الموارنة حرّاس “الحياد” واللامركزية.. و”جهنم الحمراء”!

تقف جميع الطوائف اللبنانية بمكنوناتها الداخلية أمام أسئلة كبرى. ما يحدث في المنطقة وما ستفرضه الأحداث كبير جدا بالنسبة إليهم. ماذا سيحدث في سوريا؟ وكيف ستُرسم خواتيم هذه المعركة؟ وماذا عن العراق؟ ما هي نتائج التطبيع العربي مع العدو؟ وأين وكيف سيكون حل الدولتين وقضية اللاجئين؟ ما هو مستقبل المعارك الأوروبية التركية متوسطيا؟ أين يتجه النظام اللبناني بعد موت الطائف سريرياً؟ وكيف ستتصرف الطوائف اللبنانية حيال ذلك؟ الحديث بالطبع هو عمن يفكر "طائفيا" وهم ليسوا بقلة في لبنان، حيث تكبر الأسئلة وتصغر وفقا لحجم منظّري وأحزاب الطوائف وتأثيرهم.

لطالما كان للمسيحيين في لبنان الحصة الأكبر من الأسئلة الوجودية، وهم حاولوا الإجابة عنها بنظريات سياسية عدة منذ بيار الجميل الجد وقبله ميشال شيحا وشارل مالك وغيرهم، وقد أثبتت التجارب التاريخية أن نظريات “صنع الوطن” على قياس جماعة، ولو أتت مدعومة من دولة غربية وازنة مثل فرنسا، قد فشلت في تثبيت استقرار. لا بل أدخلت هذه النظريات المسيحيين في أنماط من التنازع مع الجماعات الأخرى في الوطن، وحاولت تنظيم العلاقة معها من خلال مواثيق واتفاقات أثبتت فشلها في تثبيت سلطة واقعية متوازنة، وبقيت تؤثر وتتأثر بالعوامل الإقليمية وعناصرها الداخلية رغما عنها. لا حاجة لذكر الأمثلة فما وصلنا إليه ظاهر للعيان.. وأكثر.

في هذا النظام الطائفي، كل طائفي مُدان أياً كان اسمه. ليس ما سبق محاولة لتحميل جماعة ما مسؤولية ما آلت إليه الأمور، بل إضاءة سريعة على أحد عناصر الأزمات اللبنانية المتكررة، والتي باتت أكثر تعقيدا طوائفيا ومذهبيا، فالجميع بات مسؤولاً ومؤثراً في ما انتهت اليه الأمور اليوم.

يقف لبنان بشهادة الجميع أمام أسئلة وجودية، فالانهيار الاقتصادي الحاصل يحتّم على الجميع وضع إجابات من منطلقات وطنية، وتعقد أزمة النظام والأسئلة حول مصير الطائف مثلا يحتّم أيضاً إيجاد إجابات وطنية، ولكن الواضح أن البعض ينحى باتجاه إعادة صياغة الأزمات وتقديم إجابات من منطلق الجماعات وإعادة انتاج تكتلات تعزز أنماط التنازع بين الطوائف.

تتوزع الإجابات “مسيحياً” كما هو ظاهر، فالبطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي وجد مثلا ما اعتبره أحد الإجابات التي “تعيد تثبيت المسيحيين” في وطنهم، في طرح “الحياد”، وأتبعه بصيغة داخلية يعتبرها حلا لمشكلة شكل النظام أي “اللامركزية الموسعة”. لم يكتف بذلك، بل دخل إلى ميدان السياسة بتفاصيلها المحرجة لموقعه وجماعته، كأن يحدد موقف الكنيسة من الحكومة تأليفاً ومداورة، فيذهب إلى مخاطبة رئيس حكومة مكلف، متناسياً رمزية موقع رئاسة الجمهورية، أقله بالمعنى الطائفي الذي يفهمه هو.

لا تختلف بقية القوى “المسيحية”، مع الطرح البطريركي في عناوينه العريضة، “الكتائب اللبنانية” ترفع مثل هذه العناوين بالإضافة إلى “الدولة المدنية” ما يتفق مع الراعي أيضا، في وقت تتشارك هذه الشعارات مع “التيار الوطني الحر” أيضاً. وحده قائد “القوات اللبنانية” سمير جعجع وعلى الرغم من احتضانه السياسي السريع لطرح الراعي يحاول التمايز عن أترابه شكلا.. وهذا دأبه منذ سنوات طويلة.

يتوه جعجع بين محاولاته خلق توازنات مسيحية داخلية وكيفية ترجمتها في صياغة شكل النظام الجديد، وهو ان إتفق مع باقي الفرقاء على بعض العناوين إلا أنه لا يبدو حتى الآن مستعداً للتخلي عن “سقف الطائف” العربي (الخليجي ضمناً). يعلم جعجع جيداً أن الصيغة السياسية المقبلة بحاجة إلى حاضنة إقليمية ويصرّ على أن يكون عرّابها “مسيحياً”. ويعلم جعجع أيضا أن هذه الصيغة لن تفرض سقوفاً سياسية صعبة التفاعل مع المزاج المسيحي، فالعرب الخليجيون تحديداً ذاهبون نحو التطبيع وهم سيجدون عاجلاً أم آجلاً من يترجم مسارهم الجديد لبنانياً. يجمع جعجع إذا بين بقايا الطائف حفاظاً على “الوجه العربي” ويحجز لنفسه مكاناً في المخاض اللبناني الجديد ببعده الإقليمي الآخذ بالتدحرج.

ما أصعب أن يفتش موارنة لبنان عن رمز يحميهم في عز ما يشهده الإقليم من تحولات، فلا يجدون نفسهم إلا في عراء الفراغ.. وما يمكن أن يستدرجه عليهم وعلى لبنان من مخاطر. نحن على عتبة تغيير النظام. قالها ميشال عون اليوم (الإثنين) بصراحة. هل بهكذا أداء ومقاربات وخيارات يستعدون للمائة سنة المقبلة؟

ثمة وقائع لا بد من الإلتفات إليها. زيارة جعجع إلى الأشرفية عقب انفجار مرفأ بيروت، لكأن ساحة ساسين بدأت تضيق بزحمة التيارات المسيحية، في وقت حرصت “القوات اللبنانية” على إظهار بعض “مظاهر القوة والتنظيم” في قداس “شهداء القوات”، كما في العرض العسكري الذي أقامته في الجميزة مطلع الأسبوع الماضي، وما تبعه من اشكال قرب مبنى “التيار الوطني الحر” في ميرنا الشالوحي. في هذه الأثناء، تدور أحاديث إعلامية عن “حركة تسلح في الشارع المسيحي”.

استقالة نواب “الكتائب” والتركيز الإعلامي الذي ناله النائب سامي الجميل من لحظة إنفجار المرفأ حتى جولته الأخيرة في طرابلس، إن دلّت على شيء، إنما على حجم إرباك “فتى الكتائب”. لا قدرة على المزايدة مارونياً، فيصبح عضوا في “مصلحة معراب”، ولا وطنياً، فيجد نفسه أقرب من “التيار” إلى الضاحية الجنوبية. فماذا يضير إذا صار حزب الموارنة التاريخي عضواً في نادي المنظمات غير الحكومية أو ما يسمى “المجتمع المدني”!

حتى الموقع الماروني الأول في الدولة مصاب بعطب تاريخي. لا هو ميشال سليمان ولا إميل لحود. لا كميل شمعون ولا إلياس سركيس. يقول كلمته بعد أن تقول بكركي كلمتها، فيكون لكل منهما “مواله”، بلا ضابط للإيقاع ولا للموقع ولا لوقع كلمة “جهنم” على كل اللبنانيين. من يتحدث بإسم الموارنة؟ من هو الجسر ومن هو الحكم ومن هو الضامن ومن هو الضمانة؟ لا أحد.

إقرأ على موقع 180  أخبرتكم أنّني سأنتحر.. لكنّكم لا تسمعون

توحي جميع التيارات السياسية العاملة في الساحة المسيحية اللبنانية وكأنها تعلم أن صيغة النظام محكومة بالتغيير الحتمي، غير أنها تنطلق من نزعة التفرد والتمايز في موقعها في البلاد باتجاه محاولة وضع التأثير الأكبر في الصيغة الجديدة لكن كل واحد منها على طريقته. ينطلق “الوطني الحر” من ثقته بحضوره في صلب تيار شعبي واسع داعم لـ”العهد المريض”، في وقت يعتمد سامي الجميل على ارث تاريخي وأدوات إعلامية ذكية تناشد “مدنية الدولة” والدعم الغربي، أما جعجع، فيبرع في خلق الأعداء وأنماط التنازع مع الجماعات الأخرى في الساحتين المسيحية واللبنانية، كما يستعد لتظهير نفسه حامياً لعصبية ما قد تنتج موقعا لحزبه في نظام جديد سيقوم على أنقاض الطائف وحارساً لـ”الحياد” و”اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة” (حسب نص تفاهم معراب) وربما بدعم عربي هذه المرة. أما بكركي، فتلعب لعبة خطيرة بالإنحيازات المجانية التي تضع جماعة ضد جماعة طائفية أخرى.

يقول أحد السياسيين اللبنانيين الذين عاصروا الحرب الأهلية اللبنانية بتفاصيلها: “يكفي ان تقنع جماعة واحدة بالتقسيم في لبنان وتعمل عليه سياسيا وعسكريا حتى تقسّم البلاد بين غرب وشرق وعرب وعجم”. وما أكثر المحاور حولنا، فقد قنع جعجع يوماً وفي لحظة تيه سياسي بـ”حكم الإخوان”.

ما أصعب أن يفتش موارنة لبنان عن رمز يحميهم في عز ما يشهده الإقليم من تحولات، فلا يجدون نفسهم إلا في عراء الفراغ.. وما يمكن أن يستدرجه عليهم وعلى لبنان من مخاطر. نحن على عتبة تغيير النظام. قالها ميشال عون اليوم (الإثنين) بصراحة. هل بهكذا أداء ومقاربات وخيارات يستعدون للمائة سنة المقبلة؟

فعلاً، المكتوب يُقرأ من عنوانه!

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

صحافي وكاتب لبناني

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  لبنان يفتح أبوابه أمام "الرفيق سبوتنيك"