على مدى عقود متصلة لاحقته حملات ممنهجة بدواعى تصفية الحسابات مع «جمال عبدالناصر» عصرا ومشروعا، دون أدنى اعتبار لأدواره فى التنمية وحماية مصر فى أوقات الفيضانات، أو عند الجفاف والشح المائى.
ارتفعت أصوات فى سبعينيات القرن الماضى وما بعده تصم السد بكل نقيصة وتدعو إلى هدمه، كان من بينها مرشد جماعة «الإخوان المسلمين» «عمر التلمسانى»، وأصوات محسوبة على نظام «أنور السادات».
مرة بعد أخرى تكفلت الحقائق بدحض الحملات وتأكدت قيمته فى أدبيات الأمم المتحدة كأهم مشروع هندسى فى القرن العشرين.
كانت تلك شهادة هندسية مستحقة، لكنها تقصر عن الإلمام بالدور المحورى الذى لعبه فى التاريخ المصرى المعاصر.
لم يكن السد العالى سوى معركة فى حرب حقيقية حول المنطقة ـ بند فى مشروع، وليس كل المشروع!
هناك فارق جوهرى بين المشروع العمرانى والمشروع القومي.
هناك من يتصور المشروع القومي محض مشروع اقتصادى، أو زراعى، أو صناعى كبير، تحشد من حوله الطاقات والقوى وتكتب وتلحن من أجله الأغانى ـ فى طلب نفس الأثر الذى أحدثه مشروع «السد العالى» دون الخوض فى معارك سياسية أو عسكرية، كالتى جرت بسببه ومن حوله.
لا توجد فى التاريخ مشروعات قومية بلا كلفة وتكاليف وأثمان.
معاركه اكتسبت إلهامها بتحدي البناء والتنمية واستكمال مقومات استقلال القرار الوطنى لا بالأغانى والأناشيد.
معركة السد العالى لم تصنعها «الأغانى»، بل هى التى صنعت أغانيها.
تصدر «صلاح جاهين» مشهد الأحلام الكبرى.
بقدر ما أخلص لاعتقاده أثرت أناشيده جيلًا بعد آخر، رغم ما ألمّ به من اكتئاب حاد بعد هزيمة «حزيران/يونيو».
الأفكار الرئيسية لـ«عبدالناصر» كلها ـ تقريبًا ـ كانت موجودة فى الجو السياسى والثقافى العام قبل ثورة يوليو. قيمته فى التاريخ أنه وضعها موضع التنفيذ وتحمل مسئولية مجابهة التحديات والصعاب
فى أشعاره تبدت قدرات لا تتوافر لغيره تبسيطًا لأعقد الأفكار السياسية بلغة يفهمها الناس جميعهم على اختلاف ثقافتهم ومستوى تعليمهم.
«لا تثبت الأحجار بلا موان
وكانت إرادتنا ونفذنا أمرنا
ولا همنا ساخط ولا زعلان».
أين الأحجار والموان؟
كان ذلك تحدي البناء.
بدت «جوابات حراجى القط العامل فى السد العالى وزوجته فاطنة أحمد عبدالغفار»، التى أبدعها باللهجة الصعيدية «عبدالرحمن الأبنودى»، نظرة عميقة فى فلسفة الحياة والغربة والتحول داخل مجتمع مهمش وفقير إلى عالم جديد.
التحول فى أساليب الإنتاج من «صاحب فأس» إلى «أسطى فى السد العالى» ألهم الشعر وأضفى عليه إلهامه.
أى مشروع يكتسب قيمته من قدرته على صياغة إرادة التغيير فى مجتمعه بما يتسق مع احتياجاته وفق رؤية للمكان والزمان والإنسان.
أسس السد العالى لعصر التصنيع الثقيل وتمصير الاقتصاد المصرى وبناء قطاع عام قوى وقادر على التنمية والوفاء بمتطلبات الانتقال إلى عصر جديد أكثر عدلًا اجتماعيًا.
ارتبط بتوليد الكهرباء إلى معدلات غير مسبوقة بحسابات زمانها وزيادة رقعة الأراضى الزراعية مع اتساع الخدمات الصحية والتعليمية.
اكتسب السد العالى رمزيته من سياق مشروعه.
أكثر ما يسيء لأي مشروع من هذا الحجم النظر إليه كنوع من «التوحيد» الإجبارى وراء فكر واحد.. وزعيم واحد.
المشروع القومي هو مجموعة «القيم الأساسية»، التى تحكم الحركة إلى المستقبل وتمثل المشترك الأعظم بين جميع القوى والاتجاهات السياسية.
المشروع القومي لم يخترعه «عبدالناصر»، فهو لم يخترع الوحدة العربية ولا خلق من فراغ أحلامها وتطلعاتها، وهو لم يخترع مطلب الاستقلال الوطنى والاستعداد للتضحية فى سبيلها، لم يؤلف دور مصر فى المنطقة، حيث حقائق الجغرافيا والتاريخ تدعو إليه، ولم يكتشف مقتضيات العدل الاجتماعى.
الأفكار الرئيسية لـ«عبدالناصر» كلها ـ تقريبًا ـ كانت موجودة فى الجو السياسى والثقافى العام قبل ثورة يوليو.
قيمته فى التاريخ أنه وضعها موضع التنفيذ وتحمل مسئولية مجابهة التحديات والصعاب.
من مفارقات التواريخ أن يرد اعتبار السد العالى مجددا فى نفس الشهر الذى رحل فيه «عبدالناصر» قبل خمسين سنة، فأخذ كثيرون يرددون على شبكة التواصل الاجتماعى بيتا شعريا مؤثرا لـ«عبدالرحمن الأبنودى»: «يعيش جمال حتى فى موته»
لعل «حكاية شعب»، التى صاغها «أحمد شفيق كامل» وأنشدها «عبدالحليم حافظ» من ألحان «كمال الطويل»، أفضل ما غنى لملحمة السد العالى؛ حيث وضعت فى سياق تحدياتها ومعاركها طلبا للتحرر الوطنى والتنمية المستقلة.
لم يكن تحدي السد العالى حربا فى فراغ الدعايات، فقد استكمل مقومات القدرة عليه من تأميم قناة السويس فى (٢٦) تموز/يوليو (١٩٥٦).
ألهمت صرخة «عبدالناصر» من على منبر الأزهر الشريف أثر العدوان على مصر: «الله أكبر.. سنقاتل ولن نستسلم أبدًا»، حركات التحرير فى العالم الثالث.
لم تكن مصادفة أن مصر اكتسبت قيادتها للعالم العربى والقارة الأفريقية، وتقدمت لقيادة حركة عدم الانحياز بعد ملحمة الصمود فى حرب السويس.
لا توجد أدوار بلا أثمان وتكاليف ومتطلبات، وأى زعم آخر تجديف فى الوهم.
هكذا جرى بناء السد العالى، وبنت ثورة «يوليو» بقدر ما استطاعت مصانع ومدارس ومستشفيات وعمّرت الريف ونهضت بالطبقة الوسطى، انحازت إلى قوى الإنتاج والطبقات الأكثر حرمانا.
المشروعات الكبرى تُقاس بنتائجها السياسية والاجتماعية كما أرقام عوائدها الاقتصادية.
هناك ما ينتقد فى التجربة الاجتماعية والاقتصادية لثورة «يوليو»، فلا تجارب إنسانية تستعصى على الأخطاء.
كل نقد مشروع وطبيعى، طالما استند على معلومات مدققة وقراءة فى الأرقام قبل إصدار الأحكام باجتهاد، غير أن تجربتها لا تضارعها أية تجربة مصرية أخرى منذ فجر الضمير على ضفاف نهر النيل من حيث التزامها قضية العدالة الاجتماعية وحجم الحراك الاجتماعى الذى أحدثته.
لم يكن بناء السد العالى سوى خطوة فى مشروع امتد إلى كل مناحى تحسين جودة الحياة، وإشاعة العدل الاجتماعى.
فى عام (1967) جرى استهداف المشروع الناصرى من بين ثغرات نظام ثورة يوليو، وكانت الحملة على السد العالى فى السبعينيات وما بعدها أقرب إلى انقضاض على ركائز ذلك المشروع.
من مفارقات التواريخ أن يرد اعتبار السد العالى مجددا فى نفس الشهر الذى رحل فيه «عبدالناصر» قبل خمسين سنة، فأخذ كثيرون يرددون على شبكة التواصل الاجتماعى بيتا شعريا مؤثرا لـ«عبدالرحمن الأبنودى»: «يعيش جمال حتى فى موته».
الأهم والأجدر بالنظر رد اعتبار المشروع القومي نفسه.
(*) ينشر بالتزامن مع موقع “الشروق”