“طوفان الأقصى”.. وعلم العلاقات الدولية

ما حدث يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر يُشكل حدثاً تاريخياً بكل ما للكلمة من معنى، ويقتضي الواجب أن نقرأ "طوفان الأقصى" بعين المتخصص بعلم العلاقات الدولية وبمستوى بلاغة حدث لا يقل قيمة عن أي حدث تاريخي غيّر مجرى العالم. 
لا يتقيد علماء العلاقات الدولية لدى دراستهم للمتغيرات الدولية بالحساب الفلكي، بل يقاربوا الأحداث الضخمة التي تعتبر نقطة تحول في مسار التاريخ البشري، وبناءً عليه يُحدّدون الفترات الزمنية للعلاقات الدولية؛ فالعالم قبل “الحملة البطولية للدفاع عن الأقصى”، كما وصفها قائد “حماس” إسماعيل هنية شيء، وما بعدها شيء اَخر.. وإلا ما معنى تشبيه الحدث بحرب أكتوبر 1973 أو بحدث 11 أيلول/سبتمبر 2001، كما جاء على لسان الدبلوماسي الأميركي السابق مارتن إنديك، ثم على لسان الرئيس الأميركي جو بايدن عندما وصف هجوم “حماس” بأنه “كان بمثابة 15 هجوماً من هجمات 11 سبتمبر (2001)”.
هناك إتفاق بين معظم المحللين الغربيين أن 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 شكّل إهانة لإسرائيل أشد من إهانة حرب أكتوبر 1973. وقد وصف ناحوم بيرنياع، المعلق في صحيفة “يديعوت أحرونوت”، هجومَ “حماس” بأنه “أسوأ يوم يمكنني تذكّره في المعنى العسكري لتاريخ إسرائيل، بما في ذلك الفشل في حرب يوم كيبور (حرب “يوم الغفران” في تشرين الأول/أكتوبر 1973)، والذي كان فظيعاً”.
في حدث 7 تشرين الأول/أكتوبر، أثبتت “حماس” إمتلاكها جيشاً منظماً، محترفاً، ومقداماً، باختصاصات برية وبحرية وجوية واستخباراتية، وقدرة قتالية وخبرة شبيهة بالجيوش التقليدية، تُعدُّ خططها بسرية مطلقة، وتُنفذ عملياتها العسكرية بتنسيق ميداني عالي المستوى.. فكتائب القسّام زلزلت الأرض تحت أقدام الإسرائيليين، وتمكنت خلال ساعات من هزّ أركان الدولة اليهودية، وتمريغ أنف مؤسستها العسكرية، وتحطيم هيبتها وقوة الردع التي لطالما كانت تتباهى بها.. محققة إنجازاً تاريخياً لم يحقّقه أي جيش عربي آخر من قبل، في زمن قياسي خاطف، وبتسليح شديد التواضع.
ألا تفرض كل المحطات التاريخية التي مرت بها أمتنا العربية والإسلامية نقطة تحول للبدء في تشكيل علم العلاقات الدولية ما بعد الغربية، وعلى رأس هذه المحطات عملية “طوفان الأقصى”؟
وقد استدعى الحدث المزلزل تدخلاً أميركياً مباشراً في الحرب وتورطاً سياسياً أوروبياً فظاً في تغطية موقف اسرائيل، وهذا ما يُعيد إلى الذاكرة التدخل الدولي بقيادة أميركا خلال حرب تشرين عام 1973 واثناء حرب الخليج عام 1991. ولهذا حثّ بايدن الإسرائيليين على عدم “الاستغراق في الغضب والتفكير بوضوح بشأن الأهداف بدلاً من ارتكاب الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر”.
ومن المفيد الإلتفات إلى أن عملية “طوفان الأقصى” تزامن توقيتها مع ذكرى مرور 50 عاماً على حرب 6 تشرين الأول/أكتوبر 1973، وبالذات في 7 أكتوبر/تشرين الأول، أي اليوم التالي للحرب، عندما تم اختراق “خط بارليف” بخراطيم مياه ابتدعها أحد ابطال حرب أكتوبر اللواء باقي زكي يوسف، وهو مسيحي مصري يُذكّرنا بالمسيحي السوري جول جمال أحد أوائل شهداء البحرية ضد البوارج الفرنسية والإنكليزية إبّان عدوان 1956.
وقد كشف وزير خارجية أميركا الأسبق الديبوماسي الثعلب هنري كيسنجر في كتاب مذكراته “سنوات البيت الأبيض” أنه في 9 تشرين الأول/أكتوبر عام 1973 (اليوم الرابع للحرب) “حدثت حالة من الذعر والانهيار والبكاء داخل أرجاء السفارة الإسرائيلية في العاصمة الأميركية إثر وصول برقية عاجلة من أبا ايبان وزير خارجية إسرائيل إلى سيمحا دينتنر السفير الإسرائيلي لدى واشنطن يطلب فيها إجراء اتصالات فورية وعاجلة مع الإدارة الأميركية لكي تعمل على وقف القتال فوراً دون أية شروط من جانب إسرائيل، ثم أعقب ذلك مباشرة وصول برقية أخرى من مكتب رئيسة الوزراء جولدا مائير تطلب فيها إبلاغ البيت الأبيض والبنتاغون الأميركي بأن إسرائيل بحاجة ماسة وعاجلة لإمدادات فورية من قذائف الدبابات”.
ويوضح كيسنجر في مذكراته أن هذه الاستغاثة الإسرائيلية دفعته إلى عقد اجتماع عاجل لفريق العمل الأميركي المكلف من الرئيس ريتشارد نيكسون بمتابعة الأزمة، وقد أبدى أحد المشاركين في الإجتماع ملاحظة قال فيها “تحطمت أسطورة إسرائيل التي لا تقهر”.
وفور انتهاء الإجتماع، أجرى كيسنجر اتصالاً تلفونياً بالسفير الإسرائيلي وأبلغه بالحرف الواحد: “سوف تحصلون على جميع المعدات التي تحتاجون إليها. لقد أصدر نيكسون أوامره بتزويدكم بكل ما يلزم”.
ويؤكد الدبلوماسي الأميركي الأسبق مارتن إنديك في كتابه “سيد اللعبة” أن كيسنجر كان عرّاب إقناع نيكسون، ذلك أنه كان وحده مع إرسال الأسلحة حتى يقطع الطريق على امكانية توطيد أقدام الاتحاد السوفياتي في المنطقة، وقد كتب كيسنجر فى مذكراته أن مثل هذه النتيجة كانت “ستمنح السوفيات فرصة مبهرة لإثبات فائدتهم أمام أصدقائهم العرب”.
إن حدث 7 أكتوبر/تشرين الأول، أي نجاح “طوفان الأقصى” أعاد تحريك مواجع أكتوبر 1973 لدى الإسرائيليين والغرب، ويورد ريتشارد بن كريمر في كتابه “كيف خسرت إسرائيل” (حرب 1973) أن هذا الهجوم القوي والمفاجئ من جانب العرب “ذكّر إسرائيل بأن بإمكانهم (العرب) محوها من على الخريطة”. ويشير إلى أنه بعد حرب أكتوبر 1973 “تخلت إسرائيل عن كل صلفها ورضيت بدون خجل بدور صديق أميركا الصغير في الشرق الأوسط وأصبحت جزءاً من أي مخطط أميركي للمنطقة”.
ولهذا أعتقد بأن عملية “طوفان الأقصى” تُشكل دافعاً لأن نبدأ بكتابة رائعة جديدة ستكون بقيمة أي رائعة من روائع الأدب المقاوم العالمي، فمن تيمات رائعة “طوفان الأقصى” أن يُذكرنا الباحث المصري المخضرم نبيل عبد الفتاح أن أسطورة الإنسان الإسرائيلي هو الأعلى فى المنطقة، وربما في العالم لم تدرك أن الخيال العسكري للمستضعف يمكن أن يتجاوز أسطورة القوة المطلقة.
ومن تيمات هذه الرائعة أنها جاءت في توقيت دخلنا فيه “عالم اللاقطبية وانتشار القوة بدلاً من تركيزها”، على حد تعبير الدبلوماسي الأميركي الأسبق ريتشارد هاس الذى يرأس حالياً المجلس الأمريكى للشؤون الخارجية، ويشير في مقالة له في “فورين أفيرز” إلى أن “الهيمنة الأميركية في طريقها إلى الاضمحلال، ليس بسبب تدهورها، بل إلى ما أطلق عليه الكاتب الأميركي فريد زكريا في كتابه “عالم ما بعد أميركا” “نهوض البقية”- أي تطور الدول والكيانات الأخرى اقتصادياً وعسكرياً”. فالسمة الأساسية للعلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين هي التحول إلى اللاقطبية، أي عالم لا تسيطر عليه قوة قطبية واحدة بل يتسم بوجود مراكز قطبية متعددة.
ويؤكد هاس أنه من سمات الحقبة الجديدة أن “البقية الناهضة” اليوم تتضمن لاعبين غير حكوميين، ومنظمات مثل “حماس” و”حزب الله” و”جيش المهدي” و”طالبان”، والأحزاب السياسية والمؤسسات الدينية، الأمر الذي يجعل العالم يشهد وجود قوى موزعة بشكلٍ أكبر، وبأكثر مما عليه الحال مع القوى المركزة وأفراداً تنامت قوتهم على حساب تقوض التراتبية والمركزية والسيطرة فى العالم.
بهذا المعنى، كانت “كتائب القسام” على قدر “التحدي والإستجابة”، حسب المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، فأجابت عبر “طوفان الأقصى”، عن السؤال الجوهري الذي يؤرق القيادات الإسرائيلية: هل تتخطى إسرائيل عقدها الثامن أم أن مصيرها سيكون مصير “مملكة داود وسليمان”، وهي الدولة الأولى لليهود، والتي لم تصمد أكثر من 80 عاماً، والدولة الثانية “مملكة الحشمونائيم”، التي انتهت في عقدها الثامن.
في هذا السياق، عزّزت عملية “طوفان الأقصى” لعنة “العقد الثامن” التي تنذر بزوال الدولة العبرية وهي بعمر الـ 75 عاماً، أي على مشارف 80 عاماً وهي الفترة التي انهت إسرائيل في دولتيها الاولى والثانية.
فليكن تاريخ السابع من تشرين الأول/أكتوبر بداية لتأسيس “علاقات دولية” تعكس واقعاً دولياً وإقليمياً يتشكل ويطوي مدرسة علاقات دولية غربية كانت جزءاً من العلوم الإجتماعية الأميركية نتيجة هيمنة الغرب على العالم
وقد سبق أن دعا المفكر الفلسطيني أحمد صدقي الدجاني غداة عدوان تموز/يوليو 1993 على لبنان إلى ضرورة تأسيس مدرسة للعلوم السياسية العربية والإسلامية حيث ذكر حينها أن انتصار حزب الله أعاد إلى الذاكرة فكرة “المرابطة على ثغور المسلمين وفكرة الفوز بالحسنيين إما النصر او الشهادة”.
أعتقد أن ما فعله أميتاب اَشوريا الرئيس السابق لجمعية العلاقات الدولية (2014-2015) التي يبلغ عدد أعضائها أكثر من 6500 عضو من أكثر من 100 دولة، في كتابه “تشكيل العلاقات الدولية العالمية: أصول حقل العلاقات الدولية وتطوره في ذكراه المئوية” من طرح افكار جديدة تجعله مع شريكه في تأليف الكتاب باري بوزان، يشكل بداية مشوقة تتخطى رؤية هنري كيسنجر وزبيغنيو بريجنسكي وفريد زكريا ويعيدان صوغها بشكل يعيد الاعتبار إلى العالم الثالث، وبالأخص “إلى البقية الصاعدة”، إذ حاول الكتاب إخضاع أصول علم العلاقات الدولية وجذوره للمساءلة والتحقيق. فعلم العلاقات الدولية ظل وعلى مدى فترة طويلة، خاضعاً لمركزية أوروبية ضيّقة الأفق.
إننا نسأل؛ ألا تفرض كل المحطات التاريخية التي مرت بها أمتنا العربية والإسلامية نقطة تحول للبدء في تشكيل علم العلاقات الدولية ما بعد الغربية، وعلى رأس هذه المحطات عملية “طوفان الأقصى”؟
ثمة تراجع أميركي مقابل “البقية الصاعدة” يجعل الإلتزام الأميركي مع أوكرانيا والدعم الأعمى لإسرائيل مكلفاً. نتيجة لذلك تواجه الولايات المتحدة الآن قوى كبرى وإقليمية لها أجنداتها المختلفة. لذا، فليكن تاريخ السابع من تشرين الأول/أكتوبر بداية لتأسيس “علاقات دولية” تعكس واقعاً دولياً وإقليمياً يتشكل ويطوي مدرسة علاقات دولية غربية كانت جزءاً من العلوم الإجتماعية الأميركية نتيجة هيمنة الغرب على العالم.
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  من أين يستمد نتنياهو اندفاعته في حرب الإبادة والتجويع والتدمير؟
محمد علي فقيه

المدير التنفيذي لمعهد الدراسات الدولية، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  من "شتولا" إلى "خلية الجولان".. إسرائيل لا تنام