في غضون 15 يوماً فقط من تسلم الإدارة الأميركية الجديدة لمهامها، تم تعيين مبعوثين خاصين للملفين الإيراني واليمني، فيما هناك تحفظ واضح حيال الإستفاضة في الحديث عن الموضوع الفلسطيني.
ومعروفة أيضاً المحاذير التي تجعل بايدن لا يقارب الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بإستفاضة أكثر. إذ أنه يتجنب الإعلان عن خطوات لن يكون في إمكانه تطبيقها، أو ربما تتسبب في أزمة مع بنيامين نتنياهو. وفي خطابه الأول عن السياسة الخارجية، أتى بايدن على ذكر اليمن وإيران والصين وروسيا والمناخ ودعم الديموقراطيات في العالم، وندّد بالانظمة الاستبدادية بالمطلق. لكنه لم يأتِ على ذكر أطول نزاع في الشرق الأوسط. نزاع كان عاملاً مؤثراً في تشكيل الخريطة السياسية في المنطقة منذ عام 1948.
وحتى الآن، اكتفى وزير الخارجية الأميركي الجديد أنطوني بلينكن في الإعلان عن عزم واشنطن إستئناف المساعدات الإنسانية للفلسطينيين، وإعادة فتح البعثات الديبلوماسية. وسعى في الوقت نفسه إلى بث الإطمئنان لدى نتنياهو بتأكيده دعم الإدارة الأميركية الجديدة لـ”الاتفاقات الابراهيمية” بين إسرائيل ودول عربية، وإعلانه أن مستوى الإلتزام الأميركي بأمن إسرائيل سيكون “مقدساً”.
وحدها المندوبة الأميركية الجديدة لدى الأمم المتحدة كيلي كرافت قالت في إحاطة أمام مجلس الأمن حول فلسطين إن أميركا تدعم “حل الدولتين” على أساس متفاوض عليه. وكانت هذه الإشارة اليتيمة حتى الآن إلى إعتزام الإدارة الجديدة، التخلي عن سياسة ترامب القائمة على تجاهل الفلسطينيين كشريك في الحل.
لا شيء يشي بأن بايدن سيهجر كلياً إرث ترامب في ما يتعلق بالمسألة الفلسطينة. مثلاً، لن تتراجع الإدارة الجديدة عن نقل السفارة إلى القدس، ولا عن الاعتراف بهذه المدينة عاصمة لإسرائيل، ولن تضغط من أجل وقف الاستيطان، لا سيما أن تجربة أوباما في هذا الصدد لم تكن مشجعة
بيد أن لا شيء يشي بأن بايدن سيهجر كلياً إرث ترامب في ما يتعلق بالمسألة الفلسطينة. مثلاً، لن تتراجع الإدارة الجديدة عن نقل السفارة إلى القدس، ولا عن الاعتراف بهذه المدينة عاصمة لإسرائيل، ولن تضغط من أجل وقف الاستيطان، لا سيما أن تجربة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في هذا الصدد لم تكن مشجعة.
وأقصى ما يمكن أن يذهب إليه بايدن، هو الاكتفاء بإيماءات من بعيد عن ضرورة التوصل إلى حل من طريق مفاوضات مباشرة بين الفلسطينيين وإسرائيل، وأن أميركا ترضى ما يرضى بها الطرفان. وبكلام آخر، قد تكون سياسة بايدن حيال فلسطين هي اللاسياسة.
وكان إصدار مجلس الشيوخ الأميركي بغالبية ساحقة بلغت 97 صوتاً الخميس الماضي قراراً يؤكد أن “القدس هي عاصمة إسرائيل وأن سفارتنا يجب أن تبقى فيها”، من قبيل رسالة تحذير لبايدن من إحتمال الإقدام على مجازفات غير محسوبة في ما يتعلق بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وحدهم السناتورات بيرني ساندرز وإليزابيث وارن وتوم كاربر، كانوا أصوات صارخة في برية مجلس الشيوخ.
والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، بالكاد أطلق موقفاً أعرب فيه عن الأمل بانعقاد اجتماع للجنة الرباعية الدولية “في الأسابيع المقبلة”. وتحولت الإحاطات الشهرية أمام مجلس الأمن، إلى مجرد حديث عن المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون في الأراضي المحتلة، من دون المبادرة إلى أي فعلٍ يحد من هذه المعاناة، التي زادها ترامب استفحالاً بتعليق مساهمة أميركا في وكالة “الأونروا” وبقطعه المساعدات عن السلطة الفلسطينية، بينما الاتحاد الأوروبي عاجز عن ملء الفراغ الأميركي، واكتفت روسيا في الأعوام الأربعة الأخيرة بالوقوف على الحياد وبتكرار مواقفها التقليدية من مسألة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، من دون المخاطرة في إطلاق اقتراحات محكوم عليها بالفشل مسبقاً.
نجح ترامب في نقل الثقل بالمنطقة إلى إيران، وتسويق فكرة أنها هي جوهر المشاكل والنزاعات في الشرق الأوسط، وأنه يجب أن تقوم جبهة واحدة من إسرائيل والدول العربية للوقوف في وجه “الخطر الإيراني”. وقطع شوطاً طويلاً على طريق تجسيد هذا الواقع الجديد.
لهذا، يتوقف الكثير في هذا الشأن على ما يمكن أن يفعله الفلسطينيون أنفسهم كي يفرضوا على بايدن خطوات معينة، كأن يذهبوا فعلاً إلى انتخابات موعودة، تشريعية في أيار/مايو، ورئاسية في تموز/يوليو، وأخرى للمجلس الوطني في آب/أغسطس المقبل. هذه الإنتخابات، إذا ما جرت في مواعيدها فعلاً (أرجئت أكثر من مرة سابقاً)، ستكون الأولى من نوعها منذ 15 عاماً. وفي حال شاركت فيها حركة “حماس”، يكون الفلسطينيون قد قطعوا شوطاً مهماً نحو إنهاء الإنقسام، الذي ألحق ضرراً بقضيتهم لا يقل عن ضرر الإحتلال.
لا يمكن أن يحدث انقلاب في الوضع القائم، إلا إذا قرر الفلسطينيون المبادرة إلى توحيد موقفهم، عبر الانتخابات أو بطريقة من الطرق، وإلا فإن قضيتهم مرشحة للدخول أكثر فأكثر في غياهب النسيان
وإلى الموقف الفلسطيني، تتحمل الدول العربية أيضاً مسؤولية موازية في إعادة تحريك الجهود من أجل الدفع بمبادرة السلام العربية، التي تبنتها قمة بيروت عام 2002، والتي رفضتها إسرائيل، والتي ربما تنظر إليها دول عربية على أن الزمن قد تجاوزها، خصوصاً أن التطبيع يحصل من دون ربطه بأي تنازلات من إسرائيل على صعيد المسألة الفلسطينية. وحسناً فعلت مصر والأردن بدعوة وزراء الخارجية العرب إلى اجتماع طارئء غداً (الإثنين) في القاهرة لمناقشة الموضوع الفلسطيني، في ضوء تسلم الإدارة الأميركية الجديدة لمهامها، وامكان إحياء الجهود في سبيل حل الدولتين.
وإذا لم يوحّد الفلسطينيون موقفهم، وإذا لم يتحرك العرب لإعادة طرح القضية الفلسطينية على جدول الأعمال الأميركي والدولي، فإن الأمر الواقع المفروض منذ 1967، مرشح للاستمرار إلى ما لا نهاية.
فإسرائيل الرافضة لحل الدولتين، ترفض أيضاً حل الدولة الواحدة. وهي دولة محتلة ولا تقوم بما يفرضه عليها القانون الدولي من واجبات حيال الأراضي التي تحتلها، وتلقي العبء على السلطة الفلسطينية، التي نشأت عام 1994 على نحو موقت لمدة أربعة أعوام، بموجب اتفاقات أوسلو وريثما يصار إلى الاتفاق على قضايا الوضع النهائي، لكن بعد 27 عاماً لا تزال السلطة قائمة، ولا يزال الاحتلال قائماً مع 400 ألف مستوطن في الضفة الغربية و200 ألف مستوطن في القدس الشرقية وضواحيها. وباتت إسرائيل تستعمل السلطة الفلسطينية، غطاء لاحتلالها، عوض أن تكون معبراً إلى الدولة الفلسطينية المستقلة القابلة للحياة.
وأتى ترامب بصفقة القرن، ليزايد على نتنياهو في حب إسرائيل، على حساب الفلسطينيين، وأهدى مما ليس يملكه و”شرعن” الإحتلال والاستيطان، وألغى عملياً حق الفلسطينيين كشعب يملك حق تقرير المصير. وجرّد العرب من ورقة الضغط الوحيدة التي يملكونها وهي التطبيع، فبات الفلسطينيون وحدهم، غارقين في انقساماتهم وتشرذمهم.
ومع ذهاب ترامب ومجيء بايدن، لا يمكن أن يحدث انقلاب في الوضع القائم، إلا إذا قرر الفلسطينيون المبادرة إلى توحيد موقفهم، عبر الانتخابات أو بطريقة من الطرق، وإلا فإن قضيتهم مرشحة للدخول أكثر فأكثر في غياهب النسيان، والبقاء فكرة رومانسية ليس إلا.