خلال اجتماع لقياديين من “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة) مع إعلاميين، اعتبرت “الهيئة” أن المناطق الخاضعة لسيطرتها في إدلب وريفها وريف حلب الغربي تعتبر “دولة تحكمها سلطة ومؤسسات سواء اعترف بها أم لا”. وأضافت وفق منصات إعلامية “جهادية” أن هذا الأمر ” يعد نصراً استراتيجياً”، مشيرة إلى أن تقاطع مصالحها مع مصالح جهات أخرى (تركيا من دون ذكرها صراحة) هو “ربح إضافي”، وفق تعبيرها.
التصريحات الجديدة للجماعة “الجهادية” تأتي في وقت تزداد فيه الضغوط على تركيا للوفاء بالتزامتها وفق اتفاقية سوتشي الموقعة في العام 2018 والبروتوكول الملحق بها الموقع في آذار/مارس الماضي، والتي تقضي بفتح وتأمين طريق حلب – اللاذقية (M4) ضمن مهلة محددة لم تلتزم بها أنقرة التي تتابع تعزيز انتشارها في إدلب بشكل مستمر في محاولة لمنع أي تقدم عسكري للجيش السوري بدعم روسي لفتح الطريق بالقوة، ولضمان عدم تسرب الفصائل “الجهادية” إلى أراضيها.
وتنتشر القوات التركية في نحو 70 نقطة مراقبة بعدما قامت خلال الشهرين الماضيين بإنشاء عشر نقاط جديدة أبرزها نقطة في ريف اللاذقية، ونقطة أخرى على تل بين قريتي بليون وأرنبة في جبل الزاوية جنوبي محافظة إدلب على خط التماس مع مواقع الجيش السوري، في خطوة تهدف وفق مصادر معارضة إلى “سد ثغرة قد يستغلها الجيش السوري للالتفاف على الفصائل المنتشرة في المنطقة”، إضافة إلى إقامة نقطة عسكرية على أعلى مرتفع في المنطقة عند تل “النبي أيوب” الأمر الذي يضمن للجيش التركي اشرافاً كاملاً على جبل الزاوية وعلى سهل الغاب الذي تتمركز فيه قوات الجيش السوري.
وخلال الشهرين الماضيين، شهدت إدلب مجموعة من التطورات أبرزها بسط “هيئة تحرير الشام” سيطرتها على مواقع عدة كانت خارج سيطرتها، وفرط عقد بعض الجماعات المتشددة الرافضة لاتفاقية “سوتشي”، إضافة إلى سلسلة اعتقالات نفذتها “تحرير الشام” طالت قياديين “جهاديين” لضمان تحصين “بيتها الداخلي” وتشديد قبضتها على المنطقة.
ويتوافق الإعلان الجديد لـ “هيئة تحرير الشام” مع الخطة التركية في إدلب والتي تهدف بشكل أساسي إلى إعادة تشكيل الفصائل “الجهادية” بشكل يضمن لها أمنها الداخلي، ويمكنها من استثمار هذه الفصائل سواء في ميادين القتال أو كورقة سياسية تضمن مصالحها، خصوصاً أن تركيا شكلت خلال سنوات الحرب طريق عبور لمختلف الفصائل “الجهادية” إضافة إلى العلاقات القوية التي تربط الاستخبارات التركية بهذه الفصائل، الأمر الذي قد يشكل خطراً على تركيا في حال شعرت تلك الفصائل بخطر وجودي.
يتوافق الإعلان الجديد لـ “هيئة تحرير الشام” مع الخطة التركية في إدلب والتي تهدف بشكل أساسي إلى إعادة تشكيل الفصائل “الجهادية”
وإضافة إلى ذلك، عملت تركيا خلال الفترة الماضية على توسيع نفوذها الاقتصادي في إدلب، حيث أعلنت “هيئة تحرير الشام” تخليها عن الليرة السورية في تعاملاتها واعتماد الليرة التركية والدولار، الأمر الذي سهل لأنقرة تسويق المنتجات الرديئة في إدلب والشمال السوري والتي باتت تمثل لها حديقة خلفية، إضافة إلى ضمان زيادة تحكمها بالمنطقة وتسهيل عملية قضمها.
“النصرة” ومصادر دخلها
تدير مناطق سيطرة “تحرير الشام” (هيئة النصرة) تشكيل يطلق عليه “حكومة الإنقاذ” والتي تتحكم بجميع مفاصل الحياة في المنطقة، وأبرزها المعابر مع تركيا، حيث تسيطر “الهيئة” على حركة هذه المعابر وتفرض رسوماً على الحركة التجارية مع تركيا، سواء معبر باب الهوى الذي يمثل أكبر المعابر مع الجانب التركي أو المعابر الفرعية التي تعمل على تهريب الراغبين بدخول تركيا أو الهروب إلى أوروبا عبر البوابة التركية.
كذلك، تسيطر “الهيئة” على المنتجات الزراعية وتفرض عليها ضرائب متزايدة بشكل مطرد وتحتكر المواد الرئيسية مثل القمح وعمل الأفران والمخابز، والكهرباء والاتصالات والنفط.
وتستورد “النصرة” المشتقات النفطية من تركيا عن طريق شركة تابعة لها تحمل اسم “وتد”، وتدور شبهات عدة حول تورط شخصيات تركية نافذة ومقربة من الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في نشاطات هذه الشركة أبرزهم صهره برات آلبيراق والذي كشفت تسريبات “ويكيليكس” تورطه في تجارة نفطية مع تنظيم “داعش” الذي كان يسيطر على مواقع نفطية عدة في سوريا.
إضافة إلى ذلك تمثل الآثار واحدة من أبرز مصادر دخل “الهيئة” حيث تمتلك شبكة كبيرة للعمل في هذا المجال، ابتداء من عمليات التنقيب التي تتم بمساعدة خبراء أجانب وانتهاء بعمليات تهريب الآثار وتسويقها وبيعها في تركيا والأسواق الأوروبية، حيث طالت عمليات التنقيب مختلف التلال والمواقع الأثرية في إدلب، أبرزها جبل الزاوية وريف إدلب الشرقي.
الجولاني والصورة التي يريدها
مرّ زعيم “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة) بسلسلة طويلة من التقلبات، بدءا ن تأسيس جماعته “جبهة النصرة” التي نفذت أولى التفجيرات الانتحارية في سوريا بدعم من تنظيم “القاعدة” وجماعة “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق” التي تحولت لاحقاً إلى “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش)، حيث خاض مواجهات مع (داعش) ورفض حل “الجبهة”، وصولاً إلى تقوقع جماعته في إدلب وفض الشراكة مع “القاعدة” والتبعية المطلقة لتركيا.
وخلال هذه التقلبات غيّر “الجولاني” جلده مرات عدة، واعتمد بشكل رئيسي على العمل الأمني داخل جماعته وفي مناطق سيطرته، حيث تمكن من تحصين نفسه بجماعة تابعة له بشكل مطلق، الأمر الذي وفّر له حماية من أية تقلبات قد تمثل تهديدا مباشرة عليه في بيئته الداخلية.
غيّر “الجولاني” جلده مرات عدة، واعتمد بشكل رئيسي على العمل الأمني داخل جماعته وفي مناطق سيطرته
على الصعيد السياسي، تغيرت توجهات “الجولاني” خلال العامين الماضيين، ومثل قبوله وتأييده لاتفاقية “سوتشي” الموقعة بين تركيا وروسيا العام 2018 إعلاناً للولاء المباشر لأنقرة، ليبدأ بعدها مرحلة جديدة لإعادة تسويق نفسه وجماعته بصورة جديدة، حيث ظهر في أكثر من لقاء تلفزيوني وأجرى حوارات عدة أبرزها اللقاء الذي أجراه مع مجموعة “الأزمات الدولية” في شهر شباط الماضي، حيث أعلن خلال اللقاء اقتصار نشاط جماعته على سوريا فقط، وربط نفسه وجماعته بالأحداث السورية الداخلية فقط.
بعد ذلك، نشر “الجولاني” سيرة ذاتية له سعى من خلالها إلى تقديم نفسه على أنه سياسي في المقام الأول، فهو “أحمد الشرع ” ابن قرية “فيق” في الجولان السوري المحتل، نزح مع عائلته إلى دمشق، وهو ابن خبير اقتصادي له مؤلفات عدة حول النفط والاقتصاد (حسين الشرع). درس الإعلام في التعليم المفتوح في جامعة دمشق قبل أن يترك جامعته ويسافر إلى العراق لقتال الاحتلال الأميركي، بهذه الصورة وهذه السيرة الذاتية سعى مؤسس التنظيم المصنف إرهابياً إلى إعادة تسويق نفسه وإزالة صفة “الإرهاب” عنه، مبرراً سلوكه وجماعته على أنه “رد فعل”.
ولإكمال المشهد، ظهر الجولاني مرات عدة في صور نشرتها وسائل الإعلام التابعة له وهو يتجول في الأسواق، ويزور المرضى، ويستقبل الوفود، في محاولة متكررة لتنميط صورته كرجل سياسة متدين، بما يخدم المرحلة الحالية والمستقبلية.
“الدولة”.. ومصالح أنقرة
على الرغم من سعي تركيا الحثيث إلى فرض هيمنتها وترسيخ وجودها في الشمال السوري، لا يتعارض إعلان “تحرير الشام” بأن إدلب “دولة” مع هذه المصالح، بل يمكن اعتبار هذه الخطوة ورقة سياسية جديدة بيد أنقرة.
وعلى خلاف المواقع الأخرى التي تسيطر عليها تركيا (غصن الزيتون، نبع السلام، درع الفرات) التي تفرض تركيا سيطرتها المباشرة عليها، تمثّل إدلب إشكالية معقدة بالنسبة لها، حيث تنتشر فيها عشرات الفصائل “الجهادية” التي تمثل خطراً عليها، ويعيش فيها نحو ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة (وفق تصريحات تركيا والمعارضة السورية)، الأمر الذي يعني في حال تدهور الأوضاع الأمنية فيها خلق تدفق بشري كبير نحو حدودها وانتقال الصراع بشكل أو بآخر إلى الجانب التركي من الحدود.
وأمام هذا المشهد المعقد يأتي إعلان “تحرير الشام” إدلب “دولة” فرصة مزدوجة بالنسبة لتركيا، فمن جهة تضمن عدم وضع جميع المناطق التي تسيطر عليها في الداخل السوري في سلة واحدة خلال مفاوضاتها ومباحثاتها في أروقة السياسة مع الدول الفاعلة في الملف السوري، الأمر الذي يوفر لها أكثر من ورقة تفاوضية، ومن جهة أخرى تمثّل هذه الخطوة “إعلاناً صورياً” في ظل الانتشار الكبير للجيش التركي في هذه المنطقة، وفي ظل تحكم أنقرة بالمفاصل الاقتصادية والأمنية في إدلب، إضافة إلى أن خطوة كهذه قد تمهد الطريق نحو زيادة تمزيق الشمال السوري بشكل يمكن أن تستثمره تركيا مستقبلاً لدعم إنشاء كيانات صغيرة مستقلة ظاهرياً وتابعة لها على أرض الواقع.