لا يختلف إثنان حول أهمية ان نكون سريعين جداً في تطوير لقاح لمنع إنتشار جائحة كورونا. في المقابل، لوحظ تساهل معظم الدول بما فيها المتقدّمة طبيّاً (الدول الغربية تحديداً) أو التي تُعتبر أقل تقدّماً (مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل)، مع خرق بعض القواعد الأساسية في عملية تطوير وتعميم اللقاح او إختصار بعض بروتوكولات التجارب والأبحاث في هذا المجال. وقد علًل البعض ذلك بمخاطر الجائحة والخسائر الهائلة الناتجة عنها وضرورة إيقافها في اسرع وقت الأمر الذي دفعهم لاختصار المراحل او التساهل نسبياً أو إلى حدٍ كبير في بعض الدول، مع بعض القواعد الأساسية التي يجب مراعاتها لكي لا نخرج من كارثة الى كارثة اخرى من صنع الإنسان هذه المرة.
شكل إعلان شركة “فايزر” الأميركية مطلع الأسبوع الحالي أن مشروع اللقاح الذي تعمل على تطويره مع شركة “بيونتك” الألمانية حدثاً علمياً كبيراً ومبعث أمل وتفاؤل بقرب التخلص من كارثة صحية غير مسبوقة منذ قرن من الزمن وتسببت بخسائر بشرية وإقتصادية كبيرة جداً وأحدثت تحولات هائلة في أنماط حياة الشعوب وفي طرق عيشها.
في هذا المجال، أعلنت شركة “فايزر” أنّ اللقاح الذي تعمل على تطويره مع شريكها الألماني ويعطي نتائج فعّالة في 90 % من الحالات، وأن الحماية التي يُوفّرها هذا اللقاح كانت كبيرة وفعّالة جداً بعد مرور أسبوع من حقن الجرعة الثانية منه أو بعد مرور 28 يوما من حقن الجرعة الأولى منه، وذلك بحسب المُعطيات الأولية للدراسة العلمية الواسعة التي تشمل آلاف المُتطوّعين.
وتُعتبر التقنيّة التي اعتمدتها شركة “فايزر” مع شريكها الألماني من التقنيّات الأقل شيوعاً ومعرفةً في عملية تطوير اللقاحات المُتعدّدة الأخرى التي سوف نُحاول في هذه السلسلة من المقالات فهم الأسباب التي تجعل بعض الخبراء والأطباء مُتوجّسين نتيجة الإسراع في عمليات تطوير هذه اللقاحات المُضادّة لفيروس كورونا. كما ستتطرق هذه السلسلة إلى ثمانية مشاريع لقاحات وصلت الى مرحلة “التصفيات النهائية” اي مرحلة الأبحاث السريرية من “المرحلة الثالثة” Phase III بحيث تُدرس فعاليتها على عيّنات من المتطوّعين تصل الى ٣٠ او ٤٠ ألف إنسان لمعرفة فعاليتها بشكل واسع في تأمين المناعة الكفيلة بالحماية من الإصابة بالفيروس وما هي مُدة هذه الحماية وما هي الأضرار الجانبية المُمكنة او المُحتملة لهكذا لقاح.
كان لافتاً للإنتباه أن الأجواء الإيجابية التي صاحبت إعلان شركة “فايزر” عن إكتشاف اللقاح اصيبت بنكسة كبيرة في اليومين الماضيين عندما كشفت عن صعوبات كبيرة قد تُواجه عمليات التخزين والنقل والتوزيع الخاصة بهذا اللقاح. حيث اعلنت “فايزر” انّ تحديات لوجستية كبيرة سوف تعرقل تعميم اللقاح الموعود. واضاف بيان صادر عن الشركة أن هذا اللقاح الذي أثبت نسبة فعاليّة عالية بلغت أكثر من 90% يحتاج إلى ان يُخزّن في درجات حرارة مُنخفضة تراوح بين 70 و80 درجة تحت الصفر، الأمر الذي من شأنه ان يشكّل صعوبة بالغة أمام نقله وتوزيعه وتخزينه حول العالم.
قال المدير التنفيذي لـ«فايزر»، ألبرت بورلا، في لقاء مع شبكة “سي إن إن” الأميركية، إنه ليس معلوماً بعد الى اي فترة من الوقت ستبقى المناعة التي قدّمها اللقاح داخل جسم الإنسان
وقد نقلت كالة «رويترز» عن المدير التنفيذي للشركة الألمانية، أوغور ساهين، أن اللقاح “يفسد او يُصبح غير فعّال” خلال خمسة أيام إذا ما تمّ تخزينه في ثلاجات حرارتها فوق صفر درجة مئوية بقليل. وهو ما تستخدمه غالبية المستشفيات حول العالم. واعتبر أمِش أداليا، رئيس الباحثين في مركز جونز هوبكنز للأمن الصحي أن مهمة التبريد “ستكون أحد أكثر الجوانب صعوبة في توزيع هذا اللقاح”، وهو ما ينطبق على غيره من اللقاحات الثمانية التي يتم تطويرها حالياً والتي تعتمد تقنيات التصنيع ذاتها التي سأشرحها لاحقاً. وسيكون هذا تحدياً كبيراً، لأن اكثر او معظم المستشفيات حتى تلك الموجودة في المدن الكبرى وفي الدول المتقدّمة، لا تمتلك مرافق تخزين للقاحات في درجة حرارة شديدة الانخفاض. فكيف سيكون عليه الحال في الدول النامية او الفقيرة او تلك التي لا توجد فيها ادنى الخدمات والمرافق الصحية. حتى أن «مايو كلينيك»، أحد أرقى مستشفيات الولايات المتحدة والعالم، أعلن أنه لا يمتلك هذه القدرة على تخزين اللقاح.
في غضون ذلك، بدأت المراكز الطبية في الولايات المتحدة البحث عن ثلاجات خاصة وسعة تخزينية كبيرة، في محاولة لإستباق المشكلة الآتية في حال حصل لقاح “فايزر” و”بيونتك” على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأميركية (FDA). وحتى لو تأمنت تلك الثلاجات، فستبقى هناك مشكلة في نقل اللقاح براً وبحراً وجواً الى مختلف بلدان العالم.
اذاً وبكل بساطة برزت بسرعة مشكلة خطيرة وهي ان معظم مستشفيات العالم لا تمتلك ثلاجات قادرة على توفير البرودة التي يحتاجها اللقاح وهذه مشكلة خطيرة جداً خاصة في الدول الفقيرة.
النقطة الثانية أثارتها شبكة «سي إن إن» ومفادها أن النتائج الحالية للقاح “فايزر”، برغم إيجابيتها، لا تزال أوّلية. وقال المدير التنفيذي لـ«فايزر»، ألبرت بورلا، في لقاء مع الشبكة الأميركية، إنه ليس معلوماً بعد الى اي فترة من الوقت ستبقى المناعة التي قدّمها اللقاح داخل جسم الإنسان. فالأمر بحاجة الى مُتابعة لمدّة سنتين. لكنه أعرب عن تفاؤله بأن المناعة قد تستمر الى حدود سنة أو عدّة أشهر، ملمّحاً ـ وهنا “بيت القصيد” ـ الى أنه قد تكون هناك حاجة الى “إعادة التلقيح عبر إعطاء جرعات إضافية كل فترة، قد تكون كل عام مثلاً او اقلّ (لا احد يعلم حتى اليوم؟) للمحافظة على مناعة مُستدامة ضد كورونا. كما أشار بورلا الى أنه من غير الواضح بعد كيف سيعمل اللقاح وكيف ستكون فعاليته مع الفئات العمرية الأكبر سناً، أو مع الحالات الشديدة الخطورة للإصابة بإلتهابات خطيرة من كوفيد-19 مثل مرضى القلب والشرايين ومرضى الإنسداد الرئوي والفشل الرئوي والربو والسكري والسرطان والفشل الكلوي والكبدي والبدانة والضغط واصحاب المناعة الضعيفة. بدوره، رأى المراسل الطبي للقناة، الدكتور سانجي غوبتا، أن اللقاح خطوة على الطريق الصحيح، إلا أنه طالب بالتروّي وانتظار معطيات إضافية.
المقصود هو القول إنه برغم جرعة التفاؤل الكبيرة التي سادت الأوساط العلمية والطبية وحتى السياسية والإقتصادية والتي ادّت بسرعة الى إعادة انتعاش البورصات العالمية وارتفاع اسعار النفط عند إعلان “فايزر” عن هذا الخبر، إلّا أنّ اخبار اليوم التالي خفّفت كثيراً وهج هذا التفاؤل واعادت احياء سجالات حول وسائل تطوير هذا اللقاح وحول عدم التسرّع في التفاؤل بقرب التوصل الى الحل مع حتمية الحاجة الى السرعة في ذلك لأن الموضوع يتعلّق بـأكثر من 7 مليارات نسمة هم سكان الكرة الأرضية في قاراتها الخمس ولا يجب ابداً التساهل او الإسترخاء في التعاطي مع هكذا موضوع خطير.
ليس مطلوباً منا كأطباء إخافة الناس، بل تقديم مقاربة موضوعية وعلمية في مواجهة كارثة أصابت أكثر من 53 مليون نسمة وحصدت حتى الآن حياة مليون و300 ألف نسمة، فضلا عن خسائر هائلة تكبدها الإقتصاد العالمي.