يتمحور الكباش المحتدم حالياً بشأن الحكومة اللبنانية المكلف بتشكيلها سعد الحريري، حول عدد وزرائها والتوازنات الطائفية فيها، مترافقاً مع لازمة وهم الإختصاصيين غير الحزبيين، لإنجاز المهمة التي وضعت بوصلة الشأن الإقتصادي نصب أعينها أولاً، كما يحلو للواهمين التوهم وفقاً للمبادرة الفرنسية التي نحرت من الوريد إلى الوريد، ويريدونها حية ترزق بالإيهام لا بالفعل الهمام.
كيف لوزير البقاء محايداً بينما أجندة من سمّاه فاقعة في هذا الملف الإقتصادي أو ذاك، وحادة في هذه القضية الإجتماعية أو تلك؟ كيف للإختصاصيين أن يكونوا “ملائكة” محايدين ومن سماهم يشيطن خصومه ليل نهار؟
لنذهب إلى شياطين التفاصيل أكثر: يريدون تسويق أن لا مهمة للحكومة المقبلة إلا معالجة الشأن الإقتصادي. حسناً، ماذا عن الدولارات المطلوبة؟ من أين نأتي بها؟ وبأي الأرقام؟ ولأي الأغراض؟ ومن يضمن عدم تبديدها كما بددوا 100 مليار دولار قبلها؟
دعونا نبسط المسألة أكثر. الوضع الإقتصادي الإجتماعي الهش القائم حالياً يحتاج إلى 6 مليارات دولار سنوياً لزوم دعم المواد والسلع الأساسية وتحديداً المحروقات والأدوية والقمح وبعض السلع الغذائية.
ها هو مصرف لبنان يصرخ بأعلى صوته داعياً إلى إيجاد حلول بديلة بعدما بدأ الصرف من الإحتياطي الإلزامي المتناقص سريعاً والبالغ اليوم حدود الـ 16.5 مليار دولار فقط، بأحسن الأرقام، وبعدما إتضح أن الدعم يفيد الغني قبل الفقير، والتاجر قبل المستهلك، والمهرب قبل الجميع. والأنكى أنه يفيد الطبقة السياسية الواهمة أنه يمكن الإمعان في صرف ما تبقى من دولارات المودعين بلا حسيب أو رقيب على ما إقترفته أيديهم منذ 30 سنة إلى اليوم!
ماذا ستفعل الحكومة المقبلة بهذا الملف؟ من أين ستأتي بـ 6 مليارات دولار سنوياً؟
الرهان على صندوق النقد فقط هو مجرد وهم قاتل. عندما نعلم أن مصادر الصندوق تؤكد أنه لن يُؤمّن هذا المبلغ في سنة بل في عدة سنوات وبرقابة شديدة، شرط تطبيق بنود إصلاحية مؤلمة جداً بات الجميع يعرفها عن ظهر قلب، وأقساها تحرير سعر صرف العملة ورفع الدعم وتحرير تعرفات الكهرباء والإتصالات وغيرها من الخدمات العامة لزيادة إيرادات الخزينة العاجزة بنحو 4 إلى 5 مليارات دولار سنوياً.
ماذا عن الودائع الدولارية المقدرة بأكثر من 100 مليار؟ من أين ستأتي الدولارات لطمأنة أصحاب المدخرات؟ أما “اللولرة”، أي دفع تلك الودائع بالليرة على سعر المنصة بواقع 3900 ليرة لكل دولار، فستضخم الكتلة النقدية بالعملة الوطنية أكثر
لنعد إلى حكومة الوزراء الاختصاصيين والحياديين غير الحزبيين، فهل سيتخذون قرارات غير شعبية بمعزل عن القوى السياسية والطائفية التي تختبئ وراء تسميتهم؟ وما ضمانة عدم تكرار تجربة حكومة حسان دياب بوجهها التكنوقراطي المموه، والساقط أمام أبسط فيتوات الأقطاب السياسية التي هزّت الحكومة هزاً مريعاً حتى سقط مشروعها للإصلاح المالي والمصرفي صريعاً على مذبح عجزها الفاضح، في ظل نظام شرس حد الإحتراب بتناقضات مصالح أقطابه جميعاً بلا إستثناء.
وللتبسيط أكثر: ليس سراً أن تلك القوى تضم مروحة من أقصى اليسار (الطائفي) إلى أقصى اليمين (الطائفي) بالمعنى الإقتصادي للتصنيف إذا صحّ القول. فعند بحث مطلب صندوق النقد القاضي بزيادة الإيرادات عبر ضرائب جديدة سينفجر وهم الإختصاصيين والحياديين غير الحزبيين. وكذلك الأمر عند تحرير تعرفات الكهرباء والإتصالات، ولو بشكل متدرج، لأن معظم القوى التي سمت وزراءها لن تجرؤ على مصارحة جمهورها بطلب تضحيات إضافية فوق الذي إبتلي به منذ 16 شهراً سيما وأن شد الحزام على المعدة والأمعاء مطلوب لمدة 5 سنوات أخرى على الأقل.
كيف لا وضريبة هامشية عبثية على مكالمات “الواتس آب” أشعلت حراكاً كاد لا يبقي ولا يذر، فكيف بزيادة تعرفات الكهرباء والإتصالات والمياه، وضبط الجمارك والحدود لجباية رسوم إضافية تحول دون التهريب السلعي والتهرب الضريبي المقدر بنحو 2.5 مليار دولار سنوياً. فجزء من تلك الكلفة إذا إسترجعت وأفادت منها الخزينة العامة سينعكس زيادة على أسعار الإستهلاك المتضخمة أصلاً والمثقلة لكاهل أكثر من نصف اللبنانيين حتى الآن.
ثم ماذا عن الودائع الدولارية المقدرة بأكثر من 100 مليار؟ من أين ستأتي الدولارات لطمأنة أصحاب المدخرات؟ أما “اللولرة”، أي دفع تلك الودائع بالليرة على سعر المنصة بواقع 3900 ليرة لكل دولار، فستضخم الكتلة النقدية بالعملة الوطنية أكثر (بالطبع الهستيري لليرة المتضاعف 3 مرات في سنة) لتشكل ضغطاً إضافياً على سعر الصرف وبالتالي على أسعار الإستهلاك.. أيضاً وأيضاً في حلقة جهنمية على الطريقة الزيمبابوية بنسب تضخم تزيد على 350 في المائة!
ولزوم البنج (قوم فوت نام وصير حلام) إنتظارعودة سعر الصرف يوماً إلى المستويات السابقة لحراك 17 تشرين/ أكتوبر 2019. فمع ترشيد الدعم تدريجاً حتى إلغائه بعد إيجاد بدائل له سيختفي نهائياً سعر 1500 ليرة للدولار. وقد يختفي أيضاً سعر المنصة مع تنفيذ شروط صندوق النقد سواء بتعويم الليرة أو بتوحيد أسعار الصرف التي بات عددها اليوم 4: 1500 للدعم، 3900 للمنصة وصرف الودائع الدولارية، 6240 لصرف قرض البنك الدولي للأكثر فقراً، بالإضافة إلى سعر السوق السوداء فوق 9300 ليرة للدولار اليوم وأكثر من ذلك حتماً في المرحلة المقبلة مع تبدد الأوهام، الواحد تلو الآخر.
وللذهاب بعيداً في التوهم المخدر، ثمة من يراهن على أموال مؤتمر “سيدر”، ممعناً في تعميم سراب من نوع آخر. فتلك الأموال مرهونة ببرنامج إصلاحي قاس هي الأخرى. فالجزء الأكبر منها للإستثمارات العامة وليست لدعم سلال الإستيراد والإستهلاك ومستويات المعيشة . فالدول والجهات التمويلية العربية والأجنبية، التي إلتزمت بضخ أموال “سيدر” على مراحل وضعت جملة شروط أبرزها الخصخصة و/أو شراك القطاع الخاص في الكهرباء والمياه والنقل والنفايات وقطاعات عامة أخرى. وسنكتشف السراب مذهولين عندما تكشر الخصخصة عن أنياب الإحتكار وبالتالي رفع أسعار الخدمات، وستفرض على المستهلكين أعباء لا طاقة لهم عليها في ظل غياب كلي للبرامج القادرة فعلياً على رفع قدراتهم الشرائية بالتوازي، كماً ونوعاً.
بعض الشروط يلمح إلى إنهاء خدمات عشرات آلاف الموظفين الذين لا يداومون ولا ينتجون، وهم من “رعايا” الأحزاب والتيارات السياسية المحشوين حشواً زبائنياً في القطاع العام
ولا حديث البتة في المدى المنظور عن تصحيح للأجور المتآكلة بنسب تراوحت بين 50 و80 في المائة، ولا حديث عن فرص عمل جديدة خصوصاً لدى أكبر رب عمل، أي الدولة. إذ من شروط صندوق النقد كما “سيدر” الحؤول دون ذلك تماماً، لا بل إن بعض الشروط يلمح إلى إنهاء خدمات عشرات آلاف الموظفين الذين لا يداومون ولا ينتجون، وهم من “رعايا” الأحزاب والتيارات السياسية المحشوين حشواً زبائنياً في القطاع العام، كما هناك شرط إصلاح نظام التقاعد بإلغاء إمتيازات وتخفيض أخرى كما ظهر أول غيثه في موازنة 2021.
أما برامج الحماية الإجتماعية، التي بدأنا نرى بشائرها مع قرض البنك الدولي للفئات الأكثر فقراً، فهي فتات يستحيل معه الوفاء بجزء مما فقده المستهلكون، من الفقراء ومتوسطي الحال، من رواتبهم ومدخراتهم وفرص عملهم الضائعة بسبب الأزمة الإقتصادية وجائحة كورونا. فما تلك القروض والمساعدات بالنسبة للمجتمع الدولي، ولأسباب سياسية ربما، إلا التسكين المرحلي بالحد الأدنى لآلام المرض اللبناني العضال سياسياً وطائفياً.
إلى أين من هنا؟
ما عجز عنه حراك 17 تشرين قد يتحقق جزئياً أو كلياً في حال من حالين:
الأول، الإنهيار الشامل القادر على كشف هزال أوراق المنظومة الطائفية المقيتة والحزبية الضيقة، برغم تداعيات ذلك الإنهيارالمفجع أمنياً وإجتماعياً، وبالتالي يبرز رهان جديد لإجبار الجميع على تقديم تنازلات ما من رصيدهم السلطوي، إفساحاً في المجال أمام آخرين يطرحون حلولاً بلا أوهام تقوم على تحميل ثمن الإصلاح للفاسدين وناهبي المال العام (بالفوائد وغيرها) والمحتكرين و”المتسلبطين” على أملاك الدولة وغاسلي الأموال والمتهربين من الضرائب والمتركزة في أيديهم وحدهم معظم الثروة الوطنية..
الثاني، تطبق الإصلاحات السالبة حكماً لصلاحيات من أيدي المتسلطين وإظهارهم بمظهر العاجز أمام جمهورهم وخسارتهم لناخبين ومحازبين لم تعد تعنيهم الإمتيازات والوظائف والمحسوبيات والواسطات التي حصلوا عليها لأنها باتت أثراً بعد عين، ولا يمكن لأي سياسي أن يمنن أحداً بها بعد إنهيار الليرة.
مع تبدد الأوهام، يمكن القول مع الفيلسوف والمناضل الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي: “العالم القديم يموت. الجديد يتأخر تظهيره. في هكذا عتمة سابقة للفجر، تظهر الأشباح والمسوخ”!