حُكّام لبنان في “لا لا لاند” الدولار والأسعار.. والإنهيار

بات واضحاً ان رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون بات خارج اي سياق واقعي في الشأنين المعيشي والنقدي المتدهورين بسرعة قياسية الى قاع سحيق، فكيف في السياسة والأمن؟

من وحي ما يقوله رئيس الجمهورية، هو إما يعرف الواقع ويحرّفه، وإما لا يعرفه وتلك طامة كبرى. لكن الأرجح انه عاجز عن أي معالجة جذرية من دون حل سياسي هو جزء من عناد عدم الاكتراث به الآن.
ماذا قال فخامته في الاجتماع الاقتصادي والمالي والأمني الذي عقد في قصر بعبدا اليوم (الإثنين)؟ مما قاله اننا “نشهد ارتفاعاً غير مبرر في سعر صرف الدولار مع شائعات هدفها ضرب العملة الوطنية وزعزعة الاستقرار”.

هل يعلم الرئيس عون فعلاً ما هو المبرر وغير المبرر  في سعر الصرف؟ ما رأيه بصعود الدولار من الفي ليرة الى 5 آلاف في الاشهر الاولى من العام 2020؟ فهل كان آنذاك مبرراً؟ ثم هل سعر 7 آلاف توافر ما يسوغه لاحقاً؟ وما الدافع المعقول برأيه لصعود الدولار إلى 9 آلاف؟ وهل لأن السعر تجاوز الـ 10 آلاف بات غير مبرر برأيه ورأي مستشاريه الاقتصاديين والماليين؟

صحيح أن هناك مضاربة بسعر صرف الدولار. فالمضاربة نتيجة من نتائج الشح دائماً، بعكس الوفرة الساحقة للأسعار. وما السعر في نهاية الأمر إلا نقطة التقاء عرض وطلب. فاذا كان مصرف لبنان يوفّر دولارات مدعومة بسعر 1500 ليرة  لزوم المحروقات والادوية والاستشفاء والقمح وبعض السلع الغذائية، فان ذلك  مضافاً اليه كلفة التعليم وكلفة المسكن شبه المستقرتين، يشكل 43 في المائة فقط من موازنة الأسر، وفقاً لمرصد الأزمة في الجامعة الأميركية. يبقى 57 في المائة من موازنة الاسرة بحاجة إلى دولار او ليرة تقابله بالقيمة في السوقين الرسمية  والموازية. لذا ينشط التجار والصناعيون والزراعيون ومقدمو الخدمات لتأمين نحو 14 مليون دولار يومياً من السوق السوداء لأن اكثر من 80 في المائة من غذائنا مستورد وأكثر من 40 في المائة من حاجاتنا الأخرى مستوردة ايضاً وفقاً لاحصاءات وزارة الاقتصاد. وتلك الدولارات ليست في النظام المصرفي بعدما قرر المغتربون تحويلها مباشرة الى المستفيدين منها خصوصا العائلات. بالاضافة الى دولارات المساعدات الانسانية التي بدأ مانحوها يرفضون صرفها بسعر المنصة (3900 ليرة للدولار) متجهين الى فرض سعر السوق الموازية لتكبير افادة المحتاجين اليها واصحاب الحقوق فيها.

ينشط التجار والصناعيون والزراعيون ومقدمو الخدمات لتأمين نحو 14 مليون دولار يومياً من السوق السوداء لأن اكثر من 80 في المائة من غذائنا مستورد وأكثر من 40 في المائة من حاجاتنا الأخرى مستوردة ايضاً وفقاً لاحصاءات وزارة الاقتصاد

فكيف نُجبر أسرة على صرف دولار أتاها من فرد مغترب بسعر معين تفرضه سلطة سياسية أو نقدية أو أمنية عجزت عن حماية ودائع باكثر من 100 مليار دولار؟ لقد فقد المغترب ثقته بكامل المنظومة وكذلك الأمر نسبياً بالنسبة للمانحين والمقرضين المحتملين.

ثم هل يعلم الرئيس عون ان مصرف لبنان يطبع الليرة بشكل هستيري ما زاد الكتلة النقدية القابلة للتداول 300 الى 400 في المائة منذ قبيل 17 تشرين/ أكتوبر 2019 الى يومنا هذا، وان جزءاً من هذه الليرات الغزيرة المتهاودة القيمة يذهب لشراء الدولار طمعاً (مبرراً) في درء القيمة من التلاشي؟

من المؤسف القول ان على اللبنانيين التعامل مع سعر الدولار في السوق الموازية بواقعية مريرة كما يحصل في سوريا وايران وكما سبق وحصل في تركيا ومصر والأرجنتين والبرازيل وعشرات الدول الأخرى لا سيما الافريقية منها التي شهدت شح عملات صعبة فنشأت لديها اسواق سوداء لم تندثر الا بعد اصلاحات هيكلية مؤلمة استعادت بموجبها ثقة المستثمرين والممولين افراداً ومؤسسات ومصارف ودولاً مقرضة او مانحة. وهنا لا يمكن للرئيس عون الا أن يعرف تمام المعرفة ما هو مطلوب من لبنان لاستعادة الثقة وهو المتمسك ـ ولو شكلاً ـ بالمبادرة الفرنسية وامكان اللجوء الى صندوق النقد الدولي بغية الحصول على قروض انقاذية. قروض مشروطة باصلاحات سئم اللبنانيون سماعها لكثرة تكرارها من دون أدنى خطوة تنفيذية لتحقيقها.

والانكى في بيان رئيس الجمهورية حديثه عن “توافر معلومات عن وجود جهات ومنصات خارجية تعمل على ضرب النقد ومكانة الدولة المالية”. كلمة “خارجية” توحي بـ”مؤامرة ما” كالتي تعود بعض القادة العرب التحجج بها عند عجزهم عن تفسير ظواهر داخلية خطرة او تقاعسهم عن حلها لسبب أو آخر. انه الاستسهال المريب ان لم نقل المعيب بنقل المشكلة من مكان حقيقي الى آخر وهمي. فهل يعلم الرئيس عون ان دولارات خضراء أميركية بأكثر من 150 ملياراً تبخرت في المصارف ومصرف لبنان فقط؟ وهل يعلم أن دولارات النافذين مستمرة بالخروج من البلاد الى ملاذات خارجية آمنة ليتضخم بذلك عجز ميزان الدفوعات برقم سلبي زاد على 10 مليارات دولار في 2020؟

لم يحمل البيان الصادر عن إجتماع قصر بعبدا الا تعميات لا تدل الا على عيش المجتمعين في “لا لا لاند” الدولار والاسعار والانهيار بانتظار حل سياسي مدخله الأول تشكيل حكومة تحظى بثقة المجتمع الدولي الذي بات القشة التي يتعلق الغرقى اللبنانيون بها لاخراجهم تدريجيا من ورطتهم

اما القاء التهمة على تطبيقات افتراضية تسعر الدولار الموازي وفقاً لأجندات مؤامراتية خارجية، فتلك نكتة تشبه نكتة امكان حجب المواقع الاكترونية واقفال منصات التواصل الاجتماعي والطلب من الناس العيش خارج العصر الرقمي، أي في مجاهل ورق البردى.

إقرأ على موقع 180  نتنياهو عندما يتجرع مرارة كأس بن غفير وسموتريتش

أما ما جاء في كلام رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة حسان دياب عن غلاء الاسعار والغش التجاري والمتلاعبين بلقمة عيش اللبنانيين وباسعار السلع لا سيما الغذائية منها المعرضة ايضا للاحتكار والتخزين والتهريب.. فهو كلام مكرر يسمعه اللبنانيون منذ تأسيس دولتهم في العام 1920. دولة قامت على الاحتكارات والوكالات الحصرية وشبه انعدام الرقابة على الاسواق ومشاعية الحرية التجارية، فضلا عن سهولة احتماء محتكرين وتجار جشعين ومهربين بجهات سياسية وطائفية وقوى أمر واقع تستطيع انقاذهم او التغطية عليهم عند الضرورة. وترعى الدولة بكل اجهزتها هذه الاحتكارات في وضح النهار من دون رفة جفن. اذ تؤكد وزارة الاقتصاد أن 8 شركات تجارية فقط تؤمن 70 في المائة من سلة الاستهلاك الاساسية للبنانيين. وما ذلك الا احتكار فاضح بحصر تلك السلة الحيوية بيد ومشيئة عدد محدود من التجار الذين اذا نظرنا الى هوياتهم وانتماءاتهم لوجدنا انهم يمثلون ائتلاف طوائف لبنان. وبالتالي يشبه الأمر جبنة مقسومة بين القلة القليلة على حساب عموم الآخرين. ووفقا للوزارة عينها فان كارتيلات من 20 شركة تستحوذ على اكبر حصص سوقية في الاستيراد والاسمنت والقمح والمحروقات والدواء (نموذج تعامل وزارة الصحة مع اللقاحات من خارج كوتا مافيا الدواء يشكل فضيحة بحد ذاته).

لم يحمل البيان الصادر عن إجتماع قصر بعبدا الا تعميات لا تدل الا على عيش المجتمعين في “لا لا لاند” الدولار والاسعار والانهيار بانتظار حل سياسي مدخله الأول تشكيل حكومة تحظى بثقة المجتمع الدولي الذي بات القشة التي يتعلق الغرقى اللبنانيون بها لاخراجهم تدريجيا من ورطتهم، من دون اي وعد من احد بعودة مستوى معيشتهم السابق لأنهم، من حيث مواردهم، ليسوا افضل من فقراء العرب الآخرين في سوريا ومصر والسودان والمغرب وتونس واليمن والعراق.. وجزر القمر وجيبوتي والصومال وهذه الثلاث الأخيرة نسي كثيرون منا أنها تنتمي إلى جامعة دول العرب!

Print Friendly, PDF & Email
منير يونس

صحافي وكاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  خطاب نصرالله بين المخاوف الأمنية.. و"الخيارات البديلة"