نحن في عالمٍ يغيب عنه وفيه.. الصّدق، ويحضر فيه كلّ شيءٍ “أنتي- صدقيّ” تحت عنوان الصّدق نفسه. تُقلب القيم في مضمونها، وتبقى عناوينها، شعاراتٍ بالية، تكتب بكل برودة في ثانية واحدة وراء جهاز ذكيّ يتحكّم بنا، ويغرينا بالمزيد من الكتابة، حتى ينتزع منا كلّ شعور غير الشّعور بالنرجسيّة، وتضخّم الذّات.
بعض التّضامن شيءٌ من النّرجسيّة ليس إلا. هو تضامنٌ مع النّفس المتضامنة، لا مع “الضحيّة”، أو مع القضيّة التي وجب التضامن لأجلها. ولكم سُخّفت كلمة “قضية” في أيامنا هذه. كلهم صاحب قضيّة! وكلهم مسؤولٌ عن القضية.. ولا قضية ولا مسؤول، في بلد يئن بالوجع ويفتقد للمسؤول المسؤول!
لكن بعض التضامن وفاء. شيءٌ من تبديد غربة. من صرخة روحٍ مأسورة، أُسرت مذ أُسرت وشُوّهت “القضية” ـ الجوهر، حتّى بانت للكثرة المسلوبة بأنها ضد الجوهر ذاته.. وتلك صنعة الجبابرة. أن يحوّروا القضايا. أن يجعلوها وسيلةً لا غاية. أن يحرّفوا جوهرها باسم الجوهر. وعلى اسم هذا الجوهر، يسير المتضامنون، الذين أسموا أنفسهم “حملة القضية”. صرنا نحفظ وجوههم وأسماءهم وأصواتهم. لهم في كل عرس قرص، وعندما تنوجد القضية الحقة، يبلعون ألسنتهم ويختفون.
رضوان مرتضى هو القتيل منا. المجروح. المُدّمر منزله وباب رزقه. هؤلاء وغيرهم ينتظرون من يصالحهم بالحقيقة مع دولتهم، بكل رموزها ومؤسساتها. فقط بالحقيقة. بالقضية. لا بالتعامي ولا بالطبل والزمر
ثمّة أحداثٌ تحدث، تعيدنا بالضرورة إلى التفكير الشموليّ المجرّد. وثمة أحداث، تنتزع منّا نعمة اليأس. تعيد إلى دواخلنا الغضب الذي يستفزنا، بعد أن عملنا جاهدين على إماتة الغضب، لكثرة ما اتهمنا بالجنون.
قالها نيتشه يوماً، لا يوجد أشخاص مجنونون. ثمة مجتمع مجنون.
في المجتمع المريض، سيصبح التّعقّل مرضاً، ولا نجاة له سوى بالاشتعال.
بعض الأحداث هي هكذا، نجاة للتعقّل عبر ترجيح كفّة الاشتعال. تُشعِلُ من حيثُ تُغضِب. وتنجح في الإغضاب من حيث قدرتها على تبديد غربة الجوهر. تبدّده بالتضامن الشعوريّ. الهرمونيّ. الجيني. الكيانيّ.
رضوان مرتضى، الحالة لا الشخص، الفكرة لا المهنة، إرتكب ذنباً مع بعضنا. ذنبه في ما حصل معه أنه سلبنا نعمة اليأس في زمن الانحطاط. أعادنا إلى نقطة التعقّل الأولى. إلى “مرضنا” الأوّل، بعد رحلة من محاولة العلاج بالمرض.
ربّما، عملياً، هو يخوض المعركة وحده. بشخصه. ربمّا ينجح ويفشلون. ربما العكس. لا قواعد في بلاد التفاهة هذه. لا نتائج يمكن توقعها في غابة الأسود هذه، والأكثرية فيها نعاج. لكن، ربّما، بعض الأحداث على “صغرها”، قد تصنع فرقاً. فرقٌ على صعيد دواخلنا، إن لم تصنع فرقاً في الإطار العام، وقد تفعل!
بعض الأحداث، قد يتفوق فيها التضامن الداخلي على أي تضامنٍ ناطق. يتفوّق فيها الجوهر على الشكل. وهي لهذا، ستكون أحداثاً مُهدِّدة. ستُهدِّد. ستخيف. وهكذا يبدأ التّيّار بالتشكّل. وهنا قد نستفيق. ويا للعنة الـ “قد” هذه.
قد يجيّشوا جوقتهم ضد رضوان. هذا مألوف بالمعايير اللبنانية، لكن رضوان أصدقنا بإنحيازه إلى القضية. عاصمة دُمِّرت لا بل قُهِرت. عاصمة مستباحة بفعل فاسدين ومقصرين ومتآمرين. هل مطلوب من رضوان أن يسكت؟
رضوان مرتضى هو القتيل منا. المجروح. المُدّمر منزله وباب رزقه. هؤلاء وغيرهم ينتظرون من يصالحهم بالحقيقة مع دولتهم، بكل رموزها ومؤسساتها. فقط بالحقيقة. بالقضية. لا بالتعامي ولا بالطبل والزمر.