الغدّار واللوّام والمستبدّ والمسيطر والمنافس والفاشل والمراوغ، هم مَن يشبّههم كاتبنا، بأصابع الديناميت التي تفجِّر كلّ ما يدور حولها. فهؤلاء، كما بيّنت له دراساته، أناسٌ مثيرون ومذهلون وأقوياء. يوجِعون مثل ألمٍ حقيقي في الخاصرة، أو شوكةٍ في العين. ويركّز Fuller على فئة الأشخاص المراوغين، والذين يصفهم بـ”لصوص الحياة”. يكتب عنهم ويستفيض في النعوت؛ فيقول إنّنا نجدهم بين الكسالى والمخادعين والمغيظين وخبراء الهروب والتملّص والمجرمين الجبناء. وأكثر. يعجز المراوغون، كما يؤكّد، عن تحمّل المسؤوليّة في أيّ مجال من المجالات. فتراهم يحورون ويدورون حتى يخرجوا، بالحيلة والخداع، من المأزق. لذا، بإمكانهم أن يتملّصوا من أكثر الضمانات إلزاماً، أي من تلك التي لا لبس فيها ولا إشكال.
وينقسم المراوغون إلى فئاتٍ عدّة، لكنّهم يعانون، كلّهم، من رهاب المحاسبة. ترعبهم فكرة أن يدفعوا أثمان ما اقترفته أيديهم، وأن يتحمّلوا أعباء ونتائج ما ارتكبوه من موبقات. من هنا، فإنّ كلّ كلام معهم، عن محاسبة أو مساءلة أو شفافيّة أو تدقيق أو تراجع أو إعتراف بخطأ…، لا يُجدي نفعاً ولا طائلة منه. شكراً Andrew Fuller. فبعد طول تفكّر وبحث عن “سرّ” هذه الطبقة الحاكمة عندنا، وجدت الجواب. فهمت، من أين تأتي تلك الطاقة النادرة على فعل “اللّاشيء”، ومن ثمّ إعلان النصر. وأيقنت، أنّ هذه القدرة الاستثنائيّة على التعطيل، تكمن في استمرارهم بقيادة البلد في سيّارةٍ، ناقلُ حركتها وسرعتها (vitesse)، مُثَبَّت، دوماً وأبداً، على الـ point mort. جملة أسئلة تجول في البال.
حكامنا ليسوا أغبياء، إتّفقنا على ذلك، وإنْ كانوا كاملي الأوصاف المقيتة. لكنّهم ليسوا أذكياء بل متذاكين
لماذا يفعلون ذلك؟ لماذا هذا الإصرار من جانبهم، على إبقاء الأحوال حيث هي من السوء، أو دفعها نحو الأسوأ؟ لماذا هذا العناد على التسلّح بالعجز والفشل والشلل والفراغ، والبلد على قاب قوسيْن أو أدنى من الاندثار؟ لماذا هذه المراوغة المستدامة، ولبنان يقف وحيداً بين كلّ بلدان العالم، ينتظر ما بات يوصف بلحظة “الارتطام الكبير”؟ الجواب يفوق قدرتنا على التخيّل.
يدفعون ملايين الدولارات لشركة تدقيقٍ مالي أجنبيّة، وهم يعرفون، سلفاً، أنّ قوانين بلدنا ستقطع عليها طريق النجاح في مهمّتها. يلوّحون بمشروع قانونٍ انتخابي مفخّخ، وهم يعرفون، سلفاً أيضاً، أنّه سيستنفر العصبيّات الطائفيّة وسيموت في المهد. يصوّت البرلمان على قرار، فيلهو به النواب قليلاً مع جماعاتهم في الخارج، ومن ثمّ يسقط بداعي تعدّي السلطة التشريعيّة على صلاحيّات السلطة التنفيذيّة. عجيبٌ غريبٌ، أمر هذه الطغمة الحاكمة المطبقة على أنفاسنا! “سلوكها” يعزّز سمعتها الوسخة في كونها ساقطة أخلاقيّاً. وأعود وأسأل نفسي، لماذا يفتعلون هذا الجحيم؟ الأمر ملتبس وغامض وأكثر من محيِّر. لكن، إذا اتّبعنا ما يقوله علم المنطق، ودقّقنا في الدوافع والأسباب والمسبّبات والخلفيّات والمعطيات والجهات المستفيدة ممّا يفعلون (لا يفعلون؟)، نصل إلى استنتاجٍ وحيد، أحتفظ به لنفسي!
لكنّ المضحك المبكي، أنّ أركان الطبقة الحاكمة يستغربون كره الناس لهم وحقدهم عليهم، بينما هم منهمكون بالمصلحة العامّة. يقولون في هذه المصلحة العامّة، “ما لم يقله مالك في الخمر”.
جمهوريّة الفراغ ورُعيانها، يمضون الأيّام في انتظار ما سيسفر عنه عضّ الأصابع بين صبيان الحُكم. أو كيف ستقفز الأرانب من الأكمام. وكم ستكون غلّة كشّاشي الحمام.. وهكذا. مهمّات جسيمة وأشغال عظيمة وأهداف جليلة القدر. إنّها كوميديا دانتي الإلهيّة، بذاتها. ممثّلون مسرحيّون، يصفّقون لأنفسهم في عرضٍ لم يفقه منه الجمهور أيّ كلمة. يا ربّي، هل هم أغبياء؟ نعم وكلا. لكنّهم، بالتأكيد، يعشقون الأغبياء، مثلهم مثل معظم الحكّام الفاسدين والقمعيّين. في أحد عروضه المسرحيّة في سلسلة الـ Stand-up Comedy، يقول النجم الكوميدي الأميركي George Carlin “الحُكّام لا يريدون شعباً يملك روحاً ناقدة، بل عمّالاً مطيعين. يريدون أشخاصاً أذكياء، بما يكفي، لتحريك الآلات. ويريدون أشخاصاً أغبياء، بما يكفي، لقبول الوضع الذي يعيشونه”.
حكامنا ليسوا أغبياء، إتّفقنا على ذلك، وإنْ كانوا كاملي الأوصاف المقيتة. لكنّهم ليسوا أذكياء بل متذاكين. إنّهم يتذاكون (ولا سيّما مع الجهات الدوليّة) ويستغبوننا، في الوقت عينه. ببساطة، يسخرون من عقولنا التي تبقى دون مخطّطاتهم الجهنّميّة. إنّهم يستغبوننا، كما قلت لكم. الاستغباء، وما أدراك ما الاستغباء! هو ذاك الفعل الذي يكون لصاحبه قصدٌ معيّن، أو نيّة مسبقة مع العمد والإصرار من وراء اقترافه. ويعتقد أنّه يستطيع تمريره، من دون أن يلاحظ الشخص المُستَغبى “حجم الضرر” الموجود فيه أو الذي سينتج عنه. وهذا الاستغباء، يتأتّى من القدرة الهائلة على المراوغة (أشرنا إليها آنفاً)، والتي تشكّل الركن الأساسي في عمليّة كيّ الوعي لدى “مَن نراوغه”. ما هو كيّ الوعي؟
بعض المواطنين اللبنانيّين، ممّن ضاقوا ذرعاً برعي بقرة وخروف ودجاجات هذه السلطة، لم يعودوا يُخْفون تحسّرهم على أيّام الاحتلالات. بل، باتوا يعتبرون أنّ ويلات الحروب كانت أرحم
هناك قصة تُروى، عادةً، لتعريف هذا المفهوم. يُحكى، أنّ رجلاً ذهب، يوماً، إلى الوالي ليشكو إليه ضيق بيته، وكان يتطلّع إلى أن يمنحه هذا الوالي بيتاً أكبر. فوعده الأخير ببحث أمره، شرط أن يقبل بتنفيذ شروطه خلال ثلاثة أيّام، فوافق صاحبنا. في اليوم الأوّل، أرسل الوالي إلى الرجل بقرة ليستضيفها. وفي اليوم الثاني، أرسل إليه خروفاً ليرعاه بجوار البقرة. وفي اليوم الثالث، أرسل إليه مجموعةً من الدجاجات ليرعاها، أيضاً، بجوار الخروف والبقرة. ضاج الرجل وضاق صدره، فهرع إلى الوالي، وقال له: “لم أعد أريد شيئاً يا مولانا! لا أريد بيتاً كبيراً كما طلبت. أتوسّل إليك أن تعيد إليّ بيتي القديم”. وهكذا، تنازل الرجل عن كلّ “طموحاته”، وتقزّم هدفه ليصبح مجرّد استعادة ما كان لديه، ليس إلاّ. وتخلص الحكاية للقول، إنّ ذاك الوالي قد كوى، بحنكته، وعي الرجل الطموح المسكين. بحيث، بات يتقبّل وضعه، ويسلّم بالأمر الواقع ولا يعد يراه مريراً! أليس حالنا في لبنان، مثل حال هذا الرجل؟ على الأرجح، بلى.
فهذه هي الطريقة المتَّبعة من دولتنا المصون، لتقنع اللبنانيّين بحالهم القائم. ولتقنعهم بأنّ لا بديل عن فرقة “الكشّافة” الموجودة حاليّاً في الحكم. أقوالهم وأفعالهم (المقيتة) تبعث برسالةٍ واحدة وحيدة للشعب “نحن أو لا أحد. لا بديل عنّا لحُكمك. فتغيير أيّ مسمار في هيكل هذا النظام سيفضي إلى الخراب. ومحاسبة أيٍّ منّا ستشعل الحرب وتريق الدماء…”. وعلى هذا المنوال، نشطت مَكَاوي السلطة. وعلى هذه الشاكلة، ينشط كوّاؤو الجمهوريّة. عجباً! فاللبنانيّون الذين فجّروا، ذات 17 تشرين، واحدةً من أرقى الثورات في التاريخ المعاصر، ها هم اليوم (معظمهم؟) يتقبّلون من حُكّامهم، أيّ شيء ومطلق شيء. لماذا؟
لأنّهم دخلوا في نفق الإحباط. فالثورة التي نادت بمحاسبة “عصابات السرّاقين” وسدنة الفساد ولصوص النظام وحيتان المال والنهب ورجال الأعمال المرتبطين بالخارج، لم تستطع أن تهزّ كرسيّاً من كراسيهم. فلا يزالون هم أنفسهم حيث هم، على الرغم من خسارتهم كلّ شرعيّة. وعلى الرغم من نبذ الداخل لهم واحتقار الخارج لهم. لا يزالون إلى هذه الساعة يحافظون، صغارهم وكبارهم، على كافّة مواقعهم في كلّ مفاصل الدولة. ولا يزالون يشكّلون، الأعمدة المركزيّة للدولة العميقة الممتدّة أذرعها إلى كافّة مكوّنات السلطة. نراهم يستشرسون في الدفاع عن “حقوقهم”، وفي إنكارهم، بالمقابل، لحقوق الناس. لكنّهم، وبما أنّهم كووا الوعي اللبناني، جعلوا الشعب مستعدّاً وراضياً وقابلاً لتدبّر أمره، كيفما كان وبما تيسّر ومهما كانت النكبات. إنّها المأساة بعينها. إنّها الهزيمة بذاتها. وأكثر من ذلك بكثير، يا أصدقاء. فبعض المواطنين اللبنانيّين، ممّن ضاقوا ذرعاً برعي بقرة وخروف ودجاجات هذه السلطة، لم يعودوا يُخْفون تحسّرهم على أيّام الاحتلالات. بل، باتوا يعتبرون أنّ ويلات الحروب كانت أرحم. كانت نزهة مقارنةً مع ما يعانونه اليوم.
أضحت الثورة، بفضل هؤلاء، ثروةً منهوبة، مثلها مثل ودائع اللبنانيّين في المصارف. هل هي النهاية؟ نحتاج في لبنان إلى ترميم جزءٍ من وعينا الجمعي. نحتاج إلى تحصين هذا الوعي، وإلى تقوية مناعته أمام عمليّات الكيّ
بماذا يمكن توصيف حال شعب لبنان اليوم، بغير “المستسلم”؟
بطبيعة الحال، ليس المجال هنا للتنظير وإعطاء الدروس، بل لمحاولة فَهْم ما يحصل. بالتأكيد، هذه الطبقة السياسيّة، الأسوأ في تاريخ لبنان والبشريّة جمعاء، قد تكون متعجّبة، هي الأخرى، من هذا الصمت المطبق للناس، وسط هذا الضجيج للمآسي! ما هذا الذي يحدث لنا؟ سألتُ أحد أصدقائي، وهو من اللغويّين وأستاذ في علوم التربية. إنّها “الرضّة النفسيّة”، أجابني (وكنتُ أسمع لأوّل مرّة هذه الترجمة لـ traumatisme). صحيح. الرضّة تؤلم عندما نتحرّك. فلماذا ننكأ الألم؟ ومن أجل ماذا؟ والسؤال الأخطر، من أجل مَن؟
“نحن شعب مغلوب على أمره. وهؤلاء المجرمون قوّة الله ما بتشيلهن (تقلعهم) عن كراسيهن”، هكذا يردّد كثير من اللبنانيّين اليائسين، عندما يعطيهم المراسلون الصحفيّون المجال للكلام. قرأتُ مرّةً هذه المقولة “تذكّر دائماً يا إنسان، أنّ أحداً لا يستطيع أن يؤذيك من دون إذنك”. ربّما هذا صحيح. لكنّ الأكيد أنّ صاحب هذا القول، لم يزر يوماً لبنان! لم تسنح له الحياة أن يتعرّف على “ظاهرة” نخبة الشخصيّات التي تتحكّم فينا. شخصيّات تنشط تحت شعار “مَن تغوّط في سروالي؟” (تذكّرتم طبعاً طفل Fuller). وبعد؟
الصراع في لبنان، يشبه صراع خلايا الجسد الواحد الذي استفاق على مرضٍ عضال. فبدأت هذه الخلايا تقاوم الورم الخبيث، والذي عرّاه انكشافٌ مفاجئ لأركان طبقةٍ غير مسبوقة من السياسيّين. بحيث، أضحت الثورة، بفضل هؤلاء، ثروةً منهوبة، مثلها مثل ودائع اللبنانيّين في المصارف. هل هي النهاية؟ نحتاج في لبنان إلى ترميم جزءٍ من وعينا الجمعي. نحتاج إلى تحصين هذا الوعي، وإلى تقوية مناعته أمام عمليّات الكيّ. والأهمّ، نحتاج إلى الانسحاب من كلّ العلاقات السامّة التي فرضتها علينا هذه الزمرة الحاكمة.
كلمة أخيرة. بحسب علم النفس العيادي، هناك علامات في العلاقات السامّة، توقظ وعي الإنسان المكوي والغارق في دوّامة التخدير، جرّاء السمّ الذي تجرّعه على دفعات. لكنّ هذه العلامات تخبره، بأنّه قد حان وقت المغادرة. إقتضى أن نغادر هذه العلاقات السامّة… قبل فوات الأوان.