الإيقاع المأزوم في لبنان، متمرس بلصق الإتهامات الصارمة، على الأطراف كافة. لغة التخوين والتبعية والتآمروالتذاكي سائدة. لا محاولة إلا ويُساء الظن فيها. ومع ذلك، فهم مُجمعون على أن يكونوا معاً، في إدارة دفة الدولة والمجتمع إلى الهاوية. وها نحن فيها. فلنسأل البديهية الأولى المستحيلة:
هل يمكن لبننة “اللبنانيين”، كل “اللبنانيين”؟
لبنان تاريخياً، هو مسقط رأس “اللبنانيين”، ولكنه موطىء قدم قوى إقليمية ودولية. ولا مرة كان لبنان لبنانياً، حتى عند عتاة “الإنعزال” اللبناني. الأفرقاء المقيمون معاً في هذا الكيان، عابرون للحدود. حدود لبنان رخوة جداً. سيادة الكيان إسم على غير مسمى، يدعى لبنان. لقد عَبَرته قوى إقليمية ودولية مراراً. المرجعيات كانت مُوزعة على عواصم كثيرة، بدءاً بفرنسا وبريطانيا، تُنازعهم دمشق في بيروت، ثم إنتقالاً إلى كيانية محروسة أميركياً، وعروبة مغرية وساحرة مع صعود الناصرية وإنتشارها في الشوارع العربية، القريبة من فلسطين والبعيدة عنها.. ثم توالت الولاءات وتشعبت، فكان لكل “قطيع لبناني” راعٍ دوليٍ أو إقليميٍ. من مشروع أيزنهاور إلى نزول القوات الأميركية على الشواطىء اللبنانية.
من عادة “اللبنانيين” الأقحاح، أن يثمّنوا جيداً، اللقاء الذي حصل بين جمال عبد الناصر وفؤاد شهاب في خيمة أقيمت على الحدود ما بين لبنان وسوريا، ويُعلون من شأن جلوس عبد الناصر في آخر حبة تراب سورية، مقابل جلوس شهاب في آخر حبة تراب لبنانية، “إحتراماً لسيادة البلدين”. لكن السياسة في لبنان وخارجه كانت قد إنقسمت، فمارست إزدواجية، تشبه الزواج الإكراهي. وقد إنتهى ذلك “العناق عن بعد”، بعد خسارة عبد الناصر حربه في نكسة حزيران.
وتاريخ العابرين من الخارج إلى الداخل إكتظ في “الزمن الفلسطيني” في لبنان، وتشظي لبنان إلى جهات ومعارك وجنون العنف. يصعب أن تجد عاصمة لم ترسل سلاحاً أو ذخيرةً. شبه “حرب عالمية” مصغرة في بقعة من أصغر بقاع الأرض مساحة. خمسة عشر عاماً من الإجتياحات القاتلة، وكل العواصم، القريبة والبعيدة كانت حاضنة لأفرقاء، بما فيهم “إسرائيل” التي نفذت إجتياحاً إستئصالياً للفلسطينيين، والتي مهدت لإنتخاب رئيس جمهورية، بقوة الحراب التي إستجلبت الأصوات، تعاطفاً أوعنوة.
ما بعد ذلك، شهدنا لبنان السوري بتغطية أميركية وسعودية. وكان لبنان “المسيحي” قد تم إقصاؤه. ولبنان “الوطني” قد تم تهميشه، وعاش لبنان على الإملاء السوري.. وإلا. النتيجة أن عنجر حكمت لبنان لسنوات.
لا يبدو أن هذه اللبننة مأهولة أو مأمولة. الإشتباك الإقليمي مستعر، وهو على حافة حروب، وفي فوهة بركان، إذا اشتعل، أطيح بدول وكيانات، مخلفاً دماراً كبيراً لا تنجو منه دولة الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين
إذاً، لبنان لم يكن لبنانياً. ومأساته اليوم، هي نتاج إنعدام لبنانيته. راهناً، الحاضرون في لبنان: الولايات المتحدة الأميركية. هي ليست صوتاً، بل هي مسار متغلغل في السياسة والإدارة والأمن والعسكر والمال وحتى القضاء. الحاضر الجديد، إيمانويل ماكرون: صوت صارخ في البرية. الحاضر كذلك “الحليف الإيراني” لحزب الله وحلفائه السياسيين. أما الغائب الأكبر فهو الحاضر القوي جداً: المملكة العربية السعودية. أما “إسرائيل”، فهي الحاضر من بعيد ومن قريب.
وبرغم هذه الخريطة الفضائحية، التي رسمت الصورة الكالحة لهذا الكيان، فإن المطلوب الإجابة عن السؤال التالي: هل يمكن لبننة “حزب الله”؟
أولاً؛ لا يبدو أن هذه اللبننة مأهولة أو مأمولة. الإشتباك الإقليمي مستعر، وهو على حافة حروب، وفي فوهة بركان، إذا اشتعل، أطيح بدول وكيانات، مخلفاً دماراً كبيراً لا تنجو منه دولة الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين. ولبنان في هذه المشاهد الأبوكاليبتية، سيكون أشلاءً، ولا يعرف مصيره.
ثانياً؛ لبنان منقسم طائفياً، على جاري عادته. الطوائفية تخنق لبنان. الطوائفية، كبّدت لبنان حروباً وصراعات وخلافات ونزاعات، أودت بلبنان إلى التهلكة الراهنة. لكن فريقاً لبنانياً معيناً، يصوّب الأسباب بإتجاه “حزب الله”، مبرئاً نفسه من الإرتكابات الشائنة التي أفلست لبنان، والتي تحظى بدعم دولي وإقليمي ثابت. وهذا ما يجعل اللبننة مستحيلة.
ثالثاً؛ للمقاومة وجهتان: الأولى إقليمية مرتبطة بالصراع مع “إسرائيل”، والثانية شديدة الإلتصاق بالواقع اللبناني الطائفي. “حزب الله” يمثل فريقاً شيعياً فقط. هو الأنقى طائفياً. الشيعة فقط، هم أعمدة الهيكل وقواعده وقواه. “النقاء” الشيعي مشكلة إضافية. الأبواب مغلقة، والسبب عقدي ديني، لا سياسي. وبناء الكيانات على أسس دينية عقدية، ثم، سياسية، يجعل من “الحزب” قلعة تطمئن ناسها، وتُثير الخشية عند الآخرين.
رابعاً؛ لا أحد يرمي سلاحه وهو وسط المعركة. والمعارك منتشرة ومتفجرة، في كل من سوريا واليمن والعراق وفلسطين. “حزب الله” شريك فاعل، يثير غضب خصومه الإقليميين واللبنانيين، لأن المسلمين السنة وحلفاءهم في لبنان، لا يمكنهم، وبحكم إنتمائهم الطائفي ـ الديني، أن يخذلوا إمارات وممالك وجمهوريات سنية، دينياً وسياسياً. لذلك يلتقي “المعادون” للحزب في لبنان، مع السعودية والإمارات ومصر وأميركا و.. ولا أحد يظن، أن في مثل هذه المعارك، المناخ متاح لما يسمى، لبننة “حزب الله”. فحتى ولو أصبحت لديه قناعة، وهذا من باب المستحيل، فإنه لن يقدم على فك حبل الصرة بينه وبين إيران.. فهو الأكثر إلتصاقاً بـ”أمه الإيرانية”، من جماعات لبنانية كانت تفيء إلى “الأم الحنون” فرنسا، وشقيقتها المستجدة، الولايات المتحدة الأميركية.
الجواب بات واقعيا: إيران بَنَت إستراتيجيتها منذ إنتصار ثورة الخميني، على فلسطين. قبلة إيران هي القدس. وعليه، لم يكن ذلك إتجاهاً إيرانياً محصوراً بالإيرانيين، بل تعداه وتخطاه، ليصيب الشيعة حيثما يتواجدون
خامساً؛ اللبننة مشبوهة حتى الآن. اللبننة الوطنية بحاجة إلى ثقافة ترسي إستقلالاً منفتحاً على إقليمه ومحيطه العربي، بشرط، يبدو من المستحيلات أيضاً، هو أن تصبح الوطنية السورية راسخة، بديلاً عن الحزبية، والأقوامية، والعسكرتارية. الوطنية تحميها الديموقراطية الحقيقية، وتلغيها الإستبدادية. هذا ينطبق على الإمارات والممالك التي يلزم أن تستقل عن مرضعتها الغربية وحاميتها الأميركية، وهذا من المستحيلات. فلبنان وحده ليس مفتاح التبدل في المنطقة. أمراضه مشينة، ومعلنة. أمراض الآخرين شنيعة ولكنها مكتومة.. فلا لبننة في بنية “عربية” تُصدّر إسلاماً سياسياً مُدمراً ومُخرباً ومُعادياً للديموقراطية والمساواة والعدالة.
سادساً؛ لائحة الإتهامات في ما بين “القوى اللبنانية” كافة، تصل إلى حدود التخوين والعمالة ومحاولات الإغتيال. وفي مثل هذه الموجة الكاسرة، لا إمكانية لطرح السؤال التالي: متى يفك “حزب الله” إرتباطه الأمومي بإيران، أظن أن الجواب بات واقعياً: إيران بَنَت إستراتيجيتها منذ إنتصار ثورة الخميني، على فلسطين. قبلة إيران هي القدس. وعليه، لم يكن ذلك إتجاهاً إيرانياً محصوراً بالإيرانيين، بل تعداه وتخطاه، ليصيب الشيعة حيثما يتواجدون. لذلك، يبدو المشهد الراهن راسخاً جداً. لم تكن هذه الجهود عبثية، وخدمة لإيران فقط في معاركها. جهود أفلحت في تأسيس وإحتضان ودعم قوى في دول، حيث للشيعة تواجد وازن فيها. إنها في لبنان وسوريا واليمن والعراق والبحرين. هذا المشهد ينفي أي إحتمال في مراجعة إيران المحاصرة دولياً، لسياستها و”حواضنها”. لا أظن ذلك واقعياً أبداً. المتوقع، إستمرار الإحتدام والإنقسام في المنطقة، من قبل أميركا وأتباعها، وإيران وما يسمى أذرعها القوية.. ونقطة على السطر.
سابعاً؛ ماذا لو يجيب “حزب الله” عن مضمون “لبنانيته”، وعمق إحتضان إيران له. طبعاً، هذا سابق لأوانه كثيراً. ربما تسمح ظروف ما بعد “الخلاص” بأن يطرح الحزب على نفسه: “هل أستقلُ عن إيران وأصير لبنانياً”؟ أؤكد أن هذا لن يحصل. لبنان قلبه كبير وصدره واسع، وقادر على إحتضان “الأخوة الأعداء”، بثمن باهظ، وبكلفة مؤلمة، يدفع ثمنها اللبناني من لحمه الحي، حياته، ومستقبله.
لبنان في هذه المعركة هو الأضعف، وهو المستسلم بصوت فوضوي، وهو ماض إلى مداواة مآسيه، بمآس آتية.. لا أحد مستعد للتنازل. لا الفرقاء الضعفاء المستقوون بالخارج، ولا الفرقاء الأقوياء الراسخون في علاقاتهم مع دول الإقليم، سعودياً وإيرانياً و… و… و…
متى يتلبنن “حزب الله”؟
هذا القول مجحف. السؤال المؤلم للجميع: متى يتلبنن اللبنانيون، كل اللبنانيين؟
ليس في المدى المنظور.
لبنان منذور منذ ولادته، ليكون ضحية نفسه، وبمساندة أعدقائه.
ليت هذا السؤال يُسأل بعد قرن من الآن. فقد يجد اللبنانيون مصلحة في تكوين وطن حر، سيد، مستقل، منفتح على أمة تتسع للمواطنة والديموقراطية والوحدة.
حتى ذلك الوقت، قد تكون الصلوات مجدية أكثر من التفكير.