قيل الكثير على الصعيد السياسي لأسباب تلك العقوبات، لكن ماذا عن التداعيات على الصعيد المالي الخاص بجبران باسيل، واستطراداً بالوزيرين السابقين اللذين سبق وطالتهما عقوبات مماثلة تقريباً في 9 أيلول/سبتمبر الماضي، وهما يوسف فنيانوس وعلي حسن خليل؟
ساد اعتقاد خاطئ بأن الأثر محدود مالياً، لكن حقيقة الأمر خلاف ذلك تماماً. إذ أن باسيل ومنذ الصباح الباكر كان عرضة لتفتيش مصرفي حثيث في حساباته لاتخاذ اجراءات تسابق الريح من قبل المصارف اللبنانية التي تطبق العقوبات الأميركية حتى قبل تبلغها رسمياً بذلك سواء بواسطة وزارة الخارجية أو مصرف لبنان أو أي جهة محلية ودولية أخرى معنية بالتطبيق.
لمجرد سماع الخبر، يسارع المصرف اللبناني المعني إلى تسكير الحساب الفردي، وحساب الشركة التي للمغضوب عليه ملكية ما فيها، علماً بأن العقوبات تطال الشركات المملوكة بنسبة 50 في المائة وما فوق فقط. ويصدر الشيك بالمبلغ كاملاً، وهو غير قابل للتجيير، كما اقفال حسابات العائلة اذا وجدت، الزوجة والأولاد فوراً، حتى لو لم يكن لهم أي ذكر في تلك العقوبات لا من قريب او بعيد، فالتعسف يشملهم من دون جريرة ارتكبوها، ومنهم من يتعلم أولاده في الخارج (حالات سابقة لحالة باسيل).
يصدر الشيك (أو الشيكات) بكامل المبلغ في البنك ويسلم لصاحبه بسرعة البرق من دون الاكتراث بمصير ذلك المبلغ المعرض للضياع حتماً، لأن صاحبه لا يمكن أن يجيره ولا يمكن أن يضعه في بنك لآخر، فأين يصرفه إذاً؟
الحقيقة انه لن يصرفه أبداً لأن المصارف الأخرى لن تقبله ولن يقبله أحد لا يستطيع تحصيله. جنى عمر قد يذهب سدى كأنه لم يكن!
لا تعبأ المصارف بأصل تلك الأموال، وما اذا كانت تشغيلية مشروعة. جل همها الهروب من “الأجرب”، برأيها، حتى لو كان العميل متعاملاً مع البنك منذ عشرات السنين، وسيان أكانت أمواله من جهده وعمله وعرق جبينه مائة في المائة أم لا. ولا تنتظر لجنة تحقيق خاصة تعنى بالتأكد من صحة مزاعم الفساد التي يوصم بها هذا اوذاك من السياسيين اللبنانيين المعاقبين من العم سام.
“المضحك المبكي”، برأي المعنيين، أن مصارف لبنان التي حجزت أموال المودعين من دون وجه حق، وتمعن في اذلال اللبنانيين يومياً في فروعها ومراكزها الرئيسية، بعدما أفادت من المال العام بمساعدة مصرف لبنان طيلة عقود وبعشرات المليارات من الدولارات التي أرهقت بفوائدها الباهظة البلاد حد الإفلاس، والتي شاركت في هندسات تحتاج اليوم تدقيقاً جنائياً يؤدي الى سجن مرتكبيها والمستفيدين منها لو أجري التدقيق كما يجب، والتي ترفض الخسارة برغم ركوبها المخاطر والإقراض غير الحصيف المدفوع والمفعم بالربا فقط، والتي ترغب بوضع اليد على عقارات اللبنانيين مقابل تلك القرارات التي تورطت فيها وترفض تحمل مسؤوليات الخسائر فيها، والتي لطالما استعانت بالسياسيين في شبكات علاقاتها المصلحية المشروعة منها وغير المشروعة، والتي هرب أصحابها المليارات الى الخارج من دون الإلتفات الى أبجديات حل الأزمات القاضي بالكابيتال كونترول أولا، والتي تمارس أحابيل التهرب الضريبي والتجميل المحاسبي على مدار السنة.. هذه هي المصارف نفسها التي تطرد من جنتها كل من يرد اسمه في العقوبات شر طردة من دون الاكتراث به وبعائلته ومصيره ومصير أبنائه وأحفاده، في ما يشبه حكم اعدام مالي لأجيال مقبلة وليس لفرد بعينه اليوم.
ساد اعتقاد خاطئ بأن الأثر محدود مالياً، لكن حقيقة الأمر خلاف ذلك تماماً. إذ أن باسيل ومنذ الصباح الباكر كان عرضة لتفتيش مصرفي حثيث في حساباته لإتخاذ اجراءات تسابق الريح من قبل المصارف اللبنانية التي تطبق العقوبات الأميركية حتى قبل تبلغها رسمياً بذلك
ولا تعبأ المصارف بما اذا كان المتضرر سيلجأ الى القضاء الأميركي او الدولي لرد اعتباره واظهار براءته مما ينسب اليه اذا كان بريئاً أو مظلوماً أو أن العقوبة مبالغ فيها. لا تنتظر شيئا من هذا القبيل وتتصرف بسلطان أعنف من السلطان الأميركي نفسه، “انها ملكية أكثر من الملك”، وفقاً لأحد المتضررين.
اما الحسابات بالليرة اللبنانية، فلا تنجو هي الأخرى، وتتعرض لنفس المصير بالاقفال والتسديد بشيك غير قابل للتجيير، اذا اراد البنك ذلك، علما بأن العقوبات الأميركية لا تطال إلا حسابات الدولار التي تمر مقاصتها في نيويورك. أما حسابات الليرة فلا يفترض شمولها بالعقوبات نظرياً، لكن عملياً تتعسف المصارف فيها هي الأخرى وتقفلها حتى لو اعترض اي معترض وكان مصرف لبنان نفسه!
أحد المعنيين يضحك بمرارة عند سؤاله عن القضية ويقول: “ظلموا المودعين وسرقوا مدخراتهم، فلم تعد تفرق كثيراً”. فما يمر به اللبنانيون عموما يهون أمام حساب او حسابين او ثلاثة. نحن أمام خسارة نحو 80 مليار دولار، لا يطالب المواطنون الا بعدالة توزيعها في وقت يرفض المرابون تحمل اي عبء بعدما أثروا على حساب الدولة والمجتمع، وها هم يتبرؤون من الاثنين الآن، ويحاولون الظهور بمظر الحريص على القانون الدولي بعدما انتهكوا القانون اللبناني شر انتهاك بتقنين سحوبات الفقراء وتهريب مليارات الأغنياء ورفض أخذ أي قسط من أعباء الكارثة المالية التي حلت بلبنان.
على صعيد آخر، أكدت جهات معنية ان الحسابات الخارجية للمشمولين بالعقوبات معرضة هي الأخرى للاقفال اذا كانت بالدولار، حتى لا تتعرض المصارف المعنية لعقوبات أميركية لا ترحم بعدما تكبدت مصارف أجنبية غرامات بالمليارات لمجرد شبهات خرق العقوبات.
وهناك، بين المعاقبين اللبنانيين أميركيا، من ليس لديه اي حساب في الخارج او اي مساهمة في شركات. أما من لديه أموال في دول أخرى فعليه النظر في الممارسات القانونية المعمول بها هناك في هكذا حالات، فبعض الدول لا تطبق العقوبات الاميركية.
ما سبق لا يعني تبرئة أي كان من الفساد، كما يؤكد المتابعون (تمت معاقبة باسيل بذريعة “قانون ماغنيتسكي”). وفي حالات التربح غير المشروع من ممارسة السلطة (وهذا شائع جداً في لبنان) يفترض تعاون القضاء اللبناني مع الأميركي أو غير الأميركي لاستعادة الأموال المنهوبة. فتلك الاستعادة تساعد لبنان أكثر من فرض عقوبات ظاهرها مالي وباطنها سياسي، كما يؤكد مصدر مالي معني. واذا سئل اللبنانيون الاختيار بين عقوبة تفرضها واشنطن على فاسد لبناني وبين استعادة الأموال المنهوبة فسيختارون حتماً الاستعادة لأننا قعر أزمة لا ينتشلنا منها أي تشفٍ سياسي بعقوبة سياسية آتية من وراء الأطلسي لضرب رأس هذا وذاك من المسؤولين اللبنانيين المغضوب عليهم ولا الضالين.