فرّت سنة الـ 2020 المسكينة، وهي تجرّ أذيال الخيبة واللعنات والمرض. إذْ قالت مصادر مطّلعة، إنّها قضت نحْبَها جرّاء إصابتها بالسلالة الجديدة لفيروس كورونا. وامتنعت هذه المصادر عن تأكيد، ما إذا كانت 2021 من “مُخالطي” السنة الراحلة. فإذا حصل، سيكون شعار سنتنا الجديدة، عندها، “تخبزو بالأفراح”.
***
ما يهمّ الناس قاطبةً، في مطلع هذا العام، هو ألاّ تروِّعهم السنة الجديدة، بما أنعمت به عليهم سالفتها. أي، هدرٌ للوقت والأرزاق والأنفاس والأرواح والرفاق والأحباب. جلّ ما يتمنّونه، ربّما، وبعد تقزُّم الآمال والطموحات، هو العيش الطبيعي بسلام. أي مثلما كانوا يعيشون. أمّا نحن في لبنان، فتختلف أمانينا. وبخاصّة، بعدما استأثرنا، في الـ 2020، بكافّة “حقوق المُلكيّة” لكلّ صنوف الكوارث والنكبات والأزمات والخسارات والجرائم. وبعدما صادرنا من مصائب العالم، وبصمتٍ مطبق، كلّ الدماء والدموع والخراب. لقد صدّقنا خرافة المصير المحتوم، والظروف التي تضرب على الناس الذلّة والمسكنة. فلم يبقَ لنا أن نفعل، سوى الشكوى والسُباب. كيف لا، ومعظمنا لا يرى الشرّ لابساً رداءه، بل مستعيراً رداء الخير. أعرفتم الآن لماذا يُضِلّ كثيرون الطرق والأهداف؟
***
كانت 2020 سنة تطويع الشعب اللبناني وترويضه، بامتياز. إذْ، كانت سنة الاقتصاص من تجرُّؤ هذا الشعب و”تطاوله” على القَتَلة. ففي تلك السنة، صدر فرمان “الباب العالي” يوعِز للأتباع كي يطفئوا شعلة الثورة ويكسّروا قبضاتها في كلّ الساحات. وأوعزوا كذلك، لقوى الأمن بأنْ “شتّتوهم واقمعوهم واقلعوا عيونهم من دون رحمة”. ففي لبنان، “يُصدِر الرؤساء من بعيد أوامر بالقتل. هم لا يريقون الدماء. ولا تصمُّ آذانهم الانفجارات. ولا تعكِّر أحلامهم عيون ضحاياهم”، يقول الكاتب الإسباني Eduardo Galeano، وهذا ما حصل. لماذا فعلوا ذلك؟ عدا الحقد والرغبة في الأذيّة، فإنّ المعتدين يدركون، أنّ الناس تنبّهوا، كبيرهم وصغيرهم، لكلّ حقٍّ مهدور من حقوقهم. ظنّوا أنّهم بإفراغ الساحات، يُنهون الثورة. هم يحكمون على الأمور بظاهرها، ولا يعرفون أنّ الثورة لم تعد كلّها، اليوم، في الشارع. ولم يَعُد الشارع محور الحراك وساحته الأخيرة. لقد تجاوزت الثورة معناها التقليدي. تجاوزت مداها الجغرافي لتؤثّر على العقول. ومَن يعشْ، أيّها السادة، يَر هذا الأثر.
***
كانت 2020 سنة “سفر برلك” جديد للّبنانيّين. فلقد عكس الارتفاع المتنامي في أعداد المغادرين، توقاً شديداً لهذا الشعب للهجرة. لم يعد يهمّهم إلى أين ستكون الوجهة. هم يبحثون، فقط، عن أيّ بلدٍ يستقبلهم ويحفظ كرامتهم الإنسانيّة وحقوقهم الأساسيّة. فكثيرون فقدوا الأمل ببناء هذا الوطن، الذي باتت دولته عاجزة عن تأمين أبسط مقوّمات العيش الكريم. وطبعاً، تضاعفت موجات الهجرة بعد تفجير مرفأ بيروت. فالكارثة التي حلّت بلبنان بفعل هذا التفجير (وليس الانفجار)، ربّما تلخِّص رزمة الكوارث التي هبطت على هذا البلد “بفضلهم”. بفضل طبقة سياسيّة مارقة. طبقة ما انفكّ أقطابها يردِّدون، بتأثير الهلوسة، “كلّنا كنّا نعرف ولكن لم يخبرونا.. هم فعلوا ولسنا نحن”.. وهكذا. حفر تاريخ الرابع من آب/ أغسطس عميقاً في قلوب اللبنانيّين وبيوتهم. أمّا أركان الحُكم (الذين لم ينطقوا بجملة عزاءٍ واحدة للضحايا) فيريدون طمس ملف الجريمة، بأيّ ثمن. يبدو أنّهم يخافون من إعلان أوّل اسم من أسماء المتورّطين. فبعدها ستقع سلسلة أحجار الدومينو. لذا، يجب أن يبقى هذا الملف في الواجهة. يجب أن نذكِّر به صبحاً وظهراً ومساءً. يجب أن يصبح تاريخ 4 آب/ أغسطس، البوصلة التي توجّه كلّ قضايانا ومطالبنا وتحرّكاتنا. يجب أن تصبح “مذبحة بيروت” بالنسبة لنا، مثل “الهولوكوست” بالنسبة لليهود. فمرتكبو الجريمة، كما يبدو، هم من فئة المجرمين الذين لا يطالهم قضاء. من المعيب علينا، إذن، أن تصير التحقيقات في هذه الجريمة المتمادية “في خبر كان”. هذا ما يسعون إليه، من خلال “الكباش” القضائي والسياسي الذي تدور رحاه، هذه الأيام، في كواليس قصر العدل.
***
كانت 2020 سنة إعلان موت السلطة سريريّاً. فأركانها الذين ترونهم يروحون ويجيئون ويثرثرون أمامكم، ليسوا “أحياءً عند ربّهم يُرزَقون”. بل، هم “الموتى الذين يمشون في الأرض” (والتعبير من قاموس المافيا). والحركة من دون بركة التي تشاهدونها، إنّما هي مجرّد حركات بهلوانيّة لمستشاريهم وعبيدهم. يُراد منها تنشيط عضلات الظهر والأرجل، فقط لا غير. صحيحٌ أنّه، بالمنطق الديني، “الضرب بالميْت حرام”، لكنّني، للإشارة، لستُ مولعة بالأديان ولا بطوائفها وهياكلها ورجالها. فهؤلاء تكثَّف نشاطهم في الـ 2020 لرسم الخطوط الحمر. إذْ، حموا حُكّام لبنان بصدورهم، كلٌّ على طريقته. فعّلوا “قانون تحصينهم”. وقفوا سدّاً منيعاً أمام المسّ بأيٍّ منهم. وقفوا كالدروع الواقية أمام الزعماء السياسيّين التابعين لهم، ليمنعوا عنهم كلّ مساءلةٍ أو محاسبة. لقد شنّوا عبر دورهم المشبوه هذا، حرباً على المجتمع بدعوى العمل الإلهي، على حدّ تعبير الأستاذ الفضل شلق. الآباء الروحيّون للطوائف اللبنانيّة، أفرغوا الدين من مضمونه الإيماني. صار الإيمان ديناً سياسيّاً. وعليه، فإنّ كلّ الخُطب الرنّانة والعظات الثوريّة التي صمّت آذاننا، ليست إلاّ “ثرثرة فوق بحر بيروت”.
***
كانت 2020 سنة فضح مؤامرة السلطة وانكشاف تواطؤ أركانها للوصول بنا إلى حيث نقف اليوم. في المجهول. لقد عملوا ليل نهار، لهدر الوقت وتطويل عمر الأزمات. فرقةٌ من المرائين، ساقت البلاد إلى الهاوية، ومن ثمّ وقفت على الحافّة تتفرّج على منظر الناس وهم يقعون في الوادي السحيق. فعلوها عن سابق تصوّر وتصميم. فأنانيّتهم القاتلة وقلّة أخلاقهم وروحهم الشبقة للاستحواذ على السلطة بأيّ ثمنٍ، ما هي إلاّ الأدلّة الدامغة على جريمتهم. على جرائمهم الموصوفة. هوّلوا بالجحيم وبالارتطام الكبير وبتشظّي البلد إرباً. وطوال أيام وأسابيع وشهور، تحايلوا، بالزجليّات الركيكة، على اللبنانيّين. صمّوا الآذان بكلام “التنّور” التافه، والذي لا يفهمه أحدٌ سواهم. سنة كاملة تقاذفوا خلالها المسؤوليّات عن الخراب. لم يُعثَر بينهم على حاكمٍ واحد ليقول “كفى هراءً. لقد أخطأنا ويجب أن ندفع ثمن أخطائنا وخطايانا”. لكن، لماذا لا يفكّرون بالمثل الاسباني القائل “لم يُصنع العسل لتأكله الحمير”؟ لماذا لا يُقرّون بعدم أهليّتهم لتحمُّل المسؤوليّة والحُكم؟ لماذا لم يحاولوا، على الأقلّ، أن يوقفوا وُرَش الحفر في الحضيض. لكن عبثاً نحاول معهم. خسارة المراهنة عليهم، فهي كالجري خلف السراب.
هم يحكمون على الأمور بظاهرها، ولا يعرفون أنّ الثورة لم تعد كلّها، اليوم، في الشارع. ولم يَعُد الشارع محور الحراك وساحته الأخيرة. لقد تجاوزت الثورة معناها التقليدي. تجاوزت مداها الجغرافي لتؤثّر على العقول. ومَن يعشْ، أيّها السادة، يَر هذا الأثر
***
يُقال يا أصدقاء، إنّ أحقر ما في الحروب الأهليّة، أنّ أحداً لا يسمعك حين تُطلِق صيحة: أوقفوا القتل! ونحن نشهد اليوم على حربٍ أهليّة. حرب واضحة الجبهات والمقاتلين. مَن قال إنّ الحروب لا تُخاض إلاّ بالحديد والنار؟ رهيبة قلّة حيائهم في هذه الحرب. حتّى أنّ أحدهم قالها، ومن دون خجل، “لا تصدّقوا أنّنا لا نستطيع وقف الانهيار”. إذن، هم يدركون ما يفعلون. هم يستدعون الانهيار استدعاءً. لماذا؟ لأنّهم ما زالوا يشعرون بقوّتهم على الأرض. لم يتلمّسوا بعد، قدرة خصومهم على ترحيلهم. لأنّهم يظنّون، أنّ بإمكان الانهيار أن يعيدهم إلى وسط الصورة، كما في السابق. وعندما ينهار البلد (كما يتمنّون)، وتُدوَّل “الأزمة”، ويتدخّل القادرون لوقف الانهيار وإعادة الإعمار، لن يجدوا “في الميدان إلاّ حديدان”، بحسب المثل اللبناني. باعتقادهم، أنّ الدول الوصيّة علينا ستتفاوض معهم لوضع سيناريو حُكم جديد للبنان.
***
كانت 2020 سنة إنتاج فيلم هوليوودي طويل بعنوان “خلّي عينك على المبادرة الفرنسيّة”. فيلم نفدت تذاكره، فمُدِّد العرض للسنة الجديدة. وهكذا، يستطيع سيّد البيت الأبيض الجديد أن يتمتّع بمشاهدته. وربّما يطلب، أيضاً، إعادة تصوير بعض اللقطات. فالكلّ بانتظار وصول الرئيس المفدّى جو بايدن إلى المكتب البيضاوي. والواقعيّة تقضي الإقرار، بأنّ النزاع حول جبنة السلطة في لبنان، يُخفي وراءه نزاعاً إقليميّاً ومشاريع كبرى مطروحة للوطن الصغير. إنّهم ينتظرون، وعلى عيْنك يا تاجر، ما سيفضي إليه هذا النزاع الإقليمي. ينتظرون، وكلّهم ثقة، بأنّ الرئيس الجديد سيعيرهم كلّ اهتمامه. لما لا، طالما أنّ لبنان هو الحديقة الخلفيّة للبيت الأبيض؟ فها هي جبهات القتال في لبنان، تنتظر ما إذا كانت خطط الرئيس الأميركي المنتخَب ستكون “لصالحنا” أو “لصالحهم”؟ بكلامٍ أوضح، هل إنّها ستُضعِف محور ما يُسمّى بالممانعة أم ستقوّيه؟ بكلام أكثر وضوحاً، هل إنّ إدارة بايدن ستقصّ جوانح حزب الله أم جوانح خصومه؟ فالانتظار واجبٌ وطني يا ناس لحفظ أمننا القومي. نعم. ففيه ستُحدَّد أدوار الممثلين على المسرح اللبناني. أي، سيُحدّد لمَن ستكون البطولة ومَن سيلعب دور الكومبارس. وعليه، عُلِّقَت كلّ حياتنا، من زلاعيمها، على أمل أن يُنزِلنا أسيادنا الأميركيّون من “الشنكل”. ولا يخجل مسؤولو لبنان من المجاهرة بهذا الأمر. بل على العكس تماماً. كلّ البريد المُرسَل من بيروت، موجّهٌ حصراً لواشنطن. فأميركا هي صاحبة التأثير الفعلي على مستقبل حُكّامنا. على مستقبلنا نحن، للأسف. ولذا، وبتركيزٍ شديد، يرصد عُتاة السياسة في لبنان، ما سيؤول إليه مسار العلاقات الأميركيّة – الإيرانيّة. جميعهم نِعَاس، لكنّهم يريدون أن يعرفوا على أيّ وسادة سينامون. فـ”نومٌ على يقين خيرٌ من صلاةٍ على شكّ”، كما يقول الإمام علي بن أبي طالب.
***
أمّا أهمّ حدث سجّله أرشيف 2020، فكان، بالنسبة لي شخصيّاً، ردّ الاعتبار للعميل اللبناني والجاسوس الإسرائيلي عامر الفاخوري. لذا، أعتبر 2020، سنة الدوْس على كرامتنا الوطنيّة كُرمى لعيون الإسرائيليّين، وليس الأميركيّين. فمن يستطيع أن ينسى ذاك اليوم من آذار/ مارس؟ يوم زادوا بؤسنا، ذلّة. يوم غطّت هذه الذلّة كلّ حُكّام لبنان، من رأسهم حتى أخمص مسؤولٍ فيهم. يوم شرّعوا العمالة للعدو. فلنتذكّر كي لا ننسى، أنّ بعض القضاء العسكري اللبناني قد تولّى تنظيف سجّل وحش معتقل الخيام وجزّاره. فهذا التنظيف، كان أحد أبرز إنجازات “العهد القوي”. أي، حبك خيوط سيناريو تهريب الفاخوري سالماً من لبنان. دارت فصول “محاكمته”، في ليلةٍ ليلاء، داخل المحكمة العسكريّة. في ما يشبه سيناريوهات أفلام المافيا. وعلى عجل، أسقط خمسة قضاة أشاوس من بلادي كلّ التُهم عن عميد العملاء عامر الفاخوري. وعلى عجل أيضاً، وقبل سريان قرار قاضي الأمور المستعجلة في النبطيّة بمنع سفره، نُقِل السجين إلى السفارة الأميركيّة في عوكر. دقائق وحطّت طوافة أميركيّة هناك، وأقلّته بعيداً. حدّقت أنظار الكثير من اللبنانيّين يومها في السماء. كانوا يعاينون كيف تُنحَر الكرامات إمعاناً في القهر. قهر الوطنيّين والمقاومين والأسرى والشهداء. هنيئاً للعملاء والقَتَلة. فبعد الآن، لن يستطيع ابن إمرأة أن يضربكم بوردة. هذا في حال نجح الأميركيّون، في فرض وتعميم صياغتهم الجديدة لمفهوميْ العمالة والمقاومة على الشعوب. لكن، نادراً ما يفشل الأميركيّون!
***
كلمة أخيرة. في 2020، وضعت مراكز الأبحاث الدوليّة لبنان، بين أسوأ خمس دول في العالم، وثاني دولة بعد فنزويلا في مستوى التضخّم. وكما يبدو، ستتأهّل بلاد الأرز، قريباً، للانضمام إلى نادي الدول الفاشلة. صار هذا الأمر شبه مؤكّد. الّلهمّ إلاّ إذا طرأ حدثٌ جلل، ينقذنا من هذا الفشل الموعود. ليس هناك غير حدثٍ واحد يمكن أن نعوّل عليه. هو أن تستجيب السماء للدعوات والتمنيّات التي رفعها اللبنانيّون ليلة العيد. ولو يعلم حُكّام لبنان بما تمنّاه هذا الشعب، لرموا بأنفسهم، ربّما، من أعلى طابقٍ في مقرّاتهم. إقتضى الأمل بـ…!