سياسة الرئيس دونالد ترامب تُحيّر المنخرطين في مسائل السياسات الخارجية حول العالم. على نحو متسارع تتغير الاعراف والمعايير المتوافق عليها دوليا لعقود خلت، من دون ان يتقيد ترامب باي منها. كذلك، فإن آراءه في القضايا الدولية المطروحة تتقلب باستمرار من دون اي اعتبار للصدقية والشفافية. لذا، تغيرت خطتي، وقررت خاتمة للكتاب (*) هي محاولة وصف سياسة الرئيس الاميركي الجديد، مستنداً الى تصريحاته ومواقفه. ليس للرجل ماض سياسي يبنى عليه، ولا نظريات موثقة في السياسة الخارجية.
قبل عرض ما بَانَ من السياسة الشرق اوسطية لترامب، رأيت ان من المفضل اعطاء القارىء وصفاً موجزاً لمواقفه في المسائل الدولية التي من شأنها المساعدة على فهم سياسته الخارجية للمنطقة:
- اولاً، المال والاقتصاد اساس سياسته الخارجية، وليس استراتيجيا بناء وقيادة مجتمع ونظام دوليين. يتجاهل الرئيس ان النظام الدولي القائم من صنع اميركي، وان لبلده بالذات الكلمة الاولى والناهية في المشاكل الدولية. معظم دول العالم وسكانه يعتبرون اميركا تستغل ما على الكرة الارضية، سكاناً ودولاً وموارد طبيعية، وان استقرارهم السياسي والاقتصادي وسلامتهم ومصيرهم حتى، الى حد كبير، رهن المواقف والسياسات الاميركية. ناهيك بأن اكبر عشر شركات دولية اميركية، تصنع وتسوّق منتوجاتها في كل اصقاع الارض. كذلك، فإن الدولار الاميركي يوجد بوفرة اينما يحط المرء في العالم، والمنتوجات الاميركية لا تغيب عن الاسواق الدولية، وإِن صُنِع بعضها خارج الولايات المتحدة. معظم الاحتياط المالي لدول العالم والمدخرات المالية للمتمولين الكبار والصغار، الى المعاملات التجارية والمالية، بالورقة الاميركية الخضراء. الاهم، ان في امكان دوائر رسمية اميركية مراقبة كل النشاطات الدولية، المالية منها والتجارية، ومعرفة اتجاهها وتوقيفها.
ربما ايقظ وصول اوباما الى الرئاسة الشعور العنصري، وعززه عند كثيرين من الاميركيين البيض، فسمح بانتخاب ترامب رئيساً. لذا يصح وصف المؤرخ والمفكر روبرت كوغان من «معهد بروكنز» سياسة الرئيس الاميركي الحالي بأنها «غير مرتبطة بالذاكرة التاريخية (لاميركا)، ولا تعترف بأي التزامات اخلاقية او سياسية او استراتيجية”
يرى ترامب، ومعه عدد كبير من الاميركيين، ان الدول ذات العلاقات التجارية مع بلده، وخصوصاً الدول الحليفة، تستغل «التسامح» الاميركي كما يتبين من ميزان المدفوعات بين الولايات المتحدة والبلدان تلك. لذا، كان شعار الحملة الانتخابية لترامب، ورئاسته لاحقاً، «اميركا اولاً». لا علاقة لذلك بالمواقف السياسية او الاستراتيجية، انما بالمردود المالي. خلافه مع الاتحاد الاوروبي والصين وجيران بلده، كندا والمكسيك، بسبب الفائض في ميزان المدفوعات لصالح تلك المجموعات والبلدان. لا علاقة لشعاره هذا بقيادة اميركا تلك البلدان، ولا لأن المواطن الاميركي يزورها بلا تأشيرة دخول، ولا لأنه يمكن المواطن الاميركي استعمال عملته في كل بلدان العالم. ايضاً، لا يولِ الرئيس اهمية لما قد يحل باقتصاد بلاده اذا توقف العالم عن استعمال الدولار للاحتياط والادخار والتجارة، مع الدراية ان ذلك صعب حالياً، لكنه ممكن في المدى المتوسط الى الطويل.
- ثانياً، وجد الرئيس الاميركي في الحماية الامنية التي توفرها الولايات المتحدة للكثير من دول العالم، منها اليابان وكوريا الجنوبية في آسيا ودول الخليج العربي في الشرق الاوسط الى الحلف الاطلسي، عبئاً مالياً على بلده من دون اي استفادة اقتصادية منها. بدا كأنه لم يأخذ في الاعتبار مثلا، ان شراء السلاح الاميركي والاسواق المفتوحة للمنتوجات والخدمات الاميركية في هذه الدول ذات اهمية او منفعة لاقتصاد بلاده.
- ثالثاً، يبدو انه لا يريد الغاء كل ما حققه سلفه باراك اوباما فحسب، انما كل ما ارساه الرؤساء السابقون. سحب بلاده من معاهدة باريس للمناخ، ومن اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادىء، ويهدد بالانسحاب من اتفاق التجارة الحرة لاميركا الشمالية، علماً ان الاتفاقين الاخيرين من صنع رئيسين من الحزب الجمهوري. هو كذلك على خلاف حاد مع مؤسسات بادرت اميركا بإنشائها منذ الحرب العالمية الثانية، دول الاتحاد الاوروبي وحلف الاطلسي. يرى ان المؤسسة الاخيرة فات زمنها. لا يخفي ترامب ازدراءه بالامم المتحدة والمنظمات التابعة لها، ويهدد دائماً بتقليص مساهمة الولايات المتحدة فيها والمؤسسات تلك. يبدو كأنه يريد هدم النظام الدولي القائم المبني على قيادة سياسية واستراتيجيا اميركية، والاستعاضة عنه بنظام دولي جديد يبنى على قيادة مالية واقتصادية اميركية.
- رابعاً، منذ اعلن ترشيحه للرئاسة الاميركية باشر حملة عنيفة لوقف الهجرة من دول اميركا اللاتينية والاسلامية والافريقية الى الولايات المتحدة. وعد الناخبين ببناء حائط على الحدود مع المكسيك، والتوقف عن اعطاء تأشيرات دخول لمواطني بلدان اسلامية منها اربع دول عربية هي سوريا والصومال واليمن وليبيا.
- خامساً، يعكس ترامب قلق الاميركيين البيض من ان نسبتهم من سكان الولايات المتحدة الى انخفاض مستمر. وصلت نسبتهم الى ادنى مستوى لها على الإطلاق، 63%، او 197.7 مليون من البيض من مجموع 313.9 مليون اميركي في تعداد عام 2010. في تعداد عام 2000، بلغت نسبة السكان البيض 69%، وفي تعداد عام 1980 شكلت نسبتهم 80%. الى ذلك كله، فإن الوفيات عند البيض تفوق حالياً الولادات بنحو 12 الفاً في العام. وفق بيانات مكتب الاحصاء الاميركي، فإن الاميركيين غير البيض قد يشكلون، مع حلول عام 2043، غالبية السكان. الى تلك الارقام المخيفة للبيض، يتساوى اليوم عدد الاطفال البيض دون خمس سنوات مع سواهم، ومن المتوقع ان يتجاوز عدد الاقليات دون السن 18 عدد البيض في حلول عام 2019.
تتحكم بالسياستين الداخلية والخارجية لترامب قضايا الهجرة الى اميركا والديموغرافية والميزان التجاري وميزان المدفوعات مع الدول الكبرى. ربما ايقظ وصول اوباما الى الرئاسة الشعور العنصري، وعززه عند كثيرين من الاميركيين البيض، فسمح بانتخاب ترامب رئيساً. لذا يصح وصف المؤرخ والمفكر روبرت كوغان من «معهد بروكنز» سياسة الرئيس الاميركي الحالي بأنها «غير مرتبطة بالذاكرة التاريخية (لاميركا)، ولا تعترف بأي التزامات اخلاقية او سياسية او استراتيجية (للولايات المتحدة). انها تشعر بالحرية في متابعة اهدافها من دون الاهتمام بتأثير ذلك على الحلفاء او العالم حتى. ليس لديها احساس بالمسؤولية تجاه اي شيء يتجاوز نفسها».
اقتصرت السياسة الشرق اوسطية لترامب في السنتين الاوليين من عهده على تحسين العلاقة مع اسرائيل والسعودية اللتين شهدتا فتوراً خلال الولاية الثانية لاوباما. استهدفت قرارات ادارته ايضاً ايران والفلسطينيين، واتخذت اجراءات دعم استراتيجيا الرئيس السابق في حرب اميركا على “داعش” في سوريا والعراق
يضيف كوغان في مقال له في صحيفة «الواشنطن بوست»: «هل هذا ما يريده الشعب الاميركي؟ ممكن ذلك. الكثيرون في هذه الايام يدعون الى المزيد من الواقعية والقليل من المثالية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. سياسات ترامب واقعية بامتياز، خالية من المثل العليا والعواطف، تتبع «مصلحة وطنية» ضيقة تحدد بشكل صارم بالدولارات والسنتات والدفاع ضد اي هجوم اجنبي. عالم ترامب هو صراع الكل ضد الكل. لا علاقات تستند الى القيم المشتركة. هناك مجرد معاملات تحددها القوة. انه العالم الذي افرز لنا لقرن خلا حربين عالميتين».
يخلص كوغان الى القول: «رفضت الولايات المتحدة هذا النهج تجاه العالم بعد عام 1945، واختارت بدلاً منه نظرة واسعة مستنيرة لمصالحها. بنت ودافعت عن نظام عالمي قائم على فكرة ان اميركا ستكون آمنة، فقط اذا كانت القيم الديموقراطية والليبرالية آمنة. اعتبرت ان مصالحها ومُثلها العليا مترابطة بشكل وثيق، وان تحالفاتها الديموقراطية دائمة. لكن هذا كان خيارها عام 1945. كان يمكن الولايات المتحدة وقتذاك، بقوتها الكبيرة، ان تسير في اتجاه مختلف. الآن يبدو انها فعلت ذلك».
بالفعل، حاول الرئيس الاميركي وودرو ولسون عام 1918 اقناع الحلفاء (بريطانيا وفرنسا) سلوك الطريق التي سار فيها بلده لاحقاً عام 1945. لكن مجلس الشيوخ الاميركي خذله برفضه ابرام معاهدة تسمح لاميركا بالانضمام الى «عصبة الامم». استمرت اوروبا في الطريق التي اوصلتها الى الحرب العالمية الاولى، كما استمرت الولايات المتحدة في عزلتها عن العالم. هذان المساران ادّيا الى انهيار اقتصادي ومالي عام 1929، والى حرب عالمية ثانية بعد عشر سنوات.
ترامب والشرق الاوسط
اقتصرت السياسة الشرق اوسطية لترامب في السنتين الاوليين من عهده على تحسين العلاقة مع اسرائيل والسعودية اللتين شهدتا فتوراً خلال الولاية الثانية لاوباما. استهدفت قرارات ادارته ايضاً ايران والفلسطينيين، واتخذت اجراءات دعم استراتيجيا الرئيس السابق في حرب اميركا على “داعش” في سوريا والعراق.
كان ثمة خوف كبير في السعودية من نجاح ترامب، نظراً الى التصريحات النارية التي كان يطلقها ضدها ودول الخليج الاخرى خلال الحملة الانتخابية. رأى السعوديون في فوز محتمل لهيلاري كلينتون انه يعيد الحرارة الى العلاقات بين بلديهما والى ما كانت عليه خلال ادارتي بوش الابن وكلينتون، ولذا تعاطفوا معها وحاولوا احتواء منافسها. كان المال في الحالين وسيلتهم الوحيدة.
في ما يلي بعض ما قاله ترامب عن السعودية ودول الخليج العربي خلال حملته الانتخابية:
- «اعتقد ان الاسلام يكرهنا. هناك كراهية هائلة».
- «المملكة العربية السعودية وعدد من دول الخليج اعطت مبالغ طائلة الى مؤسسة كلينتون، 25 مليون دولار. هذه الدول تعامل النساء كعبيد وتقتل المثليين».
- «مَن الذي فجّر مركز التجارة العالمي؟ لم يكن العراقيون، بل السعوديون».
- «نحن ندفع الايجار لقاعدتنا في المملكة العربية السعودية» (علماً ان الولايات المتحدة اغلقت قاعدتها العسكرية هناك عام 2003).
- «انهم (السعوديون) يجنون مليار دولار في اليوم». واضاف من على شبكة «ان بي سي» الاميركية: «المملكة العربية السعودية، اذا لم تكن معنا، لن يكونوا هنا. لن يكونوا موجودين. يجب ان يدفعوا لنا. أعجبهم ذلك او لم يعجبهم. ما يدور في ذهني حقاً هو اننا ندعمهم بكلفة هائلة ولا نحصل على شيء في المقابل».
- «السبب الرئيسي في اننا ندعم المملكة العربية السعودية احتياجاتنا الى النفط. الآن، لسنا في حاجة الى استيراده».
هذا القليل مما قاله المرشح ترامب عن السعودية ودول الخليج خلال الحملة الانتخابية. اما ترامب الرئيس، فاستقبل الامير محمد بن سلمان (كان لا يزال وليّ وليّ العهد) في البيت الابيض بعد اقل من شهرين من تسلمه الرئاسة، واتفق معه على ان تكون السعودية اولى زياراته الخارجية. زارها الرئيس الاميركي في ايار/مايو 2017 برفقة عائلته، واجتمع بقادة مجلس التعاون الخليجي في الرياض، وخاطب قمة الدول الاسلامية مستخدماً نبرة اقل حدة من تلك التي استعملها زمن الانتخابات، مشيراً الى انه اختار ان يقوم باولى زياراته الخارجية الى قلب العالم الاسلامي. اعرب في خطابه عن رغبته في «ايصال رسالة صداقة وامل ومحبة» الى المسلمين كافة، واشار الى ان «ضحايا الارهاب هم انفسهم مسلمون». وصف المعركة ضد الارهاب بأنها «ليست معركة بين الاديان او بين حضارات مختلفة»، بل «معركة بين الخير والشر». قال ترامب ان الاطفال المسلمين «يجب أن يكونوا قادرين على النمو من دون خوف، وفي مأمن من العنف»، من دون ان يلغي قراره عدم اعطاء التأشيرات الى مواطني سبع دول اسلامية.
باتت العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية بعد الزيارة تلك، بين عائلتين يمثلهما وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان وصهر الرئيس الاميركي وكبير مستشاريه جاريد كوشنير. غاب التوتر الذي ساد في العقد الماضي في العلاقات الثنائية.
صفقة القرن
يرى بعض المحللين ان تضاؤل مشاركة الولايات المتحدة في مشاكل الشرق الأوسط خلال عهد اوباما، تزامن مع مرحلة بدت فيها السياسة الخارجية للسعودية اكثر حزماً، ووصل انتاج الطاقة في الولايات المتحدة الى الاكتفاء الذاتي. بعد زيارته الرياض، وقد جمع فيها السعوديون ملوكاً ورؤساء وامراء مسلمين من 50 دولة، سحب ترامب بلده من اتفاق الدول الخمس زائداً واحداً مع ايران المتعلق ببرنامجها النووي، بعدما اقره مجلس الامن الدولي بالاجماع عام 2015. اعاد العقوبات الاقتصادية والمالية عليها. انذرت واشنطن الدول والشركات، لاسيما منها الاوروبية، بفرض عقوبات عليها اذا استمرت في التعامل مع ايران.
ما لبث ان أيد ترامب الاجراءات السعودية – الامارتية ضد قطر، قبل تراجعه لاحقاً عن قراره على اثر معارضة وزارتي الخارجية والدفاع الاميركيتين، واصرارهما على ان تضطلع واشنطن بدور الوسيط. من المعلوم، ان قطر تستضيف اكبر قاعدة اميركية في الخليج.
بالنسبة الى الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، قرر في كانون الاول/ديسمبر 2017 نقل السفارة الاميركية من تل ابيب الى القدس، برغم المعارضة العربية والاسلامية والدولية الكبيرة. تجاهل بعمله هذا الاتفاقات السابقة بين اسرائيل والفلسطينيين، منذ اتفاق اوسلو في عام 1993 الذي ترك مصير مدينة القدس الى مفاوضات الحل النهائي. بالفعل تمت تلك الخطوة في 15 ايار/مايو، يوم كانت اسرائيل تحتفل بالذكرى السبعين لتأسيسها.
أُشيع وقتذاك ان ولي العهد السعودي كان على علم بالقرار، ولم يبد ممانعة. يشاع ايضاً ان السعودية وافقت على «صفقة القرن» التي سيقترحها جاريد كوشنير ومعاونه جيسون بلاط والسفير الاميركي لدى اسرائيل دايفيد فريدمان (الثلاثة من الطائفة اليهودية ومناصرون لاحزاب اليمين الاسرائيلي)، وهي بمثابة انهاء للقضية الفلسطينية. راج في المعلومات المسرّبة ان الصفقة تعطي القدس لاسرائيل وتبقى المستوطنات الاسرائيلية في الضفة الغربية، على أن يوطن اللاجئون الفلسطينيون في البلدان التي يقطنون فيها حالياً في مقابل تعويضات مالية. لكن الملك سلمان بن عبدالعزيز صرح في آب/أغسطس 2018، ان مملكته تصر على بقاء القدس الشرقية عربية وعاصمة الدولة الفلسطينية العتيدة.
في ما يتعلق بمحاربة “داعش”، عزز ترامب الوجود العسكري الاميركي في شمال شرق سوريا والعراق، بهدف انهاء سريع للتنظيم الارهابي في البلدين. سياسته هذه استمرار للاستراتيجيات التي وضعها سلفه. لكنه اعلن عزمه سحب الجنود الاميركيين من سوريا بعد هزم داعش والاستيلاء على عاصمتهم الرقة. تراجع عن موقفه بعدما اقنعه المسؤولون في وزارتي الخارجية والدفاع ان تنظيم “داعش” لم ينته بعد، ومن مصلحة الولايات المتحدة بقاء وجودها العسكري الى ان تنتهي الحرب السورية، للتأكد من مشاركتها في صنع السلام في هذا البلد. لكنه عاد وقرر سحب القوات الاميركية من سوريا ما ادى الى استقالة وزير الدفاع جايمس ماتيس”.
(*) النص أعلاه هو الفصل الأخير من كتابي بعنوان “أميركا القيم والمصلحة: نصف قرن من السياسات الخارجية في الشرق الأوسط” (صدر في 2019 عن دار سائر المشرق).