نكتشف الآن أن توازنات القوة في الإقليم اختلت إلى درجة صارت تهدد الأمن والاستقرار، وتهدد بالتبعية مصالح دول في الجوار التقليدي، وأقصد تحديداً دولاً في قلب أوروبا ودول تماس في إفريقيا. نكتشف أيضاً أن أخطاءً جساماً ارتكبناها في صنع وإدارة علاقات دولنا العربية بعضها بالبعض الآخر، وأن بعض هذه الأخطاء جرّتنا جراً إلى سياسات ومواقع أقرب ما تكون إلى التهلكة.
نشاهد كل يوم من أيامنا المعاصرة سياسياً أو آخر يعلن بلكنة المعترف بفداحة الفعل أنه وحده أو مع غيره ممن سبقوه أو عاصروه أخطأوا، وأن بعض الأخطاء غير قابلة للتصحيح وأكثرها فتح أبواب للتنازلات والارتباكات أو إعادة البناء. كلها، وأقصد كل الأخطاء، كانت كافية لإثارة الرغبة في إقامة علاقات أقوى مع دول غير عربية في الإقليم، وهي الرغبة التي صادفت هوى ورغبة مماثلة وربما أشد لدى هذه الدول غير العربية، وبخاصة المقيمة منذ زمن في الجوار وباقية فيه ما بقي هذا الزمن.
***
تابعنا، نحن المحللين، ببعض القلق تعدد مظاهر الانحدار في مجمل القوة الأمريكية، مع مظاهر ضعف صارخ في نسيج الحلف الغربي. أما القلق فله ما يبرره. بعضنا توجس شراً من أن يتواصل انحدار القوة الأعظم حافظة الاستقرار ويتوالى انفراط تماسك دول الغرب حامية المصالح المشتركة، بينما نحن، وأقصد عرب الإقليم، لم ننشئ بعد قوة ذاتية تستطيع المحافظة على الاستقرار، فلا تسود الفوضى، وفي الوقت نفسه، تحمي مصالحنا ضد تدخل أجانب من غير المرغوب فيهم.
***
في تلك اللحظة التاريخية، لحظة انكشاف ضعف الغرب وفشل العرب مجتمعين في ملء فراغ تسبب فيه هذا الضعف، كان منطقياً وعاجلاً أن تجرّب دول في المنظومة العربية ثم من خارجها حظوظها باستخدام فوائض القوة لديها للحصول على مكانة أعمق أو مكان أوسع في نظام إقليمي ينفرط. اللحظة ليست فقط تاريخية بل ونموذجية. انتشرت الرغبة في كل الأرجاء. الكل يريد أن تجتمع عنده من أسباب القوة، رخوة كانت أم صلبة، ما يكفي لتعلو مكانته على مكانة حليفه القديم وصديقه الجديد. وبالفعل انطلق سباق لم يعدُّ له جيداً إلا في مكاتب كبرى شركات تصدير الأسلحة. أتركوهم يسعون وراء المكانة والمكان ويملأون الفراغ صخباً. في اجتماع مغلق بمدينة في قلب الألب سمعتهم يقولون لبعضهم البعض، أتركوهم فوحدهم لن يملأوا فراغاً بقوة من أي نوع، لا رخوة ولا صلبة.
عاد الغرب الأبيض يحن إلى القارة السوداء، ففي بطونها ثروة تستحق أن يفتح من أجلها قرناً جديداً من حروب الرجل الأبيض، ومنها حرب لم تعد مستبعدة بين الرجلين، الرجل الأصفر والرجل الأبيض، والجائزة سمراء إفريقية
***
وبالفعل، إستمر السعي وراء المكانة هدفاً أولياً وتوسيع المكان هدفاً ثانياً، واستمر الصخب يعلو والانقسام يفتت أجزاء الأمة ويبتعد أكثر فأكثر أمل استعادة إرادتها. الانفراط الذي بدأ هدفاً لبعض قوى الخارج انتهى حقيقة واقعة تهدد بفوضى أشد وتكلفة مادية وإنسانية أعلى، تكلفة هي الآن رهيبة واحتمالات تفاقمها تثير الرعب في نفوس فئة من السياسيين العرب يصعب الآن تصنيفهم. الفراغ الذي وقع راح يجذب نحوه القوى الأوروبية المتعطشة دوماً إلى مكان على أرض العرب، ولكن لاحظنا أن الغرب غير مستعد ليتسابق بحماسة أو بتضحيات كبيرة للحصول على نصيب في ثروة عربية المصدر، إما على وشك النضوب أو على وشك تناقص الجدوى. عينه على سباق آخر. عاد الغرب الأبيض يحن إلى القارة السوداء، ففي بطونها ثروة تستحق أن يفتح من أجلها قرناً جديداً من حروب الرجل الأبيض، ومنها حرب لم تعد مستبعدة بين الرجلين، الرجل الأصفر والرجل الأبيض، والجائزة سمراء إفريقية.
***
أنت لست في حاجة لتجربة مع دبلوماسية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لتعرف أن للفراغ العربي جاذبية قاهرة. ما أن ينشأ فراغ ويستحكم في ركن أو بقعة في أرجاء هذا المكان إلا وتسابق المتسابقون من الأرجاء الأخرى لملء هذا الفراغ. الغريب أنه في حالات كثيرة لم تكن الجائزة أو العائد بمستوى التضحيات والجهود التي بذلت لسد الفراغ. الغريب أيضاً أن جل المتسابقين استخدموا الدين كقوة رخوة بمفعول أكيد قبل أن يتعرف عليها جوزيف ناي بعد عشرين قرناً وأكثر، ولدعم القوة الرخوة استخدموا السلاح وقوة البشر. لن ننسى، وكيف ننسى وهناك من عقد العزم على ألا يتركنا لننسى، لن ننسى أن الغرب الذي ساهم في إضعاف السلطنة العثمانية لم يسمح لنفسه بأن يترك أهل المنطقة يملأون الفراغ الذي خلفته تركيا بانسحابها من مستعمراتها العربية. خافوا أن يظهر في العالم العربي من يحمل فكرة فيجوب البلاد يبشر بها فتتقارب ثم تتوحد. قسّموها بينهم حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عندما لم يعد ممكناً لدول منتصرة اسماً ومخربة فعلاً وواقعاً أن تستمر تهيمن لمجرد أنها تحمل رسالة الرجل الأبيض.
***
يستحق العرب كلمة حق. حاولوا ونجحوا مرات وفشلوا في عشرات. دعونا نعترف بأن المرحلة الراهنة واحدة من أصعب ما واجه العرب في تاريخهم الحديث. هم الآن ليسوا الهدف النهائي الذي يسعى إليه الغرب في معركة لعلها بين الأخيرات في سجل معارك الحضارة الغربية. الفراغ في أرض العرب وفضائهم السياسي يجب أن يُملَأ الآن إن أراد العالم الغربي استكمال حملته الثانية والأهم في إفريقيا، ويكون الرأي فيه قد استقر حول مستقبل علاقته بالصين حضارة وقطباً مشاركاً في نظام دولي جديد. المؤكد أن المرحلة الجديدة في الانتقال إلى نظام دولي جديد لن تبدأ قبل وضع نهاية للفوضى الضاربة أطنابها في المنطقة العربية. السبب ليس غامضاً. إنه هذا الفراغ المغري لكل من شاء واستطاع أن يجرب حظه فيه.
***
الخوف كل الخوف، أن يتعدد الحالمون والواهمون من الأوروبيين والعرب والأفارقة والروس واليهود، فيقسمون الفراغ ويوزعون أنفسهم عليه ويمكثون فيه قرناً آخر. الفرصة متاحة ليبدع المفكرون، هل نلحق بركب أهل الحلم العربي فنفاجئ الغرب الأبيض وآسيا الصفراء وإفريقيا السمراء ونقيم نظاماً إقليمياً قومياً يسد كافة بؤر الفراغ؟
نطرح في مجلس الأمن فكرة مشروع قرار بإقامة “مجلس الشرق الأوسط” أسوة بالمجلس الأشهر في تاريخ السلم الأوروبي “مجلس أوروبا Council of Europe”، يسد بدوره الفراغ الإقليمي ويقيم سلما متوسط الأمد مزودا بمشروع اقتصادي يعيد بناء الشرق الأوسط
أم نلحق بركب المجددين الواقعيين فنطرح في مجلس الأمن فكرة مشروع قرار بإقامة “مجلس الشرق الأوسط” أسوة بالمجلس الأشهر في تاريخ السلم الأوروبي “مجلس أوروبا ـ Council of Europe”، يسد بدوره الفراغ الإقليمي ويقيم سلماً متوسط الأمد مزوداً بمشروع اقتصادي يعيد بناء الشرق الأوسط على أسس علمية وأساليب التكنولوجيا الراقية، ومحتفظاً لكل دولة بسيادتها على إقليمها. قد لا يجد عرب اليوم فرصة أخرى يحافظون فيها وبها على ثقافتهم الخاصة ولغتهم وقوميتهم ويحققون من خلالها ذواتهم وآمالهم في التقدم في ظل سلم مضمون واستقرار مفروض.