“حماية جعجع” أولوية سعودية.. بإنتظار التسويات الكبرى (2)

في لبنان، لطالما إرتبط إسم السعودية بالحريرية منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي حتى الأمس القريب. اليوم، لن يكون مستغرباً أن يحُلَ وليد البخاري ضيفاً على شاكر برجاوي في الطريق الجديدة، ولكن هيهات أن يزور ضريح رفيق الحريري لقراءة الفاتحة على روح الرئيس الشهيد.. لأسباب لبنانية وعربية، وحتماً سعودية أولاً!

في الحملات الإنتخابية اللبنانية عام 2022، ندر أن نسمع بإسمي رفيق الحريري والمحكمة الدولية. غابت أيضاً كلمة سوريا كلياً. لا أحد يهاجمها “ولو بوردة” ممن صنّفوا أنفسهم ضدها في زمن ما بعد إنتهاء “الوصاية”. حتى سمير جعجع نفسه “بلع” لسانه السوري وإستبدله بلسان “الإحتلال الإيراني”. إنها عدة الشغل. حزب الله وإيران مادة سياسية للتحشيد في الشوارع المسيحية والسنية تحديداً. حتى “مجزرة طرابلس” بـ”متفجرات المملوك” صارت “من صناعة إيران”، وليس مستبعداً أن يبادر المرشح أشرف ريفي إلى رفع هكذا شعار إنتخابي في ما تبقى من أسابيع إنتخابية فاصلة، لعله يضمن بذلك حاصلاً يُجيّره لمرشح “القوات” الماروني في عاصمة الشمال إيلي خوري (تصوّروا تداعيات زلزال فوز مرشح القوات في مدينة رشيد كرامي).

يزيد من طرافة المشهد الإنتخابي أن بعض المال الخليجي (الإماراتي والسعودي) يُصرف في بعض الدوائر الإنتخابية لمصلحة حلفاء هاتين الدولتين وسوريا وإيران في آن معاً. لنضع في الحسبان جيداً أن الخطوط الفرنسية والإماراتية مفتوحة مع القيادة السورية. واشنطن محبطة، كما باريس، من تجربة مجموعات “المجتمع المدني”. ثمة إستشعار بأنهم لو كانوا في السلطة “لكانوا أكثر تسلطاً من الحكام الحاليين”!

كان يكفي أن يقول الحريري كلمة واحدة للسعوديين: سأتبنى خطاب جعجع وأتحالف معه في الإنتخابات (مع جنبلاط الشريك الثالث). لو قالها لربما فكّر السعوديون بإستقباله وتمويل لوائحه، ولكنه قرر أن يقول عكسها. كان مستعداً للتحالف مع أيٍ كان لكن حتماً ليس مع القوات اللبنانية

لإيران حساباتها الإنتخابية بقوة أوزان حلفائها ولا سيما حزب الله. هل للسعودية حساباتها الإنتخابية بقوة أوزان حلفائها في لبنان أيضاً ومن هم هؤلاء الحلفاء؟

إذا كان للسعودية من حليف لبناني فهو سمير جعجع أولاً وأخيراً. هذه هي الحقيقة الراسخة منذ أكثر من خمس سنوات تاريخ وصول محمد بن سلمان إلى الحكم. الحليف الطبيعي والموضوعي للمملكة في لبنان هو كل من ينتمي إلى الطائفة السنية، أما وأن زعيمها قرر عدم المواجهة مع إيران وحزب الله في لبنان، في لحظة حاجة المملكة إلى عضلاته في حرب اليمن، فلا بد من “إستئجار” رمز للمواجهة. لذلك، تقدمت أسهم جعجع.

في إنتخابات العام 2018، لم يصرف السعوديون قرشاً واحداً لمصلحة سعد الحريري وتيار المستقبل. حصل العكس مع القوات اللبنانية. تسلم قائدها حوالي الـ 100 مليون دولار. صرف الرجل جزءاً بسيطاً من المبلغ في الإنتخابات وترتيب أوضاع القوات (بما في ذلك على الأمن) وإحتفظ بالباقي. حاول كثيرون ترتيب علاقتهم بالمملكة على مدى السنوات السبع الأخيرة من عهد سلمان، لكن فشل معظمهم إلا جعجع.. ووليد جنبلاط، برغم أن الأخير حُصِرَ التواصل معه من خلال قناة أمنية ولا يتوانى السعوديون عن القول إنهم لا يثقون به كلياً.

حصل ما حصل مع سعد الحريري في السعودية. فجأة أدرك الزعيم السني أن سمير جعجع صار ممره الإلزامي إلى المملكة، سياسةً ومالاً. لن تُفارق زعيم تيار المستقبل فكرة تآمر جعجع عليه، حتى عندما إستعان بعض مستشاري رئيس تيار المستقبل بجعجع للمساعدة في الإفراج عنه، في خريف العام 2017، أقله من باب العرفان بالجميل، كان الجواب في اليوم التالي عبارة عن تبن قواتي كامل للإنقلاب السعودي على الحريري!

من كان يعتقد للحظة أن بيروت وطرابلس ومناطق سنية أخرى في لبنان إستطاع زعيمها سعد الحريري “تبليعها” شعارات القوات اللبنانية إلى حد التماهي معها، يستطيع أن يقلب مزاج شارعه بلمحة بصر ضد القوات هذه المرة؟

نعم، نجح الحريري في “تسميم” (بالمعنى الإيجابي) عقول البيارتة ومعظم الجمهور السني تجاه القوات اللبنانية شريكة “الديوان” بمحاولة “دفن” الحريري سياسياً قبل نحو خمس سنوات، وهذا وحده خالف حسابات رئيس حزب القوات الذي كان يُجاهر أمام السفراء العرب والأجانب بأن الإنتخابات النيابية ستُفرز زعامة مارونية للموارنة.. وزعامة مارونية للشارع السني في لبنان يكون هو على رأسها وسيترجم ذلك بكتلة نيابية قواتية هي الأكبر وقد تتجاوز العشرين مقعداً نيابياً، فتكون له الكلمة الأولى رئاسياً!

كان يكفي أن يقول الحريري كلمة واحدة للسعوديين: سأتبنى خطاب جعجع وأتحالف معه في الإنتخابات (مع جنبلاط الشريك الثالث). لو قالها لربما فكّر السعوديون بإستقباله وتمويل لوائحه، ولكنه قرر أن يقول عكسها. كان مستعداً للتحالف مع أيٍ كان لكن حتماً ليس مع القوات اللبنانية مهما كانت كلفة هكذا خيار.. وهذا ما حصل. حاول كثيرون تفسير خيار سعد الحريري الأخير بأنه إما محاولة إستدراج عروض أو ضربة “تحت الزنار”. في الحالتين، كانت النتيجة واحدة.

لم يأت الخذلان فقط من “بيت الوسط”. المملكة نفسها خذلت “حكيم معراب” عندما قرّرت سحب سفيرها والإنكفاء عن لبنان في توقيت إنتخابي قاتل لجعجع. إستدعى الأمر مراجعات ورسائل وزيارات. “الإرتباك السني”، كما وصفه النائب نهاد المشنوق، أربك جعجع الذي كان يراهن على إستثمار الصوت السني، فإذا بالحريري يُثبت مجدداً أنه “المايسترو السياسي” للشارع السني في لبنان.

عودة السفير السعودي لا تعني عودة الديوان السعودي صانع القرار ومصرف المال. يفضي التدقيق السياسي إلى أنه برغم عودة البخاري لا عودة سعودية جدية حتى الآن، أبعد من الإلتزام بصندوق المساعدات الإنسانية بشراكة كاملة مع الفرنسيين ومن ثم بدعم المؤسسات العسكرية والأمنية اللبنانية ولا سيما الجيش اللبناني بشراكة كاملة مع الأميركيين. أما إذا كان مأمولاً للحركة السعودية أن تُحدث فارقاً في مسار الإنتخابات، فهذا الأمر يبدو مستبعداً حتى الآن، أقله بحسابات السعوديين أنفسهم، وأيضاً وفق تقديرات خبراء إنتخابيين، ففي إستطلاع للرأي في بيروت، أجراه مدير مكتب الإحصاء كمال فغالي، في الأسبوع الماضي، يتبين عدم قدرة لائحة فؤاد السنيورة (بيروت تواجه) على نيل حاصل إنتخابي واحد في الدائرة البيروتية الثانية. هذا المسار ليس بالضرورة ثابتاً. ثمة عناصر أربعة يجب أن تتوفر لكل لائحة: الماكينة الإنتخابية؛ الداتا الإنتخابية؛ الأموال الإنتخابية؛ والعنوان السياسي.

إقرأ على موقع 180  إسرائيل: هذا وقت "الضربة القاتلة" للإيرانيين في سوريا والعراق!

أمكن الحصول على فتات الداتا المستقبلية والعنوان السياسي (بيروت تواجه) ونجح السنيورة في إجتذاب رموز من تيار المستقبل أمثال سليم دياب وفايز مكوك وبلال العلايلي وراشد فايد وحسن منيمنة وطبعاً بشير عيتاني (المرشح عن أحد المقاعد السنية الخمسة في العاصمة). حاول التجسير في إتجاهات مناطقية عديدة، لكنه وجد حالة صدٍ إستثنائية، ولا سيما في الشمال والبقاع وصيدا. يحاول السنيورة القول للحريري إن السنة ليسوا مشاعاً معروضاً للإشغال أو البيع، لكن حقيقة الأمر أن رئيس الوزراء الأسبق “يحاول تأجير ما يُمكن أن يقبض عليه من أصوات المسلمين السنة للقوات ليوم واحد (15 أيار/مايو 2022)”، على حد تعبير أحد المقربين من الحريري.. والهدف هو تأمين فوز المرشحين القواتيين إيلي خوري (طرابلس) وطوني حبشي (البقاع الشمالي)!

منذ يوم الجمعة الفائت، بدأت أحياء العاصمة تستشعر ملامح إنفراجة مالية في حملة السنيورة الإنتخابية، مع البدء بإستئجار مكاتب إنتخابية في العاصمة وفتح مضافات بعد الإفطار (مياه وعصير فقط). تم حجز حوالي 400 لوحة إعلانية في العاصمة والضواحي. ثمة رهان على دفعات مالية جديدة ستصل قريباً. ينقسم الرأي هنا بين قائل بأن المال سيصل مباشرة عن طريق البخاري (الخلوة السرية التي جمعته بالسنيورة في دارة الأول باليرزة قبل ايام قليلة) أو أن المال الإنتخابي سيكون ممره الإلزامي سمير جعجع.. يجزم العارفون أن السعودية لا قرار عندها حتى الآن في كيفية التعامل مع الإنتخابات أبعد من دعم وتدعيم جعجع. هم يراهنون على العمل من فوق وليس من تحت، اي بالصياغات السياسية وليس بالمفرق. تجربة صرف مليارات الدولارات ونيل أكثرية البرلمان في العامين 2005 2009 كان مردودها صفرياً بالسياسة بالنسبة للمملكة، لذلك، يمكنك أن تصرف عشرات ملايين الدولارات وتصل إلى نتيجة مختلفة.. وحتماً أرخص وأفضل وأضمن!

بهذا المعنى، لا ترتبط ما تسمى “العودة السعودية” بملف الإنتخابات. يستفيد جعجع؟ حتماً نعم، بعدما آلمه “الإنكفاء”. هل المطلوب إنقاذ جعجع؟ حتماً سيقوم السعودي بواجباته (إنتاج كتلة نيابية للقوات تتفوق على كتلة جبران باسيل ولو بمقعد واحد)، لكن الأمر ليس نهاية المطاف بالنسبة إليه، فـ”الحكيم” هو معتمد المواجهة السياسية (الظرفية)، لكن عندما تنعقد التسويات الكبرى في الإقليم، تصبح الحاجة إليه شبه معدومة!

يبدأ الجد السياسي فور إنتهاء الإنتخابات. من سيكون رئيس الحكومة وهل ستكون المملكة شريكة في التسمية وحتى في إختيار الوزراء؟ وماذا ستكون حصة الرياض في البيان الوزاري؟ من سيكون رئيس الجمهورية في الخريف المقبل، وهل ستكون المملكة شريكة في التسمية؟

ما هي “أجندة” المملكة لبنانياً؟

إذا أمكن إعادة إستنهاض الشارع السني، يُمكن ضرب عصفورين بحجر واحد: أولاً، إظهار قبضة الحريري بأنها باتت رخوة في شارعه بدليل مشاركة أنصاره بنسبة قد تتراوح بين 25% و30% في الإنتخابات، وهذا المسار يفضي إلى جعل السنيورة “ممثل الإستنهاض السني” في مشروع التسوية السياسية المستقبلية (الصيغة). ثانياً، تجيير أكبر قدر ممكن من أصوات المسلمين السنة لمصلحة مرشحي حزب القوات اللبنانية، ربطاً بالإستحقاق الأبرز غداة الإنتخابات.

إذاً بحسابات معظم الخبراء الإنتخابيين، “ما كُتبَ قد كُتب”. سينال حزب الله وفريقه السياسي الأكثرية النيابية على طبق من ذهب (65 نائباً وما فوق)، وهذا الفريق لن يكون منسجماً في تعامله مع الإستحقاق الرئاسي، بل سيكون مجموعة من “المضارب السياسية”. بالمقابل، سيكون للفريق الآخر ثلثه المعطل، سواء بنزول السنيورة إلى الساحة أم من دونه. يبدأ الجد السياسي فور إنتهاء الإنتخابات. من سيكون رئيس الحكومة وهل ستكون المملكة شريكة في التسمية وحتى في إختيار الوزراء؟ وماذا ستكون حصة الرياض في البيان الوزاري؟ من سيكون رئيس الجمهورية في الخريف المقبل، وهل ستكون المملكة شريكة في التسمية أيضاً؟

لكل مرحلة عنوانها، لكن السعوديين يدركون بالعمق أن المنطقة محكومة بالتسويات في نهاية المطاف. في تلك اللحظة، يصبح السؤال الكبير: أي تسوية مطلوبة للبنان.. وعلى حساب من ستكون؟

لننتظر نتيجة الإنتخابات الرئاسية الفرنسية الأحد المقبل. يبدو أن مفاعيلها اللبنانية تتفوق بكثير على كل مفاعيل الإنتخابات النيابية اللبنانية.. للبحث صلة.

(*) الجزء الأول: السعودية تتحدث بالفرنسية في لبنان

Print Friendly, PDF & Email
حسين أيوب

صحافي لبناني

Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  لبنان عشية عفو عام عن أبشع جريمة مالية في التاريخ