبنانية.

إنتهت تلك الحقبة إلى خيبة 14 آذارية كبيرة. الأميركيون يغدقون الوعود على “ثورة الأرز”، ولا يترجمونها بأية خطوة عملانية. هذا هو لسان وليد جنبلاط، قبل أن يكتشف لاحقاً أن صديقه جيفري فيلتمان كان أحد أبرز المتحمسين في الإدارة الأميركية للإتفاق النووي مع إيران!

حتماً، إستعاد السيد حسن نصرالله هذا الشريط في الأيام الماضية التي أعقبت 11 أيلول/سبتمبر اللبناني (يوم الثلثاء في 4 آب/أغسطس 2020). ومن تابع بعض الإعلام القريب أو التابع لحزب الله، لاحظ خشية من مشروع جديد لتدويل الواقع اللبناني، من خرم إنفجار مرفأ بيروت. لكأن هناك من يريد تكرار سيناريو 2005. متفجرة تصرع رفيق الحريري في وسط العاصمة. تسقط حكومة عمر كرامي. الإنتخابات النيابية الآن (election now). الإمساك بالسلطة.. وصولاً إلى حرب 2006. حصل الإنفجار في المرفأ. أصوات تطالب بسقوط حكومة دياب والعهد. توجيه أصابع الإتهام إلى حزب الله. مطالبة بتحقيق دولي إلخ…

حسان دياب، فهو آخر رئيس حكومة على وجه الكرة الأرضية يمكن أن يقدم إستقالته حتى لو أطل رأسه من على شرفة السراي الكبير ورأى بيروت كلها تحترق

ثمة مفارقات لا بد من التوقف عندها: إميل لحود كان محاصراً ومطعوناً بشرعية التمديد له، سواء بالقرار 1559، أم بمعارضة شريحة لبنانية وازنة على رأسها رفيق الحريري. في المقابل، يعتبر حزب الله أن عون لا يمكن أن تزحزحه كل أعاصير الأرض، برغم التراجع الدراماتيكي القياسي في شعبية “الجنرال”، خصوصاً في شارعه المسيحي، وأبرز دليل على ذلك قراره بعدم تفقد الناس أقله في المناطق المسيحية التي تضررت أكثر من غيرها في العاصمة بيروت.

إقرأ على موقع 180  تقييم الجيش الإسرائيلي للعام 2022: لا تصعيد شمالاً وقلق من غزة

الراحل عمر كرامي هو عمر كرامي. يتخذ قراره وحده. كان بديهيا أن ينفعل ويستقيل من دون أن يراجع أحداً في العام 2005. أما حسان دياب، فهو آخر رئيس حكومة على وجه الكرة الأرضية يمكن أن يقدم إستقالته حتى لو أطل رأسه من على شرفة السراي الكبير ورأى بيروت كلها تحترق. سيبقى هذا الرجل جالساً على الكرسي إلى أن تأتي قوة خارقة أو كائنات فضائية، تعيده إلى دارته في تلة الخياط!

ثم أن حزب الله الذي كان خائفاً وغير مدرب كفاية لمواجهة إستحقاقات الداخل بعد إنسحاب سوريا من لبنان، في العام 2005، هو غيره حزب الله في العام 2020. لذلك، كان لا بد أولاً من إسقاط مشروع التدويل بتوافق “الترويكا” الرئاسية، وبتواطؤ فرنسي مع قوى دولية وإقليمية، تُرجم بطلب رئاسي فرنسي بأن يتمثل حزب الله في لقاء قصر الصنوبر. أراد إيمانويل ماكرون توجيه رسالة إيجابية من خلال رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد بأن قال له أتمنى أن تكونوا إيجابيين في الداخل اللبناني، فأجابه ممثل نصرالله “لطالما كنا إيجابيين، وسنبقى حريصين على الأمن والإستقرار في لبنان”.

هذه التحية الفرنسية رد بمثلها الأمين العام لحزب الله، وهذه النقطة كانت موضع نقاش قيادي، في ضوء بعض الحذر من أن تكون هناك قطبة مخفية في الزيارة ومندرجاتها. لكن السيد نصرالله كان حاسماً  بقوله إننا قررنا أن نتعاطى بإيجابية مع هذه الزيارة. عملياً، يأتي ذلك إستكمالاً للمناخ الفرنسي الرافض لتدويل التحقيق في إنفجار مرفأ بيروت، مع تقديم مساعدة تقنية فرنسية وربما من دول أخرى معظمها أوروبية (حُجزت كل شاليهات النوادي العسكرية في العاصمة لأجل هؤلاء وهم باشروا عملهم على الأرض وسيرسلوا بعض العينات إلى مختبرات أوروبية كما سيسلموا نتائج تحرياتهم وكشفهم الميداني إلى ضباط الجيش اللبناني).

ليس هذا وحسب. عملياً، فك ماكرون الحصار الدولي عن لبنان وفتح نافذة جعلت دولاً عربية وأجنبية كثيرة تقتدي بالخطوة الفرنسية.

نقل الصحافي الفرنسي المخضرم جورج مالبرونو عن ماكرون قوله لقوى “14 اذار” في معرض دفاعه أمامهم عن التدقيق الجنائي أو المحاسبي في مصرف لبنان: “كلكم قبضتم اموالاً. أنتم تعلمون ذلك وأنا اعلمه ايضاً”

ولعل أم المفاجآت في لقاء قصر الصنوبر هي تبني ماكرون خيار حكومة الوحدة الوطنية. أراد أقطاب 14 آذار لحكومة دياب أن تهوي لمصلحة حكومة حيادية، لكن الفرنسيين لا يريدون حكومة لا يتمثل فيها أي حزب لبناني وتحديداً حزب الله، وهذه الرسالة وصلت أيضاً إلى حزب الله، الأمر الذي شكّل عنصر طمأنة إضافية، وعبر عن ذلك أقرب الحلفاء وهو رئيس تيار المردة سليمان فرنجية الذي طلب خلال لقاء قصر الصنوبر من ماكرون أن يرعى إطلاق مبادرة تعيد سعد الحريري على رأس حكومة وحدة وطنية. صبّ الفرنسيون مياهاً باردة جداً على رؤوس “الطامحين” لإستعادة السلطة، وذلك على وقع 11 أيلول/سبتمبر اللبناني.

وكان لافتاً للإنتباه أن رئيس فرنسا لم يكتف بالحث على الإصلاحات، بل هدد بفرض عقوبات على المسؤولين اللبنانيين إذا لم تُنَفّذ الإصلاحات المطلوبة (ليس ضمن مهلة مفتوحة بل خلال أسابيع قليلة)، ونقل عنه الصحافي الفرنسي المخضرم جورج مالبرونو قوله لقوى “14 اذار” في معرض دفاعه أمامهم عن التدقيق الجنائي أو المحاسبي في مصرف لبنان: “كلكم قبضتم اموالاً. أنتم تعلمون ذلك وأنا اعلمه ايضاً”.

هذا العرض يحاول الإجابة على سؤال اللحظة الحالية هل هي أصعب من لحظة 2004ـ 2005؟

أولاً، لا يملك لا حزب الله ولا البلد ولا الناس ترف إستنزاف المزيد من الوقت. أضاعت الحكومة الحالية العديد من الفرص ولا بد من تقديم نموذج جديد. إذا كانت عاجزة، وهذا الإحتمال هو المرجح، بعدما صار رئيسها يشكل عبئاً على مكوناتها، هل يمكن أن يبادر حزب الله إلى التضحية بهذه الحكومة، لمصلحة حكومة وحدة وطنية (التحالف الرباعي الجديد) ما يفسح في المجال أمام تطوير موقف فرنسا وصولاً إلى فك الحصار الدولي عن لبنان؟

ثانياً، قالها نصرالله بوضوح: فليكن التحقيق لبنانياً شفافاً وبأمرة المؤسسة العسكرية وبأوسع وأكبر مساعدة تقنية دولية.

ثالثاً، لا بد من أن يقدّم حزب الله أدلة ملموسة على خطابه الداعي إلى بناء الدولة بوصفه المطلب الجامع للشعب اللبناني، ولعل البداية من رفع الغطاء السياسي عن أي شخص مسؤول عن جريمة مرفأ بيروت أياً كان، سواء أكان محسوبا عليه أم على حلفائه. إمتحان الدولة يمكن النجاح فيه. أما الفشل فيقود إلى أزمة كيان (صيغة)، وهذا الأمر بات يحتاج إلى مقاربة عميقة من جميع الأطراف.

رابعاً، ثمة لحظة إقليمية ودولية مختلفة. هذا ما قاله نصرالله. لم يعد الأميركي حاضرا في المنطقة، كما في العام 2003. لم تنهزم واشنطن لكن يدها ليست مطلقة. يسري ذلك على قوى إقليمية حليفة للأميركيين. إيران محاصرة لكن أذرعتها في الإقليم لم تستسلم.

خامساً، حاذر نصرالله الحديث عن الفرضية الإسرائيلية في الإنفجار. لم ينفها ولكنه لم يثبّتها. أيضاً لم يقارب رد حزب الله العسكري الذي يترقبه الإسرائيليون إنتقاماً لمقتل أحد عناصر الحزب في سوريا. في هذه النقطة، أراد أن يترك الإسرائيلي أسير القلق وحالة التأهب المستمرة على طول الحدود الشمالية، وفي الوقت نفسه، أراد طمأنة الداخل اللبناني ولا سيما العاصمة الجريحة، بأن الفعل العسكري هو فعل إنساني بإمتياز ولا يمكن القفز فوق جروح الناس أو زيادتها.

حتى موعد الإنتخابات الرئاسية الأميركية في 3 تشرين الثاني/نوفمبر، علينا أن نتوقع حالات من الجنون في العديد من الساحات. لذلك، هذا ليس وقت الدعسات الناقصة. وللبحث صلة…

Print Friendly, PDF & Email
حسين أيوب

صحافي لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  هل نصرالله هو الهدف المقبل للاغتيال؟