فجر يوم الخميس الماضي، قرّرت فتاة في ريعان شبابها أن تنهيَ حياتها برمي نفسها من على شرفة المكان الذي تسكنه في العاصمة بيروت. مرّ الخبر مروراً صامتًا على كلّ الوسائل الإعلامية، فلم يسمع أحد ضجيج تلك المشاعر الهدّارة التي أودت بها إلى تلك اللحظة ـ النهاية. ربما قررت فعل ذلك في وقت لا أضواء فيه، لا ضجيج، لا إعلام يلتفت إليها أو يهتم برحيلها.. هكذا، خلال دقائق قليلة، وُضعت في صندوق سيارة الإسعاف وذهبت في رحلتها الأخيرة وحيدة كما كانت دائمًا.
تُعيد جمع ومشاهدة كلّ الصور التي جمعت تلك الفتاة برفاقها ورفيقاتها أو بك شخصيًا، فيزداد الألم والحسرة كيف أنك لم تستطع أن تفعل شيئًا لإنقاذها، أو كيف لم تشعر بكلّ هذا الوجع المتأصّل فيها، فلم تبذل جهدًا لتخفيفه أو مداواته..
فجأة، تستيقظ تلك الذاكرة اللعينة، فتعيد إليك صورًا ومواقف لم تجد تفسيرًا لها في لحظة ما، فتدرك أكثر وأكثر حجم الحسرة لأنّك فهمت ـ أو تحاول أن تفهم ـ لكن بعد فوات الأوان، ما كان جليًا أمامك من سنين خلت. مراهقة تشاركنا معها لحظات تعليمية لم تحجب يومًا شريط آلام وأحزان كانت مطبوعة في عيونها وكل ملامحها. لم تكن ترى الأمور من نفس المنظور الذي يرى منه باقي زملائها/زميلاتها في المدرسة. لقد كان عمرها الافتراضي أكبر بكثير من عمرها الحقيقي.
هذه القصة لم تبدأ اليوم، بل بدأت ربما مع وصول هذه الإنسانة إلى الدنيا. وجدت نفسها بلا حضن وبلا عاطفة وسط عائلةٍ مفككة. كانت بأمس الحاجة إلى الدفء والحضانة والمحبة لكنها لم تجدهم إلا تارة في بعض أهالي زملاء الدراسة وطورًا في أستاذة كانت تحاول تلمس معاناتها اليومية من دون أدنى قدرة على التغيير، ولو أن هذا الإصغاء كان له دور كبير في التخفيف.
كم مُنتحر نحتاج بعد لندرك أنّنا لسنا بخير. الآن فقط سيزداد إنكشاف كلّ شيء حولنا مع أزمة اقتصادية إجتماعية ستأكل من أرواحنا وأرواح من نُحب، ومع أناس سيبلغون حافة اليأس بسرعة كبيرة فتصبح خياراتهم ضيقة جدًا
مراهقة طفلة تحمل في قلبها مشاعر متضاربة من الحزن والخوف وعدم الأمان وجدت قبالتها مجتمعًا لا يحتضن إلّا المميّز القادر، بينما يُهمل صاحب الحاجة للمساعدة في مواجهة عواصف وتأثيرات متعددة الأبعاد. هذا المجتمع يُربي على ضفافه مشاريع إجرام وتطرف ثمّ يسأل السؤال الأبله ذاته: لماذا يحدث معي كلّ هذا، من المسؤول؟
في العام 2020، تقرر عائلة تزويج إبنة بعمر الطفولة، فتصبح الطفلة أمًا لطفل بعد حين فتدرك فجأة أنّها لا تستطيع الاهتمام بطفل وزوج ومنزل ومتطلبات حياة لم تعهدها سابقًا، فتكون كالذي رُمي في المياه لتعلّم السباحة فإمّا يغرق وإما ينجو، أو تقرّر الهروب لعيش طفولتها من جديد، وربما هذا حقها، فتترك خلفها طفلاً مع أب غير موجود أصلًا وساعٍ خلف إشباع غرائزه، وهنا قد تكون الغابة المعروفة بقساوتها ووحشيتها أكثر حنانًا من الإنسان، فلا تترك الحيوانات الغرائزية أبناءها قبل أن يتعلموا العيش وحدهم.
انعدام الأمان يدفع بالراشدين للقيام بتصرفات يراها المراقب من بعيد أنّها طائشة، فكيف بالمراهق، ربما يرى البعض الكثير من الإجحاف في تحميل المسؤولية للمجتمع ولكن من رضي وشجّع؟ من رأى الفتاة غير المتزوجة مصروفًا إضافيًا وعبئًا يجب التخلص منه؟ من أنزل الشاب الصغير إلى ساحات العمل ولم يعمل على توجيهه باكرًا للتعلّم المهني أو الأكاديمي؟
إنّه المجتمع، ويزيد عليه قعرٌ ننتظر الارتطام به من دون وسائد تحمينا. مجتمع يرى أن الجدّة التي تزوجت في عمر الـ 14 أو 15 سنة تشكل مقياسًا يجب أن تسعى كل البنات لتكون مثلها أو الطفل الذي حصل على شهادة السرتيفيكا ونزل إلى العاصمة للعمل في الشوارع والنوم بين المقابر وفي الغرف المستأجرة مثالًا، دون الالتفات أبدًا لكلّ التغييرات التي طرأت على المحيط، ودون دراسة الاستعدادات الشخصية للأشخاص فيقومون بتربية الأبناء والبنات بطريقة مغايرة لما ينتظرونه منهم فلا تعرف الفتاة ما هي الاستقلالية ولا طعمها ثمّ يُطلب منها أو يسمح لها ـ لا فرق ـ الزواج في عمر أقل ما يقال فيه أنه عمر الطفولة.
كم مُنتحر نحتاج بعد لندرك أنّنا لسنا بخير. الآن فقط سيزداد إنكشاف كلّ شيء حولنا مع أزمة اقتصادية إجتماعية ستأكل من أرواحنا وأرواح من نُحب، ومع أناس سيبلغون حافة اليأس بسرعة كبيرة فتصبح خياراتهم ضيقة جدًا. عندها، لن يبقى عند أمثال هذه الطفلة ـ المراهقة إلا المعضلة الأولى الشجاعة الجبانة في آن معًا، أي الانتحار.
نحن اليوم بأمس الحاجة للتكافل مع بعضنا البعض، فهذه الدولة قد انتهت وكل وهم أو سراب يحكي عن عودتها يجب إزالته لأنّه يساهم في تعميق الأزمة أكثر وأكثر، وكي تُبنى الدولة العادلة، بات المجتمع بحاجة، وأكثر من أي وقت مضى، إلى التضامن والتكاتف لحماية من هم أقل حظًا ودعمهم ومؤازرتهم أقله معنويًا كي يبقى عندهم للحياة، ولو مجرد معنى لطيف.
لروحك يا ريم كلّ سلام.