فرنسا والجزائر: تقرير ستورا يُشعل صراع الذاكرة الأليمة

إنشغل العالم بتاريخ 20 يناير/كانون الثاني 2021، بمتابعة حدث تنصيب الرئيس الأميركي جو بايدن، وعزم نائبته كامالا هاريس "دخول التاريخ". فأزاحت وسائل الإعلام أنظارها عن أحداث أخرى شهدها ذلك اليوم، ولو في سياق مغاير، تخص "الخروج من التاريخ"، والتخلص من ذاكرته الدامية.

في اليوم نفسه، شهد قصر الإليزيه بباريس استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للمؤرخ بنيامين ستورا، الذي قدّم له تقريره حول الاستعمار وحرب الاستقلال في الجزائر. تعمدت مصادر الإليزيه التسريب أننا أمام “عملية اعتراف” ولكن “الندم وتقديم اعتذارات غير وارد”، الأمر الذي أحدث ردة فعل غاضبة في الشارع الجزائري، فيما كانت نتيجته إيجابية على مستوى اليمين الفرنسي.

في يونيو/ حزيران الماضي، كلف ماكرون ونظيره الجزائري عبد المجيد تبون، لجنة مشتركة لتحقيق المصالحة التاريخية بين البلدين وإنهاء المشكلات العالقة بينهما، في سياق الاحتفال بالذكرى الستين لنهاية الاستعمار الفرنسي للجزائر سنة 2022.

إختار ماكرون المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا، واختار تبون المؤرخ الجزائري عبد المجيد شيخي، ومهمتهما إعداد توصيات لمعالجة “ملف الذاكرة والاستعمار الفرنسي بالجزائر”، تساعد في تحقيق المصالحة التاريخية المأمولة بين البلدين والشعبين.

يعد المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا المولود بمدينة قسنطينة في شرقي الجزائر، من أبرز المؤرخين المتخصصين في “الاستعمار الفرنسي للجزائر”، وتعتبر أبحاثه وكتاباته مرجعاً مهماً في هذا الإطار. أما المؤرخ عبد المجيد شيخي، فهو مدير الأرشيف الوطني ومستشار رئيس الجمهورية المكلف بالذاكرة الوطنية.

وفيما تأخر المؤرخ شيخي في تقديم تقريره، قدّم ستورا 22 توصية بعنوان: “الذاكرة والحقيقة”، تم تعميمها في سياق تقريره ضمن ملف (PDF) من 150 صفحة.

وبرغم مضي ثلاثة أسابيع إلا أن هذا الحدث لم يخفت إعلامياً. من جهة، يستمر الأخذ والرد بشأنه في الإعلام الفرنسي والجزائري، ومن جهة أخرى، شكلت إطلالات ستورا الإعلامية فرصة لإبراز تناقض بين ما تضمنت قراءته وبين ما تم تعميمه منها عن قصر الأليزيه عبر وكالة الصحافة الفرنسية، حيث يقول ستورا إنه لم يشر مطلقاً في تقريره إلى رفضه مسألة اعتذار فرنسا عن جرائمها في الجزائر، وبالتالي يتهم الرئاسة الفرنسية بتعمد أخذ تقريره في إتجاه سياسي محدد.

اليمين الفرنسي يرفض الإعتذار

ولعل أصل الحكاية أن الرئاسة الفرنسية، وفور تسلمها التقرير وقبل أن تجعله متاحا أمام الجمهور، نشرت بيانا تؤكد فيه استبعاد تقديم أي اعتذار للجزائر والاكتفاء فقط بخطوات رمزية. هذا الأمر ينسجم ورأس ماكرون الذي يضج بابتكار خطط تمكنه من استقطاب قواعد اليمين الفرنسي وإقناعها بإعادة التصويت عليه لولاية رئاسية ثانية في العام 2023، إذ يجد نفسه “سجين ما يشبه رقاص الساعة المتأرجح بين موقفين: من جهة، الاعتذار والتوبة، والإنكار والكبرياء من جهة ثانية”، فيجزم متهربا من هذا الصراع المزعج بالقول: “أنا أريد الحقيقة والمصالحة”، كما عبّر عن ذلك للمجلة الباريسية “جون أفريك”.

يعبّر موقف ماكرون الرافض للإعتذار عن موقف رؤساء فرنسا السابقين، كما اليمين الفرنسي، ولا سيما المتطرف بزعامة مارين لوبان رئيسة حزب التجمع الوطني

عملياً، تنكر ماكرون بـ”عدم الاعتذار” لكل الوعود التي أطلقها خلال زيارته للجزائر في أيلول/ سبتمبر 2018. وقتذاك، قال الرئيس الفرنسي إن “الاستعمار جريمة ضد الإنسانية”، معترفاً أن بلاده أنشأت خلال حرب الجزائر (1954-1962) نظاماً استخدم “التعذيب” ضد جزائريين.

في تلك الزيارة نفسها، قدّم ماكرون إعتذاراً صريحاً لأرملة موريس أودان الشيوعي المؤيد لاستقلال الجزائر الذي تعرض للاختفاء القسري بعد اعتقاله عام 1957 وفقد أثره. اعتبر الجزائريون هذا موقف رئيس فرنسا “نصف إعتذار”. وحث الرئيس تبون فرنسا على “مواصلة نفس المنهج حتى تُقدّم كامل اعتذارها”. وفي خطوة لتهدئة العلاقات الثنائيّة، استقبلت الجزائر في يوليو/ تموز 2020، رفات 24 مجاهداً استشهدوا في بداية عهد الاستعمار الفرنسي 1830-1962.

يعبّر موقف ماكرون الرافض للإعتذار عن موقف رؤساء فرنسا السابقين، كما اليمين الفرنسي، ولا سيما المتطرف بزعامة مارين لوبان رئيسة حزب التجمع الوطني (حزب الجبهة الوطنية سابقا). ففي تغريدة لها على تويتر، استنكرت لوبان مطالبة السلطات الجزائرية للدولة الفرنسية “الاعتذار عن ماضيها”، واعتبرت ذلك محاولة من حكام الجزائر “للتستر عن حاضر البلاد.. اقتصاد مُنهار، شباب ضائع، وبلد يتدهور أكثر”!

يعني ذلك أن فرضية الاعتذار الفرنسي للجزائر كان يمكن أن تتسبب بأزمة داخل فرنسا، فقد كتبت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية اليمينية “أن فتحَ ملفات استعمار فرنسا للجزائر يجب أن يشمل ما قام به الجانبان وليس فقط ما قامت به فرنسا”. هكذا نجح اليمين المتطرف في تغيير المعادلة التاريخية، بإحداث توازن في المطالب التاريخية بين الجزائر وفرنسا، ومنها ملفات “مجزرة وهران” في تموز/ يوليو 1962 ضد المعمرين الفرنسيين، وقضية المفقودين وأملاك المعمرين “الأقدام السوداء” أو “الحرْكيين” عملاء الاستعمار الفرنسي.

نكث الوعد الماكروني

سبق أن شكّك كثيرون بإستعداد فرنسا تقديم اعتذار عن جرائمها في الجزائر، ومن ضمنهم مؤرخون وباحثون. وقيل إن أقصى ما يمكن لفرنسا أن تبادر إليه هو السعي لتحسين العلاقات والاستفادة من الغاز الجزائري والموارد الاقتصادية، خصوصا مع غياب ترتيب قانوني ضد فرنسا في ما يتعلق بالاعتذار، ولأن الجزائر ليس لديها القدرة على مواجهة فرنسا أو إلزام الأمم المتحدة بذلك.

بالمقابل، أشادت جهات فرنسية (شبه رسمية) بتقرير ستورا كونه يتميز بـ”الكثافة والعمق والصراحة”. أما صحيفة “لوموند” فقالت عن ستورا بأنه “مؤرخ حذرٌ بتجاهله قضية التّوبة والاعتذار التي ما زالت تسمّم النقاش، من أجل التركيز على الاعتراف بأحداث معينة”، وأضافت أن ستورا “طموحٌ لأنه يقترح إعادة بعض الأرشيفات إلى الجزائر، لتسليط الضوء على اغتيالات الأوروبيين في وهران في يوليو/تموز عام 1962، والتعرف بشكل منهجي على أولئك الذين اختفوا من الجانبين خلال الحرب، والعمل مع الجزائريين بشأن موضوع التلوث الذي أعقب التجارب النووية التي أجرتها فرنسا في الصحراء حتى عام 1966”.

إقرأ على موقع 180  مفاوضات إيرانية أمريكية جديدة.. "نعم"، لكن ما هي ملفاتها؟

وأشارت “لوموند” إلى وجود لوبي داخل الجيش الفرنسي يرفض فتح أرشيف الاستعمار، “ما يجعل التقرير مجرد بالون اختبار”. فما حصل تسريبه أن بنيامين ستورا يرى أن أمثلة التاريخ في اليابان وكوريا الجنوبية والصين تؤكد أن “المصالحة” لا تتحقق بين الدول بتقديم الاعتذارات. لذلك لم يرد في تقريره حرف عن مسألة “الاعتذار والاعتراف” أو فكرة “الندم والتوبة”.

وعلق المؤرخ الفرنسي جيل مانسيرون قائلا:”سيأتي يوم تقدّم فيه فرنسا الرسمية اعتذارها غير أن الأهم اليوم هو العمل على نشر فكرة الاعتراف والحقيقة في أوساط الرأي العام”.

الإعتذار فكرة سياسية

وبرغم جذور بنيامين ستورا الجزائرية، فإن تصوراته بقيت “بعيدة تماماً عن انتظارات الجزائريين”، حسب الباحث الجزائري عبد الحميد عثماني الذي نبه إلى أن “التقرير لا يحتوي على الاعتراف الفرنسي بجرائم الدولة الفرنسيّة في حق الإنسان”، وأنه تجاوز “فكرة الاعتذار الإجباري أو التعويض المشروع عن الدمار الحضاري والمادي الذي سبّبه الاحتلال الاستيطاني البغيض طيلة 132 سنة، دون الحديث عن النهب والاستغلال الذي طال كل شيء فوق هذه الأرض”.

هل تمكن ماكرون من منح أجيال الشباب “إمكانية الخروج من النزاعات المتعلقة بالذاكرة”، كما تمنى ذلك في رسالة التكليف التي قلدها للمؤرخ الجزائري – الفرنسي بنيامين ستورا، أم أنه قام فقط بخطوة بهلوانية بهدف إستمالة جمهور يميني لأغراض إنتخابية؟

وفي انتظار “تقرير شيخي”، اعتبر الباحث عثماني أن تقرير ستورا “لم يتطرق إلى تجريم الفعل الاستعماري في حدّ ذاته، ولا إلى الملايين من الضحايا الذين خلفتهم الهمجية الفرنسية، والذي يلزم فرنسا بالاعتذار والتعويض قبل الخوض في أي تفاصيل أخرى”. وتساءل: “هل ستبنى المصالحة بين الجزائر وفرنسا على أسس متينة لتنظيف الجرح الغائر في قلوب الجزائريين؟ أم أنها ستأخذ وقتا أكثر لتجاوز مخلفات الماضي؟”.

غير أن ستورا، وإزاء الحملات التي إستهدفته، أوضح لصحيفة “ليبراسيون” الفرنسية، أنه لا يعارض مسألة الاعتذار، ورأى أن شعار “لا اعتذار، لا توبة” الذي لُخص به عمله لا يوجد أبداً في دفتي تقريره، وقال متوجها للجزائريين إن تقريره، وعكس ما يتداول عنه، ينص بوضوح في الفصل الأخير، على أنه لا يوجد أي اعتراض على اعتذار فرنسا للجزائر.

وأضاف ستورا أن تقريره حمل فقط تساؤلات عن جدوى هذه الخطوة، من خلال استحضار حالات في التاريخ، أبرزها اعتذار الولايات المتحدة لفيتنام، الذي لم يزل تعصب الفيتناميين تجاه الأقليات من غير البيض.

وإعتبر ستورا أن الاعتذار فكرة سياسية، بينما استراتيجيته تقوم على التعريف بالماضي الاستعماري الفرنسي المجهول لدى غالبية الفرنسيين عبر تغيير المناهج التربوية والتعريف بالرموز الجزائرية التي قاومت الاستعمار وغيرها من الخطوات التي تفكك التعصب الموجود في المجتمع الفرنسي مع الوقت.

توصيات بنيامين ستورا

أوصى تقرير بنيامين ستورا بإحياء فرنسا ثلاث مناسبات تذكارية متصلة بالجزائر، وهي التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار في 19 مارس/آذار 1962، مجازر 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961 التي راح ضحيتها العمال الجزائريون في فرنسا، وإحياء اليوم التكريمي ل”الحَرْكي”، وهم الجزائريون المتعاونون مع الجيش الفرنسي في الجزائر. والسماح لهم مع أبنائهم بزيارة الجزائر، وهم الذين يعتبرون في عداد الخونة عملاء الاستعمار.

كما أوصى بإقامة تمثال للأمير عبد القادر في مدينة أومبواز الفرنسية، التي نفي إليها بين عامي 1848 و1852 بسبب مقاومته للغزو الفرنسي للجزائر، قبل مغادرته إلى دمشق. ويدشن هذا النصب التذكاري في يوليو/تموز 2022، بمناسبة الذكرى الستين لاستقلال الجزائر.

 واقترح إنشاء هيئة مختصة تتولى توثيق شهادات “ضحايا هذه الحرب لإثبات مزيد من الحقائق وتحقيق المصالحة”. مع مواصلة العمل المشترك للكشف عن حقيقة ملف التجارب النووية الفرنسية في الجزائر بين عامي 1960 و1966، والآثار المترتبة عليها حتى الآن في مدن الصحراء الجزائرية، إضافة إلى معالجة مشتركة لقضية زرع الألغام على الحدود التونسية والمغربية. وإصدار “دليل المفقودين” مجهولي المصير، مناضلين جزائريين كانوا أم أوروبيين، اختطفهم البوليس الاستعماري في معركة الجزائر.

كما إقترح إنشاء لجنة مؤرخين من البلدين لبحث موضوع استرجاع مدفع “بابا مرزوق” التاريخي المنصوب في مارسيليا، الذي تعود أهميته إلى كون حاكم الجزائر الباشا حسن إستخدمه في القرن السابع عشر، لقصف قناصلة فرنسيين في البحر.

وأوصى ستورا بتفعيل مجموعة عمل مشتركة مهمتها جرد الوثائق التي أخذتها فرنسا أو تركتها في الجزائر، وإنشاء قاعدة أرشيفية مشتركة بين البلدين، يمكن الوصول إليها بسهولة. وإعادة إطلاق مشروع إنشاء متحف لتاريخ فرنسا والجزائر، في مدينة مونبلييه الفرنسية، بعد تجميده عام 2014. ونقل رفات المحامية والمناضلة جيزيل حليمي إلى مقبرة العظماء في بانثيون بفرنسا، باعتبارها شخصية بارزة وقفت إلى جانب الشعب الجزائري وناضلت في سبيل استقلاله.

هل تمكن ماكرون من منح أجيال الشباب “إمكانية الخروج من النزاعات المتعلقة بالذاكرة”، كما تمنى ذلك في رسالة التكليف التي قلدها للمؤرخ الجزائري – الفرنسي بنيامين ستورا، أم أنه قام فقط بخطوة بهلوانية بهدف إستمالة جمهور يميني لأغراض إنتخابية؟

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  مفاوضات إيرانية أمريكية جديدة.. "نعم"، لكن ما هي ملفاتها؟