إنجازٌ عظيمٌ لا يُقاس ولا يُقارن بالدماء التي سالت. إنجازٌ بحجم معادلة: أسرى مقابل أسرى. عينٌ بعين. قوةٌ بقوة. وحقٌّ يعلو ولا يُعلى عليه.. لكن، في مكان آخر، ثمّة إنجاز من نوع مختلف أيضاً..
لم يُفرج عن الأسرى في فلسطين وحسب. لقد تمّ الإفراج عن الكثير. أيام كثيرة تداعت، أُسِرت فيها الأرواح والعقول في واقعٍ من القهر والخيبة، وبقيت فيها الصدور ضيّقةً حرجةً كأنّما تصّعّد في السّماء، اللهم ما عدا أصحاب اليقين الراسخ، والعقيدة الدينية الإنسانية المتكاملة، ممّن يظلّ الأمل طريقهم، والتسليم دربهم، والعمل مبتغاهم، والحب ديدنهم، وتلك صنعة الإيمان الأجمل.
بين إيمان وآخر، ثمة فرق. فرقٌ بين واحدٍ يُنتج الإسلاموفوبيا، وآخر ينتج جذوة حبّ الإسلام. سنوات وأعوام مرّت، كان الخوف فيها من الدين الإسلامي ومن يظهره حقيقةً واقعةً. صحيحٌ أنّ التثقيف والدعاية الاستعمارية شكّلتا سبباً مباشراً في ذلك، لكنّ ما نتج عن حركات الإسلام السياسي المعاصرة من قمع وعنف، جعل من الخوف من الإسلام ظاهرة ليست غربيّة فحسب، إذ هي نمت شيئاً فشيئاً في بلداننا أيضاً، وبين شعوب المنطقة العربية والإسلامية.
المسعى السياسي للإسلاميين، الذين فرزوا العالم فسطاطين، بين جاهلية وإسلام، واعتبروا أن رسالتهم في الحياة منوطة بالسعي إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وتفعيل حاكميتها.. شكّل هذا الهدف مصدراً أساسياً لنفور البعض من الإسلاميين أولاً، ثمّ من الإسلام نفسه ثانياً، وفق اعتبارية أنه دين ودنيا، ولا سيما بلحاظ التفسيرات المختلفة والاجتهادات المتعددة لكيفية تطبيق الشريعة في العصر الراهن، ومدى إمكانية تسييل الأحكام القضائية الواردة في القرآن بحرفيتها أو تأويلها، وغير ذلك من تباينات كثيرة داخل المذهب الواحد، لا داخل الدين الواحد وحسب. وهذه التباينات، خصوصاً في تداعياتها السياسية، كانت سبباً واضحاً، حاضراً وتاريخياً، للعديد من الإقتتالات المذهبية والصراعات البين-إسلامية. ولم تكن محاولات رأب الصدع والدعوة للوحدة الإسلامية سوى للتأكيد على ضرورة حاكمية الإسلام، توحيداً للصفوف، لأجل تفعيل هذه الشريعة على أرض الواقع.
هكذا، عكست الشاشات بعد السابع من أكتوبر جمالية دينٍ عريق منغرس في وجدان الملايين في العالم، فيما غاب عن الشاشات نفسها، وعن القضية الفلسطينية، أولئك الذين أرهبوا الداخل والخارج بـ”مشروعهم الإسلامي” في السنوات الماضية
وفي ظلّ عالمٍ تتسارع أحداثه وتتلاقح أفكاره وتنتفي حدوده، وبلحاظ التغيّرات الحاصلة بالضّرورة في الذهنية المعاصرة لإنسان اليوم، بغض النظر إن كانت نحو الإيجاب أو العكس، فإنّ الشريعة بأحكامها المختلف عليها باتت تشكل عند الكثيرين قيداً تاريخياً يريدون التخلص منه، وفرضاً لا يواكب العقلية الحديثة حتى لو تمّت عصرنته. بل أنها باتت، عملياً، وجهة نظر المجتهد نفسه التي تم رفعها إلى مرتبة الحقّ والقداسة. وعندما تتعدد وجهات النظر “المقدسة”، وتتسابق في فرض نفسها على الواقع، فمعنى ذلك ـ كما انتبه الكثيرون ـ أن لا حتميّة لرأي أحدهم إلا بمقدار ما يمتلك من قوّة تجبر على فرض هذه “الحتمية”.
وبما أنّ الصراع على المقدّس السياسي دونه الكثير من تدنيس الإنساني، قفز البعض سريعاً فوق الإسلام، واعتبره ولاّداً بنيوياً للانقسامات والتفرقة وانتهاك الحريات ما دام المسلمون يُصرّون على أنه دين ودنيا.
هكذا، تطور الأمر من نفور إلى كراهية وخوف. لقد كرّس العقد الأخير أزمةً حقيقية تحت عنوان الإسلام والإسلام السياسي والإسلاموية وغير ذلك من مسميات، وتُوِّجت هذه الأزمة بتنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا لا في الغرب فحسب، بل بين شعوب المنطقة أيضاً، خصوصاً عند غير الإسلاميين منهم.
شاءت عمليّة “طوفان الأقصى” أن تُحرّر صورة الإسلام – أقله في البيئة العربية – من هذا الأسر الذي وُضعت به. عاد هذا الدّين رمزاً للثّورة ضدّ الظّلم، وجامعاً لكلّ المناهضين للعنصرية والتكبر والاستعمار، ودرساً في الصبر والتحمل والاحتساب لله، ومعلش، وخذ حتى ترضى يا الله. لقد عاد في الحمدلة بعد الأسى، وفي اليسر بعد العسر، وفي التضامن بعد التفرقة، وفي الصلاة بعد الفقد، وفي روحنة الإنسان بعد تهديم العمران. عاد في حسن التعامل مع أسرى الحرب، وجميل الكلام في مواقف العزاء، وعظيم الكبرياء في مواطن الحزن.
إنها عودة للإسلام الرحماني ببعده الإنساني العظيم، وبوصفه عاملاً مساعداً في التحرّر وبناء الإنسان الصلب المُكرّم. هكذا، عكست الشاشات بعد السابع من أكتوبر جمالية دينٍ عريق منغرس في وجدان الملايين في العالم، فيما غاب عن الشاشات نفسها، وعن القضية الفلسطينية، أولئك الذين أرهبوا الداخل والخارج بـ”مشروعهم الإسلامي” في السنوات الماضية.
شيء من التوازن في المشهد فرضه “طوفان الأقصى”. بعضٌ من الروح، جميلٌ من الإيمان، امتيازٌ للخير وتحريرٌ من الإسلاموفوبيا، سيمتد تباعاً مع الأيام، وسيفرض هدنة بين الأنفس في صراعاتها الداخلية، ليرسم شيئاً من الاعتدال، وباباً نحو المزيد من الأنسنة والعقلنة والرّوحنة.
كان “الطوفان” عظيماً… لقد حرّر الإسلام.