لا تخفي الاوساط الفرنسية، أكان على مستوى الرئاسة في قصر الاليزيه او على مستوى وزارة الخارجية في الكي دورسيه، ارتياحها “الظاهر والعميق” لوصول جو بايدن الى البيت الأبيض، ذلك ان باريس عانت الكثير في فترة ولاية سلفه دونالد ترامب حيث تعرضت خلالها العلاقات الئثنائية للإهتزاز المستمر برغم محاولاتها المتكررة تجاوز مختلف أنواع العقبات ومحاولة معالجة المشاكل بكثير من البراغماتية.
وأكثر ما أشاع جو التفاؤل، في امكانية تبديد الغيوم المتجمعة في سماء العلاقات الثنائية، هو انتقال التعامل الديبلوماسي بين الجانبين من “حال المزاجية الفردية الآحادية الترامبية” الى “التعامل المؤسساتي والتعاطي من خلال فريق مهني متمرس” (قسم منه فرنكوفوني بدءأً من وزير الخارجية الجديد) اختاره بايدن لمعاونته في سياسته الخارجية.
ما هي الانطباعات الاولى التي خرج بها الجانب الفرنسي بعد الاتصال الهاتفي الذي تم بين ماكرون وبايدن يوم الأحد الماضي؟
لا بد من تسجيل الملاحظات الاولى من حيث الشكل:
أولاً، تميز هذا الاتصال بطول مدته إذ امتد على مدى اكثر من خمسين دقيقة.
ثانياً، هذا الاتصال ليس الأول بين ماكرون وبايدن، فقد سبقه اتصال بين الرجلين اثر انتخاب الرئيس الاميركي الجديد وتم في اجواء ودية حرص خلالها بايدن على الاشارة الى جذوره الفرنسية ورغبته في “احياء دينامية العلاقات الئناثية وتعزيز التحالف مع الاتحاد الاوروبي والشراكة الاطلسية”.
ثالثاُ، رافق هذان الاتصالان تواصل بين فريقي عمل الرئيسين بايدن وماكرون من أجل وضع لائحة بالمواضيع الخارجية ذات الاهتمام المشترك من حيث اهميتها وأولوية التحرك حيالها.
اما لجهة المضمون، فلا بد من التوقف عند الاهتمام الفرنسي – الاميركي على صعد ثلاثة، وذلك انطلاقاً من توضيحات ادلت بها مصادر رئاسية فرنسية في باريس:
على الصعيد الدولي:
أولاً، اظهر الاتصال الرئاسي التشابه في المواقف والتوافق على مبادىء التعاون بشأن التحرك المشترك المتعدد الاطراف بعيداً عن النهج الاميركي الأحادي السابق.
ثانياً، ترحيب فرنسي باستعداد الادارة الاميركية الجديدة للتعامل “بدينامية واهتمام” مع فرنسا خصوصا ودول الاتحاد الاوروبي عموما، بصفتهم “شركاء قادرين ومؤهلين وجديرين بالثقة” مع تمسك بايدن برغبته في “استعادة الدور الريادي والقيادي” لبلده في العالم.
ثالثاُ، مؤشرات كثيرة “مشجعة وقوية” عن التغيير في نمط التعامل الاميركي الدولي اكان لجهة الالتزام بمفاعيل إتفاقية باريس الدولية حول المناخ او لجهة التعاطي بانفتاح مع المنظمات الدولية وفي مقدمها منظمة الصحة العالمية، اضافة الى الاستعداد للتعاون في مواضيع التعاون التكنولوجي والرقمي.
رابعاً، التوصل الى قراءة مشتركة حيال كيفية التعامل مع القوى الكبرى في مقدمها الصين (ماكرون وبايدن يستعملان العبارات نفسها حيالها) من خلال انتهاج سياسة حازمة تجاهها ولكن بعيداً عن اجواء التشنج والحملة العدائية ضدها واعتبارها “شريكاً ومنافساً شديداً في آن معاً”.
على الصعيد الاقليمي:
أولاً، فك التزام او تراجع اهتمام الرئيس السابق دونالد ترامب انطلاقا من اعتبار “اميركا أولاً” بالامس، يقابله اليوم اهتمام كبير من قبل الرئيس جو بايدن بالقضايا الاقليمية المرتبطة بالسلام والاستقرار خصوصاً في الشرق الأوسط.
ثانياً، الملف الايراني هو الملف الاقليمي الأول الذي يستحوذ اهتمام الجانبين. ولا تخفي المصادر الرئاسية الفرنسية ان نمط التعامل الاميركي الجديد سيكون مختلفاً عن السابق حيال الملف النووي الايراني لاكثر من سبب، خصوصا ان الوضع الايراني تطور كما ان المسؤولين الاميركيين الذين سيتعاطون به لديهم خبرة وافية سابقة بهذا الموضوع الشائك.
الا ان هذه المصادر تشدد على أن الموقف واضح لجهة ضرورة التزام طهران بتعهداتها في اطار الاتفاق النووي، اذا شاءت إستئناف الحوار معها من جهة وعودة الولايات المتحدة الى طاولة التفاوض من جهة اخرى، وبالتالي عليها اعطاء ضمانات ثقة للمجتمع الدولي.
واشارت المصادر الى ان هذا الموضوع “غير مرتبط بالانتخابات الرئاسية الايرانية المقبلة بل بإرادة طهران في العودة عن الاجراءات غير المقبولة التي اتخذتها اخيرا والامتناع عن القيام بخطوات استفزازية جديدة”. ورأت المصادر انه في حال التزام ايران بتعهداتها وتم استئناف الحوار معها، لا مانع من ان يتناول ذلك ايضا مواضيع الامن والاستقرار الاقليميين.
ثالثاُ، رأت المصادر انه في حال تقرر الحديث مع ايران حول الوضع في سوريا، فان هذا الامر ايضا سيتم مع كل من روسيا وتركيا نظراً للموقف الملتبس لكل منهما حيال وجودهما على الاراضي السورية. واوضحت المصادر ان العقوبات على سوريا لا تشمل الجوانب الانسانية والصحية في هذا البلد. ونفت المصادر علمها بحصول لقاءات سورية – اسرائيلية.
على الصعيد اللبناني:
أولاً، أكدت المصادر الرئاسية انه جرى التطرق خلال المحادثة الرئاسية الفرنسية – الاميركية الى موضوع لبنان نظراً الى “الوضع العاجل والملح” في هذا البلد لاكثر من سبب. ورأت ان الاولوية هي لتأليف “حكومة جديدة قادرة على اعطاء الضمانات اللازمة وتوفير القدر الكافي من الثقة لكي يتمكن المجتمع الدولي من تقديم المساعدات الضرورية للشعب اللبناني”.
ثانياً، الاولوية الثانية حيال لبنان هو “موضوع اكثر صعوبة ويتناول النظر في كيفية مساعدة اللبنانيين لتعزيز استقرار بلدهم وجعل نظامهم السياسي عملي اكثر بمعزل عن تداعيات الازمة السورية وبمعزل عن النفوذ الايراني”.
وقالت المصادر الفرنسية، في هذا الاطار، “لا نتوقع تغييراً في الموقف الاميركي حيال حزب الله، ولكننا ننتظر مزيداً من الواقعية من جانب الولايات المتحدة حيال ما هو ممكن او غير ممكن القيام به في لبنان نظراً للظروف الحالية في هذا البلد”.
ثالثاً، أكدت المصادر الرئاسية الفرنسية ان الطموحات الفرنسية التي رسمها الرئيس ايمانويل ماكرون خلال زيارته الاخيرة الى بيروت لجهة مساعدة اللبنانيين لقيام نوع من السيادة اللبنانية والحد من لعبة النفوذ والتأثيرات الاجنبية وبينها الايرانية لا تزال هدفا للتحرك الفرنسي.
رابعاً، فرنسا تحظى بدعم واشنطن لمبادرة رئيسها حيال لبنان وقد بادر وزير الخارجية الاميركي الجديد انتوني بلينكن خلال مداخلته في جلسة استماع مجلس الشيوخ الى الاعلان عن هذا الموقف الداعم واكد عليه الرئيس بايدن.
خامساً، لا مشروع “في الوقت الحالي” لدى الرئيس ماكرون في القيام بزيارة جديدة الى لبنان، مع إشارة المصادر الرئاسية الفرنسية الى ان “عزيمته (ماكرون) مستمرة وبشكل كامل” في تحقيق ما وعد به مع الشركاء الدوليين وهو ما اُثاره مع الرئيس بايدن، ولكن كل ذلك مرتبط “بتنفيذ الشروط التي سبق وتم الاتفاق عليها من قبل المسؤولين السياسيين اللبنانيين”.
الكرة الفرنسية، المعززة بقوة دفع اميركية هذه المرة، هي من جديد في المرمى اللبناني وهي تحمل اكثر من رسالة، فهل يحسن الفريق السياسي اللبناني تلقفها؟