الشرق الأوسط أسير مفاوضات ـ مواجهات مباشرة أو بالوكالة

لم يكن مفاجئاً، لا بل كان متوقعاً، أن سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة فى الشرق الأوسط وبالأخص فى «الملف» الأمريكى الأهم، لانعكاساته الإقليمية المتعددة، وهو الملف الإيرانى، لن تأتى كاستمرار لسياسة إدارة ترامب التي قامت على المواجهة والتصعيد خاصة على مستوى الخطاب، دون أن تأتى بالنتائج التى تمناها أو انتظرها المؤيدون لتلك السياسة، «سياسة الضغوطات القصوى».

من المنتظر، وهنالك العديد من المؤشرات تشي بذلك، أنه لن تكون هنالك عودة إلى السياسة «الأوبامية» التى اعتبرها منتقدوها أنها سياسة تقوم على التكيف غير المشروط أو سهل الشروط تجاه النووى الإيرانى، فيما اعتبرها مهندسوها أنها تقوم على استراتيجية الانخراط الدبلوماسى مع الخصم.

جملة من التطورات والمتغيرات الشرق أوسطية والأمريكية والدولية دفعت بالإدارة الجديدة إلى الحديث عن أهمية الاستفادة من دروس استخلصتها من السنوات الماضية منذ توقيع الاتفاق النووى «لتعزيز» هذا الاتفاق. كما تهدف، إلى جانب ذلك بالطبع، إلى إدراج ملفين آخرين إلى جانب الملف النووى يحظيا بدعم أصدقاء وحلفاء واشنطن على الصعيدين الدولى والإقليمى، وهما ملف الصواريخ البالستية الإيرانية والدور الإيرانى فى المنطقة. لا يعنى ذلك وجود قرار أمريكى حامل لخطة حول كيفية إحداث هذا الربط، وبالتالى لا توجد استراتيجية أمريكية غربية مشتركة حتى الآن (الأطراف الغربية الثلاثة: فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، وأيضا الاتحاد الأوروبى) حول هذا الأمر.
فى لعبة العصا والجزرة المستمرة، تقوم إيران بتخصيب اليورانيوم إلى مستوى العشرين بالمائة، وإذا لم يحصل أى تطور إيجابى من وجهة نظرها ــ الأمر الذى يعنى عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق ــ «قد» تستمر إيران بالتخصيب للمستوى الذى يسمح بعد ذلك بالوصول إلى «عتبة الدخول إلى النادى النووى». وخلال فترة قد تستمر إلى عام، إذا شاءت ذلك، تكون قادرة على إنتاج رؤوس نووية (ما يعرف بالخيار اليابانى).
الأطراف الأوروبية المعنية تحاول التوسط بين الطرفين ولو عبر اجتماع غير رسمى يعقد لذلك الهدف. كما تدفع نحو القيام بإجراءات بناء ثقة متوازنة ومتبادلة وتدريجية بين الطرفين (على سبيل المثال تخفيض تدريجى للعقوبات مقابل عودة إيران إلى وقف التخصيب فوق السقف المسموح به فى الاتفاق وهو ما رفضته طهران). ولكن مقابل إعلان واشنطن بالرغبة بالعودة إلى الاتفاق، وافقت طهران على تمديد أنشطة التحقيق والمراقبة التى كانت قد أوقفتها، لفترة ثلاثة أشهر، والتى تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية كإجراء بناء ثقة تعتبره واشنطن غير كاف.

يمتد «مسرح المفاوضات على الأرض» بين الطرفين، تلك المباشرة وبالوكالة، من اليمن إلى لبنان وهو ككل مسرح مفاوضات فى العالم، يتأثر ويؤثر بالمفاوضات الجارية حول الطاولة أيا كانت الصيغة التى تتخذها هذه المفاوضات

فى موازاة الرسائل الدبلوماسية المتبادلة بواسطة التصريحات أو عبر أطراف ثالثة بشأن إحياء الاتفاق النووى والإصرار الغربى مقابل الرفض الإيرانى، دون أى تحديد أمريكى غربى حول صيغة الربط بين هذه الملفات الثلاثة التى أشرنا إليها سابقا (النووى والبالستى والنفوذ الإيرانى) وكيفية تحقيق ذلك، يبقى السؤال حول مستقبل الاتفاق النووى في ما لو رفضت إيران إدراج هذين الملفين الآخرين على طاولة المفاوضات أيا كانت الصيغة المقترحة لإحداث هذا الربط، وهو الأمر الذى أعلنت إيران رفضه مرارا.
وعلى صعيد آخر، يمتد «مسرح المفاوضات على الأرض» بين الطرفين، تلك المباشرة وبالوكالة، من اليمن إلى لبنان وهو ككل مسرح مفاوضات فى العالم، يتأثر ويؤثر بالمفاوضات الجارية حول الطاولة أيا كانت الصيغة التى تتخذها هذه المفاوضات.
فى اليمن جاء القرار الأمريكى برفع الطرف الحوثى عن لائحة الإرهاب والذى كان منتظرا من طرف الإدارة الحالية بغية الدفع والتسريع بالحل السياسى وكأنه انتصار وتغيير فى موازين القوى لمصلحة هذا الطرف وحلفائه. وجاء القصف الحوثى لأهداف على الأراضى السعودية كرسالة فى هذا السياق.

فى لبنان، تبقى أزمة تشكيل الحكومة أسيرة رهانات خارجية حول نتائج المواجهة الإيرانية الأمريكية الراهنة واعتماد كل مكون سياسى لبنانى على انتصار حليفه بالتفاهم مع الآخر أو بانكسار وتراجع الآخر

وفى العراق، مع التغيرات السياسية التى قامت وتقوم بها السلطات الحالية التى تعمل على بلورة سياسة خارجية ناشطة ومتوازنة، خارج لعبة المحاور المكلفة للعراق ــ من خلال الانفتاح على الدول العربية وتوثيق العلاقات معها والعمل على الحفاظ على العلاقات مع واشنطن والحوار مع الحلف الأطلسى ــ تأتى عمليات القصف لأهداف أمريكية فى بغداد إلى جانب القصف فى أربيل كرسالة واضحة لواشنطن. ويأتى الرد الأمريكى «المعلن عنه» رسميا، فى شرق سوريا، مسرح الحرب الرئيسى فى الإقليم، على الحدود مع العراق ضد ميليشيات عراقية حليفة لإيران.
وفى لبنان، تبقى أزمة تشكيل الحكومة فى جزء منها، وهو ما تستفيد منه بعض الأطراف، أسيرة رهانات خارجية حول نتائج المواجهة الإيرانية الأمريكية الراهنة واعتماد كل مكون سياسى لبنانى على انتصار حليفه بالتفاهم مع الآخر أو بانكسار وتراجع الآخر.
فهل يبقى الشرق الأوسط أسير هذه المواجهات ـ المفاوضات المباشرة وتلك التى تجرى بالوكالة، للتوصل إلى إجراءات بناء ثقة بالتوازى والتوصل إلى إعلان نيات بغية الذهاب إلى ما سماه وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن «تعزيز الاتفاق ومد فترته الزمنية» وموضوع الصواريخ البالستية والأنشطة الإيرانية «المزعزعة للاستقرار» حسب بلينكن.
أخيرا يبقى السؤال قائما وبرسم الجميع، أليس أهل الإقليم من دول عربية معنيين بشكل أساسى، إلى جانب القوى الدولية، بصياغة العلاقات فى الإقليم والتوصل إلى بلورة «مدونة سلوك» تنظم وتحكم العلاقات بين الدول بغية بناء نظام إقليمى «دولتى» طبيعى كبديل عن نظام الفوضى الإقليمية القائم حاليا؟ أم يبقى العالم العربى مسرحا استراتيجيا لصراعات الآخرين بشعارات مختلفة؟

إقرأ على موقع 180  عون وعبد المهدي.. وبلاد ما بين القصرين

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
ناصيف حتي

وزير خارجية لبنان الأسبق

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  هل يجرؤ "نواب التغيير" على تعديل قانون الأحزاب؟