“ألفاريز” هل تمهل الحريري.. قبل نعي “التدقيق الجنائي”!

جملة يتيمة تفوه بها مدير شركة "ألفاريز أند مارسال" المولجة بالتدقيق الجنائي لحسابات مصرف لبنان دانيال جيمس، بعد إجتماعه اليوم (الأربعاء) بوزير المال غازي وزني: "جئنا لتقييم ما إذا تم توفير المعلومات الكافية من قبل مصرف لبنان بما يسمح للشركة بأن تباشر عملية التدقيق الجنائي". ماذا بعد هذه الجملة؟

عملياً، رمت شركة “ألفاريز أند مارسال”، المكلفة بالتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، كرة النار في حضن الطبقة السياسية والمصرفية اللبنانية، بإعلانها أن ما تملكه من أجوبة تقدم بها مصرف لبنان ليس كافياً لكي تباشر مهمة التدقيق الجنائي. مهّدت الشركة لذلك بنشرها على الملأ عشرات الأسئلة التي رفض مصرف لبنان الإجابة عليها لزوم انجاز المهمة التدقيقية المطلوبة، وذلك بحجة تعارض الافصاح المطلوب مع قانوني النقد والتسليف والسرية المصرفية.

وفق المعلومات الأولية، فإن مسار تشكيل حكومة سعد الحريري قد يؤدي إلى تعديل مسار إنسحاب الشركة. فقد طلب وزير المال من الشركة الإستمهال قبل إعلان إنسحابها، في إنتظار ولادة الحكومة الجديدة في أقرب وقت ممكن، على أن يُبنى على الشيء مقتضاه (جرى الحديث عن مهلة شهرين من التريث قبل أن تتخذ الشركة موقفها النهائي).

من الواضح أن حكومة تصريف الأعمال ليست مؤهلة لخوض مواجهة مع حاكم مصرف لبنان، لأسباب بنيوية وراهنة، أبرزها أن حكومة الحريري قد تولد في أية لحظة ويمكن أن تعدل مسارات كثيرة على مستوى التدقيق الجنائي والحسابات والخطة المالية. ثم أن قضية التدقيق قد تكون من العقبات البارزة التي ستعترض طريق البيان الوزاري لحكومة الحريري، حيث يشترط رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل الحصول على إلتزام مسبق بالمضي في التدقيق وعدم تغطية حاكم مصرف لبنان المركزي.

مجرد إرتباط التدقيق بالحكومة الجديدة، يعني إدخالها في بازار التاليف وتعقيداته، ما يطرح علامات إستفهام جديدة، خصوصاً أن الفرنسيين الذين يستظل الحريري بمبادرتهم يعتبرون أن التدقيق حجر الزاوية من أجل تفادي تكرار ما حصل طوال المرحلة الممتدة من 1993 حتى يومنا هذا.

في هذه الأثناء، طلبت وزارة المالية من هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل ابداء الرأي في جملة قضايا متعلقة بذلك التدقيق المتعثر، ومنها رأي خاص بصلاحية مفوض الحكومة في المصرف المركزي.

وجاء الرد بلا التباسات تذكر، ليؤكد ان للمفوض صلاحيات، إذا مورست، من شأنها مساعدة شركة التدقيق على نحو واسع النطاق، والحؤول دون المماطلة والتسويف كما هو حاصل منذ اشهر في تجاذبات تتوالى فصولها الاتهامية بين الحاكم والمتمسكين بالتدقيق.

مجرد إرتباط التدقيق بالحكومة الجديدة، يعني إدخالها في بازار التاليف وتعقيداته، ما يطرح علامات إستفهام جديدة، خصوصاً أن الفرنسيين الذين يستظل الحريري بمبادرتهم يعتبرون أن التدقيق حجر الزاوية من أجل تفادي تكرار ما حصل طوال المرحلة الممتدة من 1993 حتى يومنا هذا

وفق رأي هيئة التشريع، فإن النصوص القانونية، لا سيما أحكام المواد 41 و42 و44 من قانون النقد والتسليف والمرسوم المتعلق بعمل المفوض، فيها ما يكفي لمن يريد محاججة حاكمية المصرف المركزي. فعلى ذلك المفوض العتيد واجب السهر على تطبيق قانون النقد والتسليف ومراقبة محاسبة المصرف المركزي، وله حق الاطلاع على جميع سجلات “المركزي” ومستنداته المحاسبية، باستثناء حسابات ومستندات الغير الذين يمكن الاطلاع على موجوداتهم من دون اسمائهم حفاظا على السرية المصرفية.

وللمفوض، اذا اراد القيام بعمله كما يجب، التدقيق في اعمال لجنة الرقابة على المصارف ايضاً باستثناء “أسماء العملاء” المحمية بالسرية. ويحق له ممارسة كل صلاحياته في اي وقت يريده، ويساعده موظف من وزارة المالية ودائرة ابحاث تحت تصرفه تعنى بالنقد والتسليف.

وأكد الرأي الصادر عن هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل ان احكام المادة 44 صريحة وواضحة، ومطلقة وشاملة من حيث حق الاطلاع على المعلومات والبيانات.

مما سبق يمكن استنتاج ما يلي:

أولاً، إن معظم مفوضي الحكومة المتعاقبين منذ 1993 لم يمارسوا صلاحياتهم كما يجب، وإلا لما وصلنا الى ما وصلنا اليه من خسائر تراكمت على مر السنين ووصلت قيمتها الى نحو 80 مليار دولار. خسائر قياسية لا يستطع أحد تحديد المسؤول عنها بشكل قانوني ونهائي الا من خلال تدقيق جنائي أو أية صيغة أخرى تؤدي للنتيجة نفسها.

هؤلاء المفوضون كانوا يعينون في مصرف لبنان من ضمن سلة تعيينات سياسية في الفئة الأولى، تحظى بها اطراف سياسية دون أخرى، لأسباب يعرفها الحاكم وكل من تعاقبوا على صرف المال العام، من دون أي وزن للكفاءة أو للمسؤولية التي كانت لتغني حتماً عن التدقيق لو أن كل مفوض للحكومة مارس ما يقتضيه القانون حرفياً.

 لكن طالما أن التعيين سياسيٌ، فان التغاضي عن ممارسة الصلاحيات سياسيٌ ايضا خدمة لحكومات أدمنت الاقتراض، ولم ترغب يوما باعتراض من اي نوع كان يحول دون اشباع ذلك العطش للمال الذي وجّهته نظرية سد عجز الموازنة، فاذا به كليا او جزئيا يذهب لسد رمق بعض النافذين الذين انقضوا على الموارد المالية العامة لتوزيعها زبائنيا من دون نسيان كعكتهم الشخصية الدسمة بطبيعة الحال. فتحول مفوض الحكومة ـ كما كل نواب الحاكم ـ الى “شاهد ما شفش حاجة”، يقبض راتبه ويحصل على امتيازاته تاركا الحاكم يتصرف مع حُماته السياسيين، كما يحلو له ولهم.

إقرأ على موقع 180  لبنان: ثلاثة أمتار وتولد حكومة ميقاتي.. الثالثة

ثانياً، لا يمكن لمصرف لبنان التحجج بالسرية المصرفية طالما هناك إقرار من شركة “ألفاريز أند مارسال” وهيئة التشريع والاستشارات على امكان الاطلاع على حسابات العملاء من دون اسمائهم. ولا يطلب كشف الأسماء الا في سياق دعاوى قضائية بمضبطة اتهامات جرمية. ويعني ذلك على سبيل المثال، أن عمليات الهندسة المالية التي كلفت المال العام نحو 6 مليارات دولار في 2016 و2017، وربما قبل ذلك وبعده، يمكن تتبعها والتدقيق فيها لجلاء غموضها وكشف المستفيدين منها امام الرأي العام. واذا اتضح ان هناك مخالفات تستدعي كشف السرية المصرفية فان القانون يسمح بذلك، بدليل الرأي الذي أعطته أيضاً هيئة الإستشارات في وزارة العدل بتأكيدها أن توقيع الحكومة على العقد مع شركة “ألفاريز أند مارسال” ملزم لمصرف لبنان وحاكمه.

طالما أن صندوق النقد الدولي يصر على التدقيق في حسابات مصرف لبنان وكل المالية العامة في لبنان، لن يتبنى المجتمع الدولي أي برنامج انقاذي للبنان المتعسر حد الافلاس، إلا على قاعدة إنجاز التدقيق. لا يمنع ذلك من القول أن صندوق النقد، “يميل إلى أن يكون التدقيق غير جنائي”

ثالثاً، حتى لو انسحبت شركة التدقيق، بمقدور لبنان اجراء المطلوب بكفاءات وطنية اذا توافرت النوايا الحسنة، بعد تعيين مفوض مستقل يمارس كامل صلاحياته المنصوص عليها في القانون، كما له الاستعانة بديوان المحاسبة وجهات رقابية أخرى بشروط معينة لاستكمال هذا العمل الذي بات على كل شفة ولسان، ولن يرتاح بال اللبنانيين من دون الوصول به الى نتائج دقيقة تفصح عن اسباب ضياع عشرات المليارات التي هي ودائعهم.

رابعاً، في رأي آخر لهيئة التشريع والاستشارات حول السرية المصرفية، يرد ان تقرير مفوضي الرقابة، الذي في جوهره، يجب ان يحتوي ضبط الجرائم المصرفية وضرورات الضبط هذه غير مشمولة بالسرية المصرفية، ويجب بالتالي ابلاغ النيابة العامة عملا باحكام المادة 12 من قانون المحاكمات الجزائية. والمادة 25 من القانون السالف الذكر تلزم كل من شاهد اعتداء على الامن العام او على حياة شخص او ماله ان يبلغ المدعي العام. وتؤكد هيئة الشريع والاستشارات ان موجب حفظ السرية المصرفية والمهنية، والذي هو صالح عمومي، يسقط امام موجب الابلاغ عن الجرائم وهو صالح عمومي عام. كما ان افشاء السر في سياق تدقيق جنائي للمصلحة العامة محمي بالقانون، لأن مخالفة السرية لا تشكل بكل حال جرماً معاقباً عليه إلا اذا تم افشاء السر عن قصد بنية الإضرار. وهذا لا ينطبق على التدقيق الجنائي المطلوب، لان الهدف منه المصلحة العامة لا الضرر الخاص.

خامساً، على صعيد متصل، فان الرأي القانوني الذي طلبته وزارة المالية من هيئة التشريع والإستشارات، اكد ان عدم افشاء اسماء الزبائن واموالهم والامور المتعلقة بهم لا يدخل ضمن نطاقه ضبط مخالفات المصارف والجرائم المالية التي ترتكب في ادارة الاموال من جانب المؤسسات االمصرفية. وعند البحث والتدقيق على بيانات تحتوي اسماء ينبغي استبدال الاسماء بأرقام كما تفعل لجنة الرقابة على المصارف في مراسلاتها مع الحاكم عند الضرورة.

سادساً، يتضح مما سبق ان ما بدأ الترويج له من نواب وسياسسين ومصرفيين لجهة ضرورة تعديل قانوني السرية المصرفية والنقد والتسليف لا اساس له، وما إشاعة ذلك الا لعبة “غميضة”، برأي قانونيين يرون ان نقاش التعديل سيدخل بازار السياسة والسياسة المضادة، مع تهويل بالمساس بقدس الأقداس الذي بني عليه القطاع المصرفي، اي السرية المصرفية، وتهويل بعيب المساس بعذرية استقلالية البنك المركزي. فلا السرية مقدسة ولا الاستقلالية عفة مصونة. كلاهما بخدمة المصلحة العامة التي فندها رأي هيئة الشريع والاستشارات في وزارة العدل.

سابعاً، أما إذا انبرى قائل  بأن رأي تلك الهيئة هو  للاستئناس فقط وليس ملزما البتة، وان تخلي الشركة الدولية عن التدقيق ليس كارثة، وان الخسائر قضاء وقدر، فسيعلم اللبنانيون أنه لم يبق لهم الا التعوذ من كآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والودائع التي تبخرت الى غير رجعة، بتغطية من سياسيين إنتخبوهم وفرطوا بأمانة صون أموالهم والمال العام.

ثامناً، طالما أن صندوق النقد الدولي يصر على التدقيق في حسابات مصرف لبنان وكل المالية العامة في لبنان، لن يتبنى المجتمع الدولي أي برنامج انقاذي للبنان المتعسر حد الافلاس، إلا على قاعدة إنجاز التدقيق. لا يمنع ذلك من القول أن صندوق النقد، “يميل إلى أن يكون التدقيق غير جنائي”.

Print Friendly, PDF & Email
منير يونس

صحافي وكاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  بوصلة غزة.. صراعنا أولاً مع الغرب الإستعماري