من الطبيعي أن يخرج زعماء الأوطان للحديث في مناسبات عن أحداث شكّلت معالم ومحطات في تاريخ بلدهم.
في لبنان، لكل حزب وملة وقبيلة ذاكرة خاصة لا تتقاطع مع ذاكرة الشركاء الآخرين في الوطن. وفي لبنان أزمة لم يشهد مثيلاً لها في تاريخه.. وشعبه مسحوق كما لم يُسحق من قبل والطبقة السياسية لا تبالي بما يحصل وها هو الوطن على شفير هاوية حرب الجوع والجياع التي لا يمكن إلا أن تقود إلى حرب أهلية.
أسباب أزمة لبنان الوطنية ضائعة بين عوامل إقليمية وعوامل دولية تعتمد على ضبابيتها قوى داخلية في محاولة لتحسين مواقعها في ركاب الأوليغارشية الحاكمة.
المطلوب هو مصارحة اللبنانيين. ما تشاهدونه وتشهدونه هو تحايل واستغباء لعقول كل الملل والقبائل التي تشكل هذا الوطن. الوضع ينذر بالعودة إلى الحرب الأهلية الدامية التي استنفدت قوة لبنان قتلاً وتهجيراً وغسل أدمغة.
الصراحة مطلوبة لأنها تدعّم بنيان الأوطان. نتحدث عن الصراحة العلمية، وهي على نقيض ما يدور على موقع التواصل الاجتماعي التي هي مجرد فشة خلق وتنفيس إحتقان.
حتماً في وعي ولا وعي معظم موارنة لبنان، إقرار بالمضمون السياسي لإتفاق الطائف، لكنهم ـ وبرغم ذلك ـ إنساق الكثير منهم إلى تصديق نظرية “الماروني القوي”، أما الواقعيون منهم، فقد قرروا إما الصمت أو ترك لبنان
نبدأ من أعلى الهرم أي رئاسة الجمهورية، أي درة تاج موارنة لبنان.
غابت الصراحة عن تصرفات زعماء هذه الطائفة، وذلك منذ نهاية الحرب البغيضة في العام 1990 وما أعقبها من تحولات بنيوية فرضتها عوامل داخلية وخارجية وممارسات سياسية. الواقع الذي يدركه زعماء هذه الطائفة ولا يودون البوح به هو الإقرار بخسارة الحرب الأهلية وبالتالي تراجع الدور السياسي الماروني، الأمر الذي ثبّته إتفاق الطائف والدستور الجديد ورافقته عملية تبويس لحى، على الطريقة اللبنانية والعربية.
اليوم، ما لا يقوله ميشال عون وجبران باسيل هو أنهما يريدان إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. هما يستفيدان من موقع رئاسة الجمهورية من أجل تأويل مواد دستورية بالإتجاه الذي يريدانه. شراكة في التأليف وثلث معطل وحقائب حصرية. بمجرد قراءة المواد الدستورية، يتبين لك أن الدستور ليس نصوصاً دستورية فقط بل هو روح خاصة في نموذج لبنان. لكن الحقيقة المفجعة أن الدستور الجديد إنتزع الصلاحيات من رئاسة الجمهورية وأعطاها إلى مجلس الوزراء مجتمعاً وإن ترأسه رئيس الجمهورية الذي يحضر ولا يصوّت ومن ثم يحيل مشاريع القوانين التي يحيلها له مجلس الوزراء إلى مجلس النواب.
حتماً في وعي ولاوعي معظم موارنة لبنان، إقرار بالمضمون السياسي لإتفاق الطائف، لكنهم ـ وبرغم ذلك ـ إنساق الكثير منهم إلى تصديق نظرية “الماروني القوي”، أما الواقعيون منهم، فقد قرروا إما الصمت أو ترك لبنان.
المطالبة بتغيير الدستور حق من حقوق الموارنة (وحق من حقوق أي مواطن في لبنان). ولكن لا يحق لزعمائهم تجميد الحياة السياسية في ظل نكبة اقتصادية وجائحة صحية. هل يحق للمسؤول أن يساهم بسلوكه في تشريع الموت البطيء؟ عليهم أن يصارحوا طائفتهم وأن يدعوها للإنخراط في عمل سياسي حثيث من أجل تغيير الدستور. هذا هو منطق الأمور.
ماذا عن المرتبة الثانية من رأس الهرم، أي رئاسة المجلس النيابي؟
هذا الموقع يتربع عليه نبيه بري، منذ فترة طويلة، وعلى أهميته، فإن الدور الذي يلعبه بري في المربعات السياسية، يتجاوز بكثير الدور الذي يؤول إليه، بحسب الدستور. هو مسار متصل بانعكاسات الحرب الأهلية على القوى السياسية والبنية الطائفية. من دون إغفال عوامل أخرى، أبرزها دخول إسرائيل إلى المعادلة اللبنانية، من خلال إجتياحاتها وحروبها من العام 1948 حتى العام 2006 مرورا بإجتياحي العامين 1978 و1982. واقع ولّد قوة سياسية بسبب نير الاحتلال، فكان قرار الإستفراد بقرار المقاومة في الجنوب. ليس خافياً على أحد أن الوهج الذي يستظل به رئيس البرلمان يتصل بمعادلة “الثنائية” وقطبها الأبرز حزب الله ومقاومته لإسرائيل.
هذا الفائض في القوة، وبصراحة، هو ردة فعل مفهومة تاريخياً على تضافر إرادة مارونية ـ سنية قبل الحرب الأهلية، أدت إلى هيمنة ثنائية على مقاليد الحكم وأسّست لسياسة الحرمان وعدم الاهتمام بالمناطق الشيعية المحرومة.
لقد آن الأوان لأن يلتفت الشيعة إلى مشروع بناء دولة قانون ولكن هيهات أن يقبل القيّمون على شأنها بذلك. هذا الواقع تدركه غالبية هذه الطائفة ولكن ثمة إنسياق إلى زعامات تقودهم من دون أية مساءلة، وللأسف فإن الواقعيين منهم وهم قسم لا بأس به إما صمتوا أو… هُجِروا أو هاجروا.
لا يوجد زعيم يقول لسنة لبنان بالفم الملآن انتهى عصر رفيق الحريري وانتهى عهد الاتكال على الخليج، وأن العمل السياسي يتطلب إعادة تدوير الموقف من الدولة والقبول بتحالفات بعيدة عن الطائفية والمذهبية
ماذا عن المرتبة الثالثة من رأس الهرم، أي رئاسة مجلس الوزراء؟
هذا الموقع الذي كان حتى بداية الحرب الأهلية يُتَداول حسب مبدأ المعارضة والموالاة، خطفه الشهيد رفيق الحريري وجعله قلب السياسة اللبنانية الإجرائية ليس اعتماداً على دستور جديد فقط بل بقوة ثروته وعلاقاته الدولية والعربية وتجييره دعم الخارج لكل جهود وقف الحرب الأهلية لمصلحة أن يشكل عنوان مرحلة إعادة إعمار لبنان. ولكن هذا لم يمنعه من القبول ولو على مضض بتداول السلطة في هذا الموقع السني (تجربة سليم الحص). ولكن شخصنة هذا الموقع، ساهمت بانهيار قوة رئاسة الحكومة بعد الاغتيال الشنيع لرفيق الحريري في العام 2005. ترك هذا الحدث فراغاً لم يستطع أي ممن وصل إلى الموقع في السراي أن يملأه.
قبل الحرب الأهلية وخلالها (حتى 1982)، اعتمدت الطائفة السنية على منظمة التحرير الفلسطينية، ثم على الجيش السوري الذي لأسباب داخلية سورية بحتة (التغطية على الهيمنة العلوية وإرضاء البرجوازية السورية) كان يدعم الفريق السني اللبناني في إدارة شؤون بلاد الأرز ولأجل محاصرة الموارنة، أيضاً ولأسباب تاريخية كان إتكال أهل السنة في لبنان على العرب (مصر والسعودية) أكثر من اتكالهم على قوتهم الداخلية. ثم أنهم وبردة فعل على عوامل خارجية (العراق والحرب في سوريا) وداخلية (تعاظم نفوذ حزب الله)، حار جمهور السنة في المسلك الذي يجب أن يسلكه، بين قيادات محلية باتت في حالة إغتراب عن قواعدها الشعبية وبين تطرف أصولي لا يمت بصلة إلى هوية أهل السنة وكل الشعب اللبناني.
إذا موقع الرئاسة الثالثة ضعيف بالقوة وقوي بالضعف. ولا يوجد زعيم يقول لسنة لبنان بالفم الملآن انتهى عصر رفيق الحريري وانتهى عهد الإتكال على الخليج، وأن العمل السياسي يتطلب إعادة تدوير الموقف من الدولة والقبول بتحالفات بعيدة عن الطائفية والمذهبية. ويدرك هذا الأمر لاوعي المواطنين السنة وقد بدأت موجة جديدة من الهجرة التي لم يعرفها سابقاً أهل السنة.
هذه الصراحة المطلوبة من المكونات الثلاثة للوطن اللبناني ستقود حكماً إلى ما طالبت به جماهير ١٧ تشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠١٩ أي تثبيت نظام جديد (لا نستطيع استعمال تعبير علماني، إذ أن كثيرين لا يفقهون المعنى ويعتبرونه مضاداً للدين) بعيد عن الطائفية ولتكن الانتخابات (بوجوه جديدة)؟ بعيدة عن القبلية الطائفية والمذهبية.