أساطير أميركا.. بين ليبرالية الشمال وعبودية الجنوب

في كانون الأول/ديسمبر عام 1865، دخل التعديل الثالث عشر لدستور الولايات المتحدة بشأن إلغاء الرق حيز التنفيذ. كانت تلك الطريقة التي صاغ بها الشمال رمزياً انتصاره على الجنوب المالك للعبيد. 

من المرجح أن تصبح هذه الذكرى، التي تتزامن مع الانتصار الرسمي لجو بايدن في الانتخابات الأميركية، مصدراً للعديد من الرسائل الدعائية، التي ستتلخص في أطروحة واحدة: الشمال الليبرالي التقدمي الجميل والمتعدد الثقافات هزم مرة أخرى الجنوب العنصري الذي يمثله دونالد ترامب الرهيب.

لكن علينا بالطبع أن نلقي نظرة فاحصة على هذه الصورة ومنظورها التاريخي.

بعد كل شيء، بات مفروضاً علينا أن نتعايش مع أميركا “الجميلة” للشمال المنتصر، أو أميركا جو بايدن، أو بالأحرى تلك القوى التقدمية التي تقف وراءها.

ولكن نظرةً أكثر تمحيصاً، ولو قليلاً، ستكشف لنا صورة أكثر تعقيداً مما ترسمه وسائل الإعلام الليبرالية.

بادئ ذي بدء، سنتأكد من أن الحرب الأهلية الأميركية لم تكن حرباً لتحرير السود على الإطلاق، وأن كل خطاب الشماليين المناهض للعنصرية كان اضطرارياً إلى حد كبير، وأن ابراهام لينكولن نفسه لم يكن بأي حال من الأحوال من دعاة إلغاء الرق، كما يتضح من العديد من تصريحاته.

على سبيل المثال، قال لينكولن إن “هدفي الأسمى في هذا النضال هو الحفاظ على الاتحاد، وليس الحفاظ على العبودية أو إلغائها.  إذا كان بإمكاني إنقاذ الاتحاد من دون تحرير عبد واحد، فسأفعل ذلك. وإذا كان بإمكاني إنقاذه بتحرير جميع العبيد، فسأفعل ذلك. ولو كان بإمكاني إنقاذه بتحرير بعض العبيد وعدم تحرير آخرين، لكنت سأفعل ذلك” (مقابلة مع صحيفة “نيويورك تريبيون” في  22 آب/أغسطس 1862).

 صرح لينكولن مراراً وتكراراً أنه ليست لديه نية “للتدخل في عمل مؤسسة العبودية في الولايات التي توجد فيها”.

تبين في الواقع أن “عبودية الأجور” في الشمال الرأسمالي كانت أكثر خبثاً، وغير إنسانية في نهاية المطاف، مقارنة بالعبودية التقليدية في الجنوب

أما موقفه الحقيقي بشأن مصير السود المحررين فيتجلى بوضوح في  لقاء عام عقد عام 1862، عندما دُعيت المجموعة الأولى من السود إلى البيت الأبيض. يومها، قال الرئيس الأميركي إنه ينبغي على هؤلاء العودة إلى ديارهم في إفريقيا.

الحقيقة هي أن انتخاب أول رئيس جمهوري في الولايات المتحدة أثار غضباً شديداً لسلطات الجنوب وسكانه؛ ودعمت كافة الولايات الجنوبية (الزراعية) بقوة فكرة الانفصال ورفضت الشمال الصناعي – أو “اليانكيز الملعونين” و”كنيس لينكولن” كما أطلقوا حينها على الفريق الجمهوري الأول والمصرفيين الذين وقفوا خلفه؛ وأن سبب الصراع كان يكمن في برنامج حزب لينكولن – حزب الشمال الصناعي – الذي حكم على الجنوب بالانهيار الاقتصادي.

الحقيقة أيضاً هي أن الأميركيين في كل من الشمال والجنوب كانوا عنصريين، وأن العبودية الرسمية ازدهرت في الشمال كما في الجنوب، بالرغم من أن تسميتها كانت مختلفة.

على سبيل المثال، يمكن الأخذ في الاعتبار وجهة نظر الجنوبيين النموذجية للنظام الرأسمالي للولايات الشمالية: “إذا كان الآخرون يفضلون نظاماً للإنتاج يكون فيه رأس المال والعمل في صراع لا نهاية له، حيث يحد الجوع المستمر من الزيادة الطبيعية في عدد السكان.. فليكن ذلك. هذا هو عملهم، وليس عملنا. نحن نفضل نظام الإنتاج القائم لدينا، حيث للعمالة ورأس المال المصالح ذاتها، وحيث يحمي رأس المال العمل، وحيث يتضاعف عدد السكان كل عشرين سنة ولا يسمع أحد بالمجاعة” (روبرت ريت، “خطاب مواطني ساوث كارولينا لمواطني ولايات العبيد” – 25 كانون الأول/ديسمبر 1860).

تبين في الواقع أن “عبودية الأجور” في الشمال الرأسمالي كانت أكثر خبثاً، وغير إنسانية في نهاية المطاف، مقارنة بالعبودية التقليدية في الجنوب.

على سبيل المثال، لم يكن رجل الأعمال الرأسمالي مسؤولاً بأي شكل من الأشكال عن “عبيده المأجورين”، ما أجبرهم على العمل إلى درجة الإرهاق في مقابل أجر زهيد، وهو كان مستعداً لطردهم إلى الشارع في أية لحظة.

على العكس من ذلك، كان المزارع الجنوبي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مسؤولاً عن عبيده.

كان العبيد يعيشون في عائلات ومجتمعات لديها العديد من عناصر الحكم الذاتي، وكانت للعديد منهم مخصصاتهم الخاصة، علاوة على الثمار التي كان يمكنهم من خلالها التجارة في السوق. بالإضافة إلى ذلك كان كبار السن والأطفال العاطلون عن العمل يحصلون على نصيبهم مع العمال. باختصار، على عكس الرأسماليين في الشمال، الذين كان العمال بالنسبة إليهم مجرد مستهلكات غير شخصية، كان على صاحب الأرض في الجنوب أن يعتني بعبيده.

اختلفت النظرة العامة للجنوب المستنير حول العبودية عن آراء المثاليين في الشمال، واتسمت بقدر من الحس السليم والافتقار إلى الانفعال المفرط. كان هذا الرأي (الذي شاركه رئيس الاتحاد الكونفدرالي جيفرسون ديفيس والجنرال لي وغيرهم من الأرستقراطيين البارزين في الجنوب) كما يلي: هذه هي الطريقة التي ورثناها من أسلافنا. هذه حقيقة لا يمكن إلغاؤها بجرّة قلم. نعم، العبودية شيء مخز، ويجب إلغاؤها، ولكن يجب أن يتم ذلك تدريجياً. وقبل تحريرهم، يجب أن يكون السود مستعدين للعيش المستقل. ولهذا السبب قام الأرستقراطيون المتعلمون في الجنوب بالكثير في منتصف القرن التاسع عشر لتعليم السود كيفية العيش بشكل مستقل.

إقرأ على موقع 180  الصين تستعرض قوتها: جاهزون للسلم والحرب

لذلك، حتى ولو لم يتم كسر النظام الذي قائماً في الجنوب كنتيجة للحرب الأهلية، لرأينا بعد نصف قرن الصورة التالية: التعايش السلمي (بالطبع بشكل منفصل) للسكان البيض والمجتمعات السوداء التي نالت الحرية والاستقلال. في الوقت ذاته، فإن الحياة الأبوية في الجنوب ككل لم تتغير كثيرًا. في الواقع، نتيجة لـ”التحرير” و”إعادة الإعمار” اللاحقة، شهدت أميركا شيئاً يشبه ما ستختبره روسيا نتيجة للثورة الاجتماعية بعد نصف قرن.

تم تفجير النظام الأبوي في الجنوب وتفتت إلى أشلاء. نتيجة لما يسمى بإعادة الإعمار، حُرم البيض الجنوبيون من جميع الحقوق. من ناحية أخرى، كان السود يتمتعون بحقوق غير مسبوقة (برغم أنهم كانوا أقلية صغيرة جداً): لقد جلسوا في الهيئات الحكومية التي تشكلت منها فصائل عسكرية كانت تنفذ بدورها عمليات السطو والإرهاب ضد السكان البيض.

انعكست هذه الحقائق الرهيبة بعد الحرب، على سبيل المثال، في فيلم ديفيد غريفيث الشهير “ولادة أمة” (1915) ورواية “ذهب مع الريح” لمارغريت ميتشل، التي كتبت عن المحتالين الفضوليين في الشمال الذين هرعوا إلى الجنوب في ذلك الوقت.

ما يخبرنا به الواقع الأميركي اليوم هو أن عدد السود المسجونين والخاضعين للرقابة الإصلاحية (أي الذين مروا بنظام السجون) أكبر من عدد العبيد في عام 1850

لكن ماذا عن الشريحة الأكبر من السود؟ للأسف، تم خداعها بنفس الطريقة التي تم بها خداع الفلاحين الإنكليز خلال الثورة الصناعية، ومن ثم الروس في العام 1917.

“أربعون فدانا وبغل” – بمثل هذه الوعود أطعمَ اليانكيون السود، واشتروا أصواتهم في كشك “الانتخابات الديموقراطية” آنذاك. في الواقع، تحولت “الأربعين فدانا” في أحسن الأحوال إلى كأس من الروم والحرية الوجودية – مئات الآلاف من الناس أُلقي بهم في حقل فارغ في فقر مدقع.

سرعان ما ستندفع كل هذه الكتلة السوداء إلى الشمال- شيكاغو ومدن أخرى – وتسكن الأحياء الفقيرة وتصبح أداةً ملائمة في أيدي نفس دعاة إلغاء الرق الأذكياء من أجل إعداد ثورات جديدة ومشاريع جديدة تحت شعار “تحرير المظلومين”.

ما يخبرنا به الواقع الأميركي اليوم هو أن عدد السود المسجونين والخاضعين للرقابة الإصلاحية (أي الذين مروا بنظام السجون) أكبر من عدد العبيد في عام 1850. هذه هي نتائج “التحرير” خلال الحرب الأهلية. وهذه حقيقة يجب أخذها في الحسبان ، لأنه من دون بعض المنظمين العنصريين ، لا يمكن للمجتمع الأميركي الاستمرار، ذلك أن وجه الجريمة الأميركية أسود تاريخياً، وهذه أيضاً من تداعيات الحرب الأهلية.

على هذا الأساس، وبدلاً من الخطة التطورية للتنشئة الاجتماعية للسود التي اقترحها الجنوب ، تم تنفيذ سيناريو ثوري “لتحرير” دعاة إلغاء الرق.

اليوم، تبدو أيديولوجية الحزب الديموقراطي نسخة حديثة من أيديولوجية دعاة إلغاء العبودية (أعقب تحرير السود بروز حركات تحرر للأقليات الأخرى وحركات نسوية). يقف وراء هذا التوجه مبدعو نظريات “مدرسة فرانكفورت” و”الماركسية الثقافية” والنيوليبرالية.. إلخ.

هدف هذا الجمهور اليوم هو اشعال ثورة عالمية، أو بالأصح أناركية عالمية لنشر “الفوضى الخاضعة للسيطرة”. ليس الهدف أن تكون هذه “الثورة” داخل أميركا، بل هي في الواقع “حرب أهلية عالمية”.

فلاديمير موجيغوف – “فزغلياد” (روسيا)

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  ثقافة التمرّد بوجه الأحزاب.. لمصلحة المجتمعات