“الأطلسيون مرّوا من هنا”. عبارة قد يجدها أحد المارّة مُدوَّنة على بقايا جدار منسي في مكان ما في بيروت. أو على الأقل سيقرأها في كتب التاريخ أو في مذكرات مسؤولين غربيين، سياسيين كانوا أم عسكريين، وذلك عند الحديث عن لبنان خلال الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 وما بعده. هي عبارة تختصر تجربة، عمرها لم يتجاوز السنتين، لكنها منقسمة إلى مرحلتين ونوعين. بدأت على وقع مأساة وانتهت بمأساة.
في المرحلة الأولى، تدخلت القوات الأميركية والفرنسية والإيطالية في لبنان، تحت اسم: قوات متعددة الجنسيات للفصل بين المتحاربين. كان الاجتياح الإسرائيلي في ذروته. حصار بيروت والقصف كادا يلحقا “هزيمة ساحقة” بياسر عرفات و”منظمة التحرير الفلسطينية”. لكن عوامل عدة من بينها الضغوط العربية والفرنسية والمرونة الأميركية المتأخرة، جنّبت الفلسطينيين سيناريو “الهزيمة الساحقة”، لمصلحة “الهزيمة المُشرفة”. هكذا انتزع المبعوث الدبلوماسي الأميركي، فيليب حبيب، اتفاقاً تاريخياً ينص على خروج “منظمة التحرير” من بيروت، بحماية “قوات متعددة الجنسيات”، مهمتها الفصل بين المتحاربين. عملية الإجلاء بدأت في 21 آب/أغسطس وانتهت في الأول من أيلول/سبتمبر.
عملياً، خرج ياسر عرفات من مرفأ بيروت بحماية فرنسية مباشرة، وبضمانة أميركية، بينما كان وزير الدفاع الإسرائيلي، أرييل شارون، يتمنى تصفيته وهو يراقب بمنظاره تفاصيل خروج القيادات الفلسطينية من العاصمة اللبنانية.
“الأطلسيون عادوا إلى هنا”. هي العبارة الثانية التي يمكن تخيّلها إذاً على أحد جدران بيروت، ويمكن قراءتها في أدبيات العلاقات الدولية وكتب التاريخ. في 19 أيلول/سبتمبر، بحثت إدارة الرئيس الأميركي، رونالد ريغن، مسألة إعادة إرسال “المارينز” إلى بيروت ضمن قوات متعددة الجنسيات
بعد خروج الفصائل الفلسطينية من بيروت، معظمها عبر البحر إلى تونس، وقسم منها عبر البر إلى سوريا، لم تبق “القوات متعددة الجنسيات” طويلاً. في الأساس، أصرت الولايات المتحدة الأميركية على أن مدة انتشار هذه القوات لن تتجاوز الـ30 يوماً. كانت واشنطن تعتقد أن هذه الفترة تكفي لإنجاز مهمة إخراج “منظمة التحرير” من بيروت، وتسهيل عملية إعادة بسط سلطة الجيش اللبناني في “بيروت الغربية”. وكان عرفات أراد بقاء القوات “الأطلسية” حتى 21 أيلول/سبتمبر على الأقل. فهو كان اشترط أن تتولى “قوات متعددة الجنسيات” توفير الحماية للمخيمات الفلسطينية في بيروت، بعد انسحاب المسلحين الفلسطينيين. وبالفعل، اضطلعت القوات الإيطالية بتلك المهمة. لكن “الأطلسيين” لم يبقوا حتى 21 أيلول/سبتمبر. قرار واشنطن بسحب قواتها تبعه قرار إيطالي مماثل. هكذا، لم يعد بوسع فرنسا إلا أن تحذو حذو الأميركيين والإيطاليين، على الرغم من تحفظها على الانسحاب المتسرّع، لأن قواتها لم تكن قادرة على البقاء وحدها في الميدان. الانسحاب اكتمل قبل 14 أيلول/سبتمبر، تاريخ اغتيال رئيس الجمهورية المنتخب، بشير الجميل. وما حصل بعد ذلك، أظهر أن التحفظ الفرنسي كان مبرراً.
الفرنسيون كانوا يتخوفون من تدهور الوضع بعد انسحاب “القوات متعددة الجنسيات” قبل أوانها، أي قبل مرور 30 يوماً على الأقل. هذا ما يكشفه تقرير دبلوماسي من الأرشيف الفرنسي، كُتِبَ في 8 أيلول/سبتمبر 1982، أي قبل الانسحاب. ومما جاء فيه حرفياً: أن “انسحاب قوات متعددة الجنسيات في الفترة المقبلة، سيترك (الميدان) لمواجهة مباشرة بين المليشيات الإسلامية-التقدمية (…)، التي يمكن أن يكون تسلل إليها فلسطينيون، بحسب قول الإسرائيليين، والجيش (اللبناني) وقوى الأمن الداخلي، وكتائبيي بشير الجميل، التي يخشى الفلسطينيون والتقدميون من تجاوزاتهم (المحتملة)، فضلاً عن الجيش الإسرائيلي الذي من الممكن أن يرغب في الدخول إلى بيروت الغربية، وبالدرجة الأولى إلى المخيمات الفلسطينية، تحت ذريعة مصادرة الأسلحة الثقيلة”.
حسابات الأميركيين كانت تتأرجح في مكان آخر. فالانسحاب المبكر أتى على وقع تجاذبات داخل الإدارة الأميركية. وزارة الخارجية كانت تتطلع إلى البقاء بانتظار معالجة بقية الإشكاليات في لبنان، مثل الانسحابين السوري والإسرائيلي ومن بقي من الفلسطينيين. لكن البنتاغون فضّل الانسحاب بأسرع وقت من أجل تجنب المخاطر، ولأنه لا يريد توريط “المارينز” بمهمة تتسم بحالة من عدم اليقين. كان لدى وزير الدفاع الأميركي كاسبار وينبرغر، ذريعة مفادها أن أي تحسن ملحوظ للوضع في لبنان غير وارد من دون التوصل إلى مصالحة وطنية حقيقية بين اللبنانيين. ومن هذا المنظور، يكون الانسحاب المتسرع للقوات “الأطلسية” انسحاباً من المستنقع اللبناني.
بعد اغتيال بشير الجميل، احتل الجيش الإسرائيلي بيروت الغربية في 15 أيلول/سبتمبر. ثم ارتُكِبَت مجازر صبرا وشاتيلا بين 15 و18 أيلول/سبتمبر، على يد عناصر مسلحة كتائبية بإشراف إسرائيلي. هذا التحوّل المأساوي أسّس للمرحلة الثانية من التدخل العسكري الغربي المباشر في لبنان.
“الأطلسيون عادوا إلى هنا”. هي العبارة الثانية التي يمكن تخيّلها إذاً على أحد جدران بيروت، ويمكن قراءتها في أدبيات العلاقات الدولية وكتب التاريخ. في 19 أيلول/سبتمبر، بحثت إدارة الرئيس الأميركي، رونالد ريغن، مسألة إعادة إرسال “المارينز” إلى بيروت ضمن قوات متعددة الجنسيات.
ناقشت واشنطن ثلاثة خيارات في شأن حجم ومهام وتوقيت انتشار هذه القوات، بحسب ما يظهره كتاب المؤرخة الأميركية Gail Yoshitani، في كتابها: “Reagan on War. A Reappraisal of the “Weinberger Doctrine, 1980-1984. وهي تفيد بأن الخيار الأول كان يتمحور حول إمكانية إرسال قوة عسكرية كبيرة، شبيهة بالقوة التي أرسلتها واشنطن إلى لبنان عام 1958، والتي بلغ عددها 7000 جندي. يمكن لتدخل بهذا الحجم أن يسهل عملية إقناع إسرائيل بالانسحاب، لأن “قوات متعددة الجنسيات” ستكون قادرة على ضمان الأمن على الحدود في الجنوب، ويمكنها إجبار سوريا على سحب جيشها من لبنان. كان روبرت ماكفرلين، مستشار الأمن القومي للرئيس ريغان بين العامين 1983 و1985، متحمساً لهذا الخيار، على عكس كل من وزيري الخارجية جورج شولتز والدفاع كاسبار وينبرغر.
شولتز كان متحمساً للخيار الثاني الذي يقترح تدخلاً عسكرياً محدوداً، يترافق مع عمل دبلوماسي من أجل حل الأزمة اللبنانية. من شأن قوة محدودة أن تساهم في إعادة بسط الأمن في بيروت وتعمل على انسحاب الإسرائيليين والسوريين ومن بقي من فلسطينيين بالبقاع والشمال، وذلك عن طريق التفاوض، فضلاً عن رعاية اتفاق سلام إسرائيلي – لبناني. أما وينبرغر، فكان مدافعاً عن الخيار الثالث الذي ينص على انتظار إنجاز انسحاب كل الجيوش الأجنبية من لبنان، وإتمام المصالحة بين اللبنانيين، لإرسال المارينز بعد ذلك من أجل المساهمة في مهمة حفظ السلام ومساعدة الجيش اللبناني على إعادة بسط الأمن، وفق ما ورد في كتاب Gail Yoshitani. لكن في المحصلة، حسمت الإدارة الأميركية موقفها لمصلحة الخيار الثاني، أي التدخل العسكري المحدود.
وفي اليوم نفسه (19 أيلول/سبتمبر)، بحثت إيطاليا مع كل من فرنسا والولايات المتحدة مسألة إعادة إرسال قوات حفظ سلام إلى بيروت. في البداية، فضلت فرنسا إرسال قوات أمم متحدة، وتحديداً “اليونيفيل” الموجودة أصلاً في جنوب لبنان (منذ العام 1978). لكن إسرائيل اعترضت بشدة على فكرة كهذه، كما رفضتها واشنطن لأنها تؤدي إلى منح الاتحاد السوفياتي دوراً في التحكم بمهمة القبعات الزرق في بيروت من خلال مجلس الأمن. وهذا دور لا تريد الولايات المتحدة تقديمه على طبق من فضة لخصمها في الحرب الباردة.
حسابات الأميركيين كانت تتأرجح في مكان آخر. فالانسحاب المبكر أتى على وقع تجاذبات داخل الإدارة الأميركية. وزارة الخارجية كانت تتطلع إلى البقاء بانتظار معالجة بقية الإشكاليات في لبنان، مثل الانسحابين السوري والإسرائيلي. لكن البنتاغون فضّل الانسحاب بأسرع وقت من أجل تجنب المخاطر، ولأنه لا يريد توريط “المارينز” بمهمة تتسم بحالة من عدم اليقين
سقط الاقتراح الفرنسي، وتوافقت واشنطن وباريس وروما على إرسال قوة أطلسية من جديد، تحت اسم “قوات متعددة الجنسيات للأمن”، وهو أمر حصل رسمياً بناءً على طلب من الحكومة اللبنانية في 20 أيلول/سبتمبر. واعتباراً من 24 أيلول/سبتمبر، بدأت هذه القوات تنتشر في غرب بيروت وعلى مداخلها. وسرعان ما تبيّن أن مهمتها ستكون صعبة.
لم تنسحب إسرائيل فوراً من كامل الأرض اللبنانية، شأنها شأن سوريا. ولم ينجز اللبنانيون المصالحة الوطنية، بل أمعنوا في حروبهم الأهلية المتنقلة بين الجبل وبيروت الغربية وبيروت الشرقية وطرابلس. وكما كان يتخوف الأميركيون، تمكنت سوريا في السنة التالية من إعادة تعزيز قوتها وقوة حلفائها في لبنان، وذلك بفضل الدعم السوفياتي. أما العنصر الجديد الذي بات يؤثر في المعادلة اللبنانية، اعتباراً من صيف سنة 1982، فكان العنصر الإيراني. فالحرس الثوري الإيراني دعم مجموعة إسلامية (تتراوح أصولها بين حركة فتح (نموذج عماد مغنية) وحزب الدعوة (معظم قيادات الصف الأول في حزب الله)، ستُعرَف لاحقاً باسم حزب الله. هذا الدعم كان يهدف على المدى الطويل، إلى بناء نفوذ جيوسياسي لإيران في شرق البحر المتوسط، لكن الهدف على المدى القصير والمتوسط، فكان يتمثل في إخراج القوات الإسرائيلية و”القوات متعددة الجنسيات” من لبنان. إسرائيل بقيت حتى العام 2000، لكن القوات “الأطلسية” أدركت أن مهمتها فشلت واضطرت للانسحاب في أوائل العام 1984، إثر سلسلة هجمات استهدفتها، وأكبرها عملية 23 تشرين الأول/أكتوبر 1983، التي أودت بحياة 241 جندياً أميركياً، و58 جندياً فرنسياً. هكذا، رحل “الأطلسيون” من لبنان تاركين خلفهم بلداً ممزقاً، محتلاً، ومفتوحاً أمام شتى أنواع التدخلات الخارجية المستمرة حتى يومنا هذا.