أن يخصص رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا فرنسيس مداخلتين على مدى أسبوع واحد للتحدث عن لبنان “فهذا يدل على اهتمام مميز وعلى عاطفة خاصة من قبل البابا فرنسيس حيال لبنان”، كما تقول اوساط متابعة لملف العلاقات الفاتيكانية – اللبنانية وهي قريبة من دوائر الكرسي الرسولي.
وتشير هذه الاوساط الى أن الديبلوماسية الفاتيكانية تتابع عن قرب وبشكل مستمر تطورات الوضع اللبناني، سواء عبر تقارير السفارة البابوية في حريصا أو مراسلات العديد من المراجع الدينية في لبنان والمنطقة مع روما.
كما تنشط دوائر الكرسي الرسولي مع كبريات عواصم القرار الدولية وفي مقدمها باريس. وتكشف هذه الاوساط عن أن “الأوضاع اللبنانية بكل مستجداتها وابعادها” كانت في صلب محادثات أجراها وزير خارجية فرنسا جان- ايف لودريان، في الاسبوع الاول من كانون الأول/ ديسمبر الحالي مع كبار المسؤولين في الفاتيكان وفي مقدمهم امين سر الدولة (بمثابة رئيس الوزراء) الكاردينال بيترو بارولين (زار لبنان إثر إنفجار مرفأ بيروت) ووزير الخارجية المونسنيور بول ريشار غالاغير.
ثمة تقارب كبير في مواقف كل من باريس والفاتيكان حيال الوضع اللبناني وخطورته في ظل الاجواء الاقليمية المضطربة “وضرورة تحمل جميع الفرقاء اللبنانيين مسؤولياتهم لانقاذ وطنهم”، كما يقول مصدر ديبلوماسي فرنسي، مشيراً إلى أن باريس وروما على تواصل مستمر وتشاور وثيق حيال التطورات اللبنانية.
في ظل هذه الاجواء، كيف تقرأ الاوساط القريبة من دوائر الكرسي الرسولي مضمون مداخلتي البابا فرنسيس الاخيرتين، الاولى، كانت عبارة عن رسالة خاصة الى اللبنانيين لمناسبة عيد الميلاد؛ الثانية، عندما خصّص فقرة مستقلة عن لبنان في رسالته التقليدية الميلادية “الى مدينة روما والعالم” يوم الخميس الماضي.
وقد فنّدت الاوساط المطلعة ابرز الرسائل والمعاني التي تضمنتهما المداخلتان البابويتان على الشكل الآتي:
أولاً، “رسالة جامعة” موجهة الى “جميع اللبنانيين بدون تمييز بين الطوائف”. وفي ذلك رغبة في التأكيد على ان الاهتمام الفاتيكاني يشمل لبنان بكامله والشعب اللبناني بجميع مكوناته، وهو نابع من الحرص على المصير المشترك لجميع المواطنين. رؤية الكرسي الرسولي ثابتة بالنسبة إلى “رسالة لبنان المميزة، رسالة حرية ومثال تعددية والعيش معاً واهمية هذه القيم الحضارية والانسانية ليس على الصعيد التجربة اللبنانية الداخلية وحسب بل ايضا لقيمتها العالمية كتراث من اجل خير العالم اجمع المثقل بالصراعات والمواجهات الدينية والاتنية والمجتمعية”.
ثانياً، “رسالة صريحة وصارمة” موجهة الى الزعماء السياسيين مع التركيز على واجبهم في “السعي وراء المصلحة العامة وضرورة تكريس عملهم ووقتهم في سبيل خدمة الشعب والوطن والدولة”. وترى هذه الاوساط ان جميع الفرقاء مدعوون، وبشكل ملح، الى “الالتزام بجدية وصدق وشفافية” إلى وضع مصالحهم الخاصة جانباً والتحرك سريعاً من أجل “وضع بلدهم على طريق الإصلاح عبر خطوات تنفيذية عملية وسريعة”.
لا تخفي هذه الاوساط انزعاج الدوائر الفاتيكانية من كيفية تعامل بعض المراجع الكنسية اللبنانية مع الاحداث حيث سجل غيابها الفاضح وتقصيرها الموجع في حين قامت مراجع اخرى بمبادرات محلية مرحب بها
ثالثاً، “رسالة حازمة ومباشرة” الى القادة الروحيين للاضطلاع بمسؤولياتهم حيال وطنهم وكنيستهم، وتشير الاوساط المطلعة الى مهمتين اساسيتين تنتظر هؤلاء. الاولى، على الصعيد الوطني لجهة لعب دورهم كاملا في تمتين الوئام ودعم التجدد. والمهمة الثانية على الصعيد الكنسي من خلال البقاء بالقرب من الرعايا والمؤمنين مع تحسس مشاكلهم ومصاعبهم والعمل على تفعيل اطر مساعدتهم في الامور المعيشية الحياتية.
وهنا تشدد الاوساط المطلعة على ضرورة احترام القيم والنذور والالتزامات المنوطة بكل عضو في الاكليروس (التواضع والتفاني والتجرد والخدمة). ولا تخفي هذه الاوساط انزعاج الدوائر الفاتيكانية من كيفية تعامل بعض المراجع الكنسية اللبنانية مع الاحداث حيث سجل غيابها الفاضح وتقصيرها الموجع في حين قامت مراجع اخرى بمبادرات محلية مرحب بها.
وتكشف هذه الاوساط ان المؤسسات الفاتيكانية قررت ارسال المساعدات الى لبنان لتوزع باشراف مباشر من السفارة البابوية وليس عبر الدوائر الروحية اللبنانية ومؤسساتها نظرا لفقدان عامل الثقة بها. ويبدو ان المراجع الكنيسة في لبنان، على غرار المسؤولين الرسميين في الدولة، تعاني من ازمة ثقة الخارج دولا وحكومات ومؤسسات اممية بها.
رابعاً، “رسالة رجاء وتشجيع” موجهة الى “الشباب الاحباء ابناء لبنان وبناته”. فالبابا مع تحسسه للخيبة التي اصابت هذه الطاقات الشابة حريص، كما تقول الاوساط، على محافظة هذه الشريحة الاساسية من الشعب على “الرجاء والابقاء على روح الاقدام والحيوية والثبات في الارض والتشبث بالانتماء الى الهوية المميزة وخصوصا عدم التخلي عن الحلم والامل بمستقبل افضل”.
خامساً، “رسالة الى المجتمع الدولي” يجدد فيها البابا مطالبته المجتمع الدولي مساعدة لبنان “سياسيا، من خلال ابقائه خارج الصراعات والتوترات الاقليمية، واقتصاديا، عبر دعمه للخروج من ازماته الحادة”.
واللافت للإنتباه ان الفاتيكان عند مناشدته المجتمع الدولي لم يأتِ على ذكر “الحياد” الذي دعا اليه البطريرك الماروني بشارة الراعي، وذلك لادراك دوائره الديبلوماسية، كما تقول الاوساط نفسها، “تداعيات هكذا التزام وضرورة توفير موجباته القانونية الدولية وتأمين ظروفه السياسية الداخلية ذلك ان المهم ليس اطلاق هذه الفكرة او تلك المبادرة بشكل اعلامي اعتباطي، بل ان الاهم تهيئة الاجواء السياسية الملائمة قبل اطلاقها والعمل على متابعة شروط ترجمتها العملية بهدف تأمين شروط نجاحها”.
الفاتيكان يرغب في ان تكون الزيارة البابوية للبنان “كاملة ومخصصة لبلد الارز وليس كمحطة لساعات” على طريق ذهابه او عودته من زيارته المتوقعة الى العراق
سادساً، “رسالة تعاطف وتضامن” شخصية من البابا فرنسيس من خلال الاعراب عن نيته زيارة لبنان. وتسارع الاوساط الى توضيح ان تسرع البعض في لبنان للقول ان الزيارة “قريبة” هو في غير محله لسببين اساسيين. الاول، ان الفاتيكان يرغب في ان تكون الزيارة البابوية للبنان “كاملة ومخصصة لبلد الارز وليس كمحطة لساعات” على طريق ذهابه او عودته من زيارته المتوقعة الى العراق (فكرة يروج لها في بيروت لغايات ربما مصلحية). السبب الثاني هو ضرورة توفر كل الظروف لتأمين نجاح مثل هذه الزيارة مع الاستعدادات الدقيقة والتهيئة المتأنية لها.
سابعاً، يدرك الفاتيكان، حسب الاوساط القريبة منه، ان الثقة مفقودة بالفرقاء السياسيين في لبنان وان الامل ضئيل بقدرتهم وبارادتهم على تحمل مسؤولياتهم التاريخية نظرا لخطورة الازمة المصيرية التي تهدد وجود كيان وطنهم. وبالرغم من ذلك، اراد البابا عبر هاتين الالتفاتين المميزتين حث المسؤولين والسياسيين اللبنانيين على التعامل بشكل “جدي ومقتع وشفاف” لمواجهة الازمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وذلك عبر السعي لاقناع اصدقاء لبنان بالعمل على اخراجه من عزلته ومد يد المساعدة اليه انطلاقا من مقولة “ساعد نفسك تساعدك السماء!”.