مات لبنان.. هل مَن يدفنه؟

لا أعرف من أين أبدأ. ولا أعرف أيضاً لماذا قدرنا أن نشهد موت وربما جنازة وطن على يد حُكامِه وشعبهِ وأصدقائهِ وأعدائهِ.

لبنان، لربما انتهى في كيانه ودولته ومؤسساته وإقتصاده وقضائه ونظامه التعليمي وأمنه ومصارفه. وللأسف، تأتي نهاية هذا الوطن الصغير بعد أن أنهكت الحروب والأزمات المتتالية شعبه وأفقرته حتى البؤس. من الآن وحتى موعد الولادة المتجددة الغامضة لهذا الكيان، علينا الإنتظار وربما البحث كما فعل العديد من قبلنا عن وطن بديل.

الوطن في العالم الحديث ليس مكان الولادة والعائلة والحدود الجغرافية والهوية وجواز السفر. الوطن هو الأمان وإحترام الإنسان والعيش الكريم والعدالة والعقد الإجتماعي العادل.

هنا في بلدنا المنقسم على كل شيء، حتى الحدود الجغرافية والهوية والإنتماء التي لم تعد موجودة كلها، بل أصبحت مجرد وجهة نظر، أصبحت الدولة عبارة عن دويلات، تحكمها ميليشيات الأحزاب الحاكمة باللباس العسكري الرسمي؛ فلكل حاكم دويلته، عسكره، إقتصاده، جامعته، مدرسته، خدماته، وقضاءه.. إلخ.

في المقابل، ووفق المفاهيم الحديثة، بات الوطن متعدد الجنسيات والألوان والأعراق والهويات. هو ملجأ المستضعفين والباحثين عن مكان يحترمهم ويصون كراماتهم. هو وطن المهاجرين الهاربين من جحيم بلادهم وقذاراتها. وطن العالم الحديث هو الدولة الديموقراطية الحرة العادلة التي تحترم ناسها قبل دستورها. دولة القانون والمؤسسات والعدالة.

مات الوطن وماتت معه الدولة، فلا وجود لرجالات دولة. لقد ماتوا ورحلوا، تاركين للمؤمنين بالدولة مرارة الذكريات والحياة الصعبة عند كل إشراقة صباح على يد بعض زعماء الحرب والطوائف

أي وطن ينتظرنا أو ننتظره؟

وراء الحدود، هناك العديد من الأوطان تنتظرنا، أما ما كان مفترضاً أن يكون وطننا، فلم يعد موجوداً سوى في الذكريات والأهل وبعض الصور. هذه هي الحقيقة القاسية للأسف.

في وطننا السابق، باتت الأزمات بنيوية وأعجز من قدرة أي قادر على إيجاد حلول لها. الكل يكره الكل والكل يخاف من الكل والكل يريد أن ينتقم من الآخر. الآخر يُفترض أن يكون شريكاً لكن لا أحد يريد إلا شراكة ذاته الطائفية والمذهبية والمناطقية. الكل يكره الوطن والكيان والدستور وحتى الهوية. يفضلون كياناتهم وهوياتهم الصغرى. يقيمون المتاريس، يتقاتلون، يتناحرون، من أجل بعض المكتسبات الطائفية والحزبية والشخصية.

مات الوطن وماتت معه الدولة، فلا وجود لرجالات دولة. لقد ماتوا ورحلوا، تاركين للمؤمنين بالدولة مرارة الذكريات والحياة الصعبة عند كل إشراقة صباح على يد بعض زعماء الحرب والطوائف.

فعلياً لم نختبر في لبنان وجود الدولة أو قيامة الدولة إلا في زمن الرئيس الراحل فؤاد شهاب. أما ما تسمى دولة، في يومنا هذا – وان كنت أختلف مع كثيرين في هذه النقطة – فهي تُصنّف، بحسب علم السياسة، “دولة فاشلة”. فالدولة الفاشلة في المفهوم العلمي للسياسة “هي الدولة التي تفقد السيطرة على وسائل العنف، ولا يمكن أن تخلق السلام والإستقرار لسكانها أو السيطرة على أراضيها، ولا يمكنها ضمان الأمان والنمو الاقتصادي ولا حتى التوزيع المعقول للخدمات الإجتماعية”. هي دولة تعتمد العنف وسيلة وتتميز “بعدم المساواة الإقتصادية”، وبوفرة “أمراء الحرب” فيها.

هذا التعريف العلمي ينطبق على لبنان بجميع مكوناته، وما أبشع كلمة “المكونات” التي صرنا نستعيرها من “النموذج العراقي”. أما وأننا تخطينا مرحلة الدولة الفاشلة وخصوصاً عقب الإنهيار الإقتصادي والمالي في العام 2019، ومن ثم إنفجار مرفأ بيروت في العام 2020، وانحلال المؤسسات، والإنعدام الكلي للخدمات والأمن بأنواعه كافة، والأخطر هو ما يجري من فرط منظم للقضاء.. لا يُمكنني سوى نعي الوطن والدولة وآخر ما بقي من مؤسسات.

فالشغور الرئاسي الحاصل والمتكرر لا يعني فقط عقم النظام وانسداد آليات الحكم. بل يعني وبكل صراحة نهاية وطن راهنا جميعاً في فترة ما أنه بمقدورنا إعادة بنائه. فرئيس الجمهورية هو رئيس كل الوطن وليس رئيس جمهورية طائفته، كذلك الحال مع المواقع الدستورية الأخرى. وإذا كانت المكونات الأخرى قد أخطأت بربط الموقع بمكون ما ـ أي الطائفة – لتسمية رئيس موقع معين، وأعني هنا الطائفة الشيعية، فهذا لا ينبغي أن يكون القاعدة ولا حتى العرف ولا يجب ان يخطر في بال أيٍ من صُنّاع القرار.. وإذا كانت الطائفة الشيعية قد أخطأت، على المكون المسيحي المؤسس للكيان أن لا يُصحِّح الخطأ بخطيئة وربما خطايا. بل كان عليه وعلى المكونات الأخرى أن يُصوّبوا المسار لتكون المواقع وطنية جامعة وليست طائفية ومذهبية ضيقة. فالمنطق الطائفي الحزبي أنهك الدولة وأنهاها وأنهى معها أي طريقة محتملة لإنعاشها أو إعادة إحيائها.

لقد كان ينبغي عليهم إدراك خطورة المس بالنظام وإدراك معنى الدولة الحديثة. لقد انتهى كل شيء، لأن السقوط العامودي الحر للدولة الفاشلة كان أقوى من قدرة أي أحد على إيقافه.

وما الفراغ أو الفراغات والفوضى العارمة إلا حالة من السُبات العميق بعد الموت. فالوطن ممدد ينتظر من يدفنه.. إن وُجِد. أما نحن، فقدرنا العيش مشتتين في أصقاع الأرض، نحارب كل يوم من أجل البقاء. فلعنة موت الوطن قد أصابت كل أبنائه في الداخل والخارج.

إقرأ على موقع 180  هُم يدرون ماذا يفعلون.. ونحنُ ما عسانا فاعلين!

لفلسطين حجة وقضية لأن من قتل الدولة وشتّت شعبها هناك، هو عدو مستعمر أتى من الخارج.. أما نحن، فمن هو عدونا يا تُرى؟

Print Friendly, PDF & Email
هاني عانوتي

باحث، أستاذ جامعي لبناني

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  "جمرات" منير شفيق.. تلسع ذاكرتنا