جدير بالذكر أنه انعقد على جامعة الدول العربية الأمل في منع تمدد قطر عربي على آخر. وبالفعل لعبت مصر بهيبتها الموروثة دوراً رئيساً في تأكيد وظيفة الجامعة العربية، ألا وهي تثبيت الحدود السياسية لكل قطر وحمايته من أطماع ومصالح نخب وأحزاب في أقطار عربية مجاورة وأقطار غير عربية. تدخلت مصر أكثر من مرة لمنع محاولات تغيير الحدود، ومن الأمثلة البارزة موقفها من محاولات العراق المتكرّرة تغيير الحدود مع الكويت ومحاولة تركيا تغيير حدود سوريا عام 1957.
وقد استمرت مصر تؤدي هذا الدور إلى أن وقعت تطورات متنوعة حدّت من قدراتها على أداء هذا الدور، ومن هذه التطورات:
أولاً؛ شيوع حالة من عدم الاستقرار السياسي في عدد من دول المنطقة. تسببت هذه الحالة في:
(أ) انكسار شرط قدسية الحدود السياسية للدول أعضاء الجامعة العربية تحت وقع انحدار مكانة دول وانحسار هيبة دول أخرى، ووقع تراجع قوة حكومات هذه الدول وسلطتها على كافة أقاليم الدولة.
(ب) كانت الحدود “النظرية” للنظام الإقليمي العربي من بين الحدود السياسية التي انكسر شرط قدسيتها. هذه الحدود كانت، بالنسبة لنا نحن الدارسين، بمثابة علامة تعريف بخصوصية إقليم وتميزه عن إقليم آخر أو عن دول مجاورة. حدث اختراق لهذه الحدود “شبه المقدسة نظرياً على الأقل”. أشير هنا إلى حدود النظام الإقليمي الشمالية والشرقية والجنوبية وبالتحديد حدوده مع تركيا وإيران وإثيوبيا. بالاختراق أعني الاحتلال وأعني أيضاً الحصار والتدخل في تدفق الأنهار ومصادر الثروة الأخرى. في الوقت نفسه، وقع الاختراق لحدوده عند القلب وأقصد تفاقم ظاهرة الاستيطان الإسرائيلي في أراضٍ تقع ضمن حدود النظام الإقليمي العربي، بل وفي القلب منه.
(ج) هذا الاختراق لحدود النظام تسبّب بشكل مباشر في الانتقاص من شرعية جامعة الدول العربية باعتبارها المنظمة المجسّدة للنظام الإقليمي والمُعبّرة عن قيمه وقواعد عمله والحارس لبواباته ومختلف مداخله.
رأينا بأعيننا وتابعنا بعقولنا خلال الشهور الماضية حجم النفوذ الذي تمارسه الصهيونية العالمية وعمق اختراقها لكافة أساليب وممرات ودهاليز صنع القرار السياسي في العدد الأكبر من الدول. كنا أيضاً، خلال الفترة نفسها وقبلها، شهوداً على مدى تغلغل هذا النفوذ في دول عربية غير قليلة العدد
ثانياً؛ باعتبار النظام العربي جزءاً أصيلاً في “عالم الجنوب”، لم نتفاجأ بكونه صار يتأثر بمتغيرات عدة طرأت أو تطورت وراحت تؤثر بشكل أو بآخر في منظومات قيم وسلوكيات دول هذا العالم. ومن هذه المتغيرات:
(أ) تضخّمت ظاهرة الشركات العملاقة متعددة الجنسية. في الآونة الأخيرة برزت منها الشركات العاملة في قطاع التكنولوجيا والاتصالات والتواصل. تضخمت حتى صارت عنصراً أساسياً في عملية صنع القرار في كثير من الدول. كنت شاهداً على هذا الدور في أمريكا اللاتينية وبخاصة في شيلي حيث كانت شركة النحاس شريكاً للحكومة في معظم قراراتها، وفي أمريكا الوسطى حيث كانت القرارات تصاغ في مقار شركات الموز الواقعة في ولاية فلوريدا أو في غيرها من الولايات الأمريكية. نشهد في أيامنا الراهنة الدور نفسه تلعبه شركات من نوع “ميتا” و”تيسلا” و”بوينج” وكبريات شركات السلاح ووادي السيليكون. لم يعد خافياً ولا مستتراً النفوذ الهائل الذي تتمتع به هذه الشركات داخل عملية صنع القرار ليس فقط في الدول الصناعية الكبرى ولكن أيضاً في دول العالم النامي وبخاصة دول الشرق الأوسط.
(ب) رأينا بأعيننا وتابعنا بعقولنا خلال الشهور الماضية حجم النفوذ الذي تمارسه الصهيونية العالمية وعمق اختراقها لكافة أساليب وممرات ودهاليز صنع القرار السياسي في العدد الأكبر من الدول. كنا أيضاً، خلال الفترة نفسها وقبلها، شهوداً على مدى تغلغل هذا النفوذ في دول عربية غير قليلة العدد. كثيراً ما توقف باحثون عرب وأجانب أمام معضلة صعوبة فهم قرارات عربية المنشأ؛ قرارات لا تنسجم واتجاهات الرأي العام ولا مع أهم مصالح هذه الدول ولا مع قيمة وأهمية حماية جامعة الدول العربية. راح بعض الباحثين يُنقّبون وراء حال التطبيع مع إسرائيل باعتباره مسئولا رئيساً عن دور متزايد للصهيونية العالمية في عمليات صنع القرار السياسي في أكثر من دولة عربية.. والدلائل كثيرة.
(ج) لم تتحصل أجهزة الاستخبارات في دول العالم العربي على دور رئيس لها في صناعة القرار إلا حديثاً جداً باعتبار أن الأجهزة نفسها لم تنشأ في غالب الحالات مع نشأة الدولة فضلاً عن أن صنع القرار في معظم الدول العربية في مرحلة مبكرة من الاستقلال لم يزد عن كونه عملية غير مركبة أو معقدة، وفي حالات بعينها استمر الاعتماد على أجهزة القوى الأجنبية قبل أن تنشأ أجهزة وطنية. لا يمكن إنكار حقيقة أن هذه الأجهزة صارت تحتل المكانة الأكبر وراء صنع القرار بما رتب تحولاً بالغ الأهمية في جهتين على الأقل، أولاهما، أولويات اهتمام الدولة في الشئون الخارجية على وجه الخصوص وإخراجها من متابعة السلطات الأخرى وبخاصة التشريعية والإعلامية والرأي العام. ثانيهما، تحول مقابل في رؤية الدول الأجنبية لطبيعة وتوازنات القوة والنفوذ في الدولة وتحول تال في سياسات هذه الدول وخططها وخطط الشركات الكبرى تجاه هذه الدولة العربية أو تلك. أعرف يقيناً أن بعض علماء السياسة في الغرب بدأوا يهتمون بدراسة هذه الظاهرة وضرورة إشباع حاجة علم السياسة إلى أخذها في الاعتبار.
(د) من المتغيرات الهامة ظاهرة هيمنت لفترة ثم انحسرت أو هذا ما بدا لنا. أقصد ظاهرة ما درج على تسميته بلجان الحكماء. بدأت باجتماعات دورية وطارئة يعقدها أشخاص من كبار النافذين في الدول العظمى مع شخصيات من قوى مؤثرة من قطاعات مراكز البحث الكبرى في سرية تامة وهدفها الضغط المباشر على مراكز صنع القرار لصنع قرارات تخدم أغراضاً بعينها. أظن أن ما درجنا على تسميته بلجان الكبار أو لجان الحكماء في عالم الجنوب جاء بمبادرة من نيلسون مانديلا والأخضر الإبراهيمي وغيرهما رداً على اجتماعات الكبار السرية التي كانت تعقد في روما أو غيرها من العواصم الغربية. أعرف أن بعض توصيات هؤلاء الكبار من شخصيات الجنوب كان لها آثارها الإيجابية على صنع قرارات بعينها.
(هـ) يرى بعض علماء السياسة أن عامل الهجرة المؤثر في معظم دول الشمال والجنوب؛ هو أحد أهم المتغيرات في عالم صنع القرار خلال السنوات الأخيرة. من مختلف مواقعنا في العالم العربي، نجد تصوراتنا متفقة مع هذا التصور لقيمة عنصر الهجرة في دوائر الفعل السياسي على المستويين العام والخاص. المدهش في الأمر أنه في دولة كمصر، صارت الهجرة بنوعيها؛ المتجهة للخارج والقادمه منه، عنصراً فاعلاً في عملية صنع القرار السياسي والاقتصادي.
(و) من الظواهر أيضا ظاهرة استجدت ثم انتشرت بسرعة محرزة آثاراً وعلامات واضحة على مجمل العناصر المكونة لعملية صنع السياسة والقرار في العالم العربي وعالم الجنوب بصفة عام. أكتب هنا عن ظاهرة الميليشيات المسلحة. بدأت الظاهرة بميليشيات تُهدّد استقرار الدول وتمدّدت وتوسعت لتشمل ميليشيات تقيمها الدولة لحماية جيوشها وغيرها من القوى الأمنية. لا يخفى أن دولاً في إفريقيا وخارجها لجأت إلى استيراد ميليشيات أجنبية لأغراض حماية حكومة الدولة من جنوح أو تمرد مؤسسة أو أخرى أو من تهديد قوى خارجية. المؤكد أن هذه الظاهرة وقد تشعبت وتفاقمت صارت تمثل جانباً لا يمكن إهماله أو التغاضي عنه عند توفر النية لدراسة نظام سياسي في عالم الجنوب أو عمل مقارنة لأحوال الاستقرار والتغير في دول العالم العربي، ومن بينها على سبيل المثال مستقبلات الأمن الجماعي واسترداد الثقة في النظام الإقليمي العربي ومؤسساته.