هل “يتقيَّأ” العالم إسرائيل يوماً ما؟

برغم الدعم السياسي والعسكري والمالي الذي تُقدمه واشنطن لتل أبيب، لم يسْلَم الأميركيون من إهانات القادة الإسرائيليين. وما صرّح به رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، بشأن تجميد إحدى صفقات الأسلحة الأميركية لإسرائيل في حربها ضد غزة، وَضّعهُ البيت الأبيض في خانة "التصريحات المُهينة".

إذا أضيف الصلف الإسرائيلي إلى رائحة القتل التي تفوح من بنادق ومدافع العسكريين وأفواه السياسيين والمستوطنين الإسرائيليين، فإن سمعة إسرائيل لم تبلغ في كل تاريخها هذا المستوى من التردي، حتى بات العالم يرفع صوته، وفي مرحلة متقدمة سوف “يتقيأها”، كما قال الباحث الإسرائيلي، تسفي مازا. كلامه يُعدُّ علامة فارقة في سياق التعبير عن العزلة التي باتت عليها دولة الاحتلال. يقول مازا، وهو بروفيسور في الفيزياء في جامعة تل أبيب: “العالم عندما يتقيّأ إسرائيل، وهو يتقيّأها أكثر فأكثر، فهي لن تستطيع البقاء والصمود هنا”.

ويكتسي هذا الكلام أهمية كبيرة لما لقائله من مكانة علمية في الدولة العبرية ونيله أرفع أوسمتها، وأيضاً في ضوء ما أظهرته حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وكذلك العار الذي لحقها على المستوى العالمي بسبب جرائمها، وكلها تصب في خانة توكيد الصورة التي باتت عليها هذه الدولة، ودور كل ذلك في تحديد مصيرها مستقبلاً.

ومن هذه الزاوية يكتسب الموقف الذي أعلنته محكمة العدل الدولية في الساعات الأخيرة أهمية خاصة، عبر التأكيد أن سياسة الإستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية تنتهك القانون الدولي، وهو الموقف الأول من نوعه للمحكمة ولهيئة تابعة للأمم المتحدة يعتبر الاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ 57 عاماً (1967 تاريخ صدور القرار الدولي 242) غير قانوني. وهذا القرار سيكون له تأثيره على قضية بناء المستوطنات في الضفة والقدس الشرقية وصولاً إلى ملاحقة عدد من قادة الاحتلال والتجمعات الاستيطانية أمام المحاكم في شتى أنحاء العالم.

أما العبارة التي أوردها تسفي مازا في مقالته في “يديعوت أحرونوت”، في بداية مايو/أيار الماضي، وما شهدناه على مستوى محكمة العدل والمحكمة الجنائية الدوليتين، كلها تطورات غير مسبوقة لجهة توصيف ما آلت إليه سمعة دولة الاحتلال من انحدار بعد حرب الإبادة الدموية التي تستمر بشنها منذ تسعة أشهر ونيف على الشعب الفلسطيني في غزة.

تسفي مازا

وتكمن أهمية عبارة مازا حول “تقيؤ إسرائيل” لصدورها عن أكاديمي إسرائيلي، بينما اعتدنا سماع توقعات بزوال دولة الإحتلال بسبب مخاطر حروب أهلية ستصيبها، وأحياناً تنبؤات تُحدّد لها عمرها. فلو لم يلمس هذا الكاتب تغيُّر نظرة دول العالم إلى إسرائيل، ومواقف الشعوب منها، لما كان قد قالها. كما أنها غير مسبوقة أيضاً من حيث الصورة التي تحملها والانطباعات التي تشكلها لدى المتلقي؛ إذ لا يتقيّأ جسم الكائن الحي المواد التي بداخله إلا إذا أصبحت ضارة وغير قابلة للهضم. ويفعل ذلك لأن استمرار وجودها داخله سيؤدي إلى تسممه وإلحاق الضرر الكبير به، وفي حالات متطورة يؤدي إلى موته. فهل وصل الأمر بدولة الاحتلال إلى الحد الذي باتت تُهدّد صحة بالعالم فأخذ يلفظها خارجه لكونها جسم غريب زادت مضاره، كما يرى هذا الباحث؟

ويتقاطع ذلك مع تحليلات يومية في الصحافة الدولية، وبعضها مقربة من الإسرائيليين، تقول إن دولة الاحتلال لم تصبح معزولة فحسب، بل أصبحت دولة منبوذة أيضاً. ويفاقم هذا الأمر من مشكلاتها الداخلية ومن الانقسامات بين قادتها السياسيين والعسكريين والصراعات بين قواها السياسية وداخل حكومتها، وأزمة الثقة المتعددة الأبعاد بين فئات مجتمعها وهو ما يظهر في الشارع، علاوة على تصدُّع علاقاتها مع حلفائها وأصدقائها، الأمر الذي يجعل دولاً كثيرة تتعامل معها كدولة منبوذة، بسبب الجرائم التي ترتكبها بحق شعب أعزل حاصرته ومنعت عنه الغذاء والدواء والماء لعشرات السنين، ثم توَّجت كل ذلك بعمليات التهجير والتطهير العرقي، وهو ما سيجعلها تتحول، يوماً بعد يوم، إلى خطر على الإنسانية جمعاء.

إن النظرة الجديدة التي تكوّنت حيال كيان محتل قادته متهمون بتنفيذ جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وقتل الأطفال عمداً، سيكون من الصعب تغييرها، مهما نظّمت دولة الاحتلال من حملات ديبلوماسية في الخارج. لذلك، إذا كان عزل الكيان هو مسار تراكمي طويل المدى، فإن عملية “تقيؤ” العالم لإسرائيل ربما تكون أسهل مما كان البروفيسور تسفي مازا يتصوّرها!

وفي هذا السياق، كان لافتاً للانتباه قرار عدد من الدول قطع علاقاتها مع دولة الاحتلال، وفرض دول غربية أخرى عقوبات على عدد من قادة المستوطنين، وازدادت رقعة الاحتجاجات الشعبية التي تعم العالم ضد جرائم إسرائيل وسياساتها، وكذلك مظاهر مقاطعة مؤسساتها وداعميها اقتصادياً وأكاديمياً وثقافياً. كما أن جرّ دولة العدو للمرة الأولى إلى محكمة العدل الدولية ومحاكمتها أمامها بتهمة تنفيذها جريمة إبادة جماعية موصوفة، واحتمال إصدار المحكمة الجنائية الدولية قريباً مذكرات اعتقال بحق عدد من قادتها، وإدراج الأمم المتحدة إياها على اللائحة السوداء للدول والمنظمات التي تقتل الأطفال، يساهم كله في فرض العزلة عليها ونبذها.

إقرأ على موقع 180  نتيناهو وبايدن.. تحديات إيران والصين وروسيا وفلسطين

ولم يكن ليتحقق هذا لولا انتصار الرواية الفلسطينية حول الصراع في فلسطين على الرواية الإسرائيلية، ولو لم تتبنَّ فئات واسعة من الشعوب والكوادر الإعلامية والأكاديمية هذه الرواية، بعد سنوات من تبنيها الرواية الإسرائيلية التي جعلت من “الهولوكوست” صناعة من أجل تأكيد المظلومية الإسرائيلية، والتي تساهم بها في تبرير كل ما يقترفه جيشها وعصابات المستوطنين من جرائم ضد أصحاب الأرض والحقوق. ويؤمل أن تصبح هذه الاستفاقة دائمة لا مجرد موقف عابر ينتهي مع انتهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، خصوصاً أن الشعار الذي حملته هذه الفئات، وهو “الحرية لفلسطين”، بات يتطلب منها التزاماً لتحقيقه عبر السبل المتاحة وأن تكون بقدر التحدي للاستمرار فيه..

وإذا كان ما اقترفته دولة الاحتلال حتى الآن في غزة لم يكْفِها أو يشبع غريزة القتل التي لدى قادتها، والذي جلب لها كل هذا العار حتى الآن، فإن ما خطّطت له ونفّذته من مجارز في رفح وتدمير البنية التحتية والتهجير، على الرغم من معارضة حتى حلفائها هجومها على رفح، سيكون له تبعات أكبر عليها، إذ أنه سيزيد حجم الغضب العالمي ضدها، وستزداد رقعة الاحتجاجات فتضم إليها فئات جديدة في بلدان كثيرة فلا يقتصر الأمر على طلاب الجامعات وحدهم الذين يُراهن على أن عودتهم إلى مقاعد الدراسة في مطلع أيلول/سبتمبر المقبل، ستكون مناسبة لإعادة اشعال الحراك الطلابي العالمي نصرة لفلسطين، طالما المجزرة مستمرة وآخر فصولها مجزرة المواصي بخان يونس.

قد يقول البعض إن كلام البروفسور الإسرائيلي ينطلق من وقائع ما زالت في طور النضوج، لكن تأتي الأخبار من جنوب أفريقيا، خصوصاً حول “المؤتمر العالمي لمناهضة الفصل العنصري الإسرائيلي في فلسطين” الذي نظمته هذه الدولة، بين 10 و12 مايو/أيار الماضي، لتؤكد أن ثمة عمل منظم قد بدأ لتكريس عزلة الكيان الإسرائيلي دولياً. ووقّع مندوبون من 20 بلداً على البيان الختامي للمؤتمر، وتعهدوا فيه بإطلاق حركة عالمية لمقاطعة إسرائيل، وأبدوا عزمهم عزل الكيان الإسرائيلي عبر تكثيف المقاطعة بكل أشكالها، وفرض عقوبات اقتصادية ومالية عليه وإغلاق طرق الشحن المؤدية إليه، وإطلاق حملة لفرض حظر السلاح عنه واستهداف داعميه ومن ينضمون لجيشه، وطرده من هيئات ثقافية ورياضية وأكاديمية دولية.

يمكن القول إن النظرة الجديدة التي تكوّنت لدى كثيرين حيال كيان محتل قادته متهمون بتنفيذ جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وقتل الأطفال والنساء والشيوخ عمداً، سيكون من الصعب تغييرها، مهما نظّمت دولة الاحتلال من حملات ديبلوماسية في الخارج. لذلك، إذا كان عزل الكيان هو مسار تراكمي طويل المدى، فإن عملية “تقيؤ” العالم لإسرائيل ربما تكون أسهل مما كان البروفيسور تسفي مازا يتصوّرها!

Print Friendly, PDF & Email
مالك ونّوس

كاتب ومترجم سوري

Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  في مخيمات لبنان.. متى ندق "جُدران الخزان"؟