من هنا، السؤال الذي يطرح نفسه: ما خلفيّات هذا التعصب، إذا سلّمنا جدلاً بوجوده؟
ومن السؤال تندرج تساؤلات: هل إنّ التعصب على مواقع التواصل الاجتماعي يرجع إلى غياب ثقافة المواطنة بين اللبنانيين؟ أو بسبب المناطق المغلقة معنوياً وربما مادياً وغياب مفهوم التعايش الحقيقي؟ أو إنّه بسبب ضعف الدولة وتقاعسها عن القيام بواجباتها وترك الأحزاب الطائفية تستغلّ هذا الضعف لتقوية نفوذها؟ أو بسبب الإشتباكات “العصبوية” الكبيرة المندلعة في الإقليم، على أكثر من خط؟ أو بسبب هذا وذلك وذاك؟
يُعرّف التعصب بـ”عدم وجود رغبة للتسامح، أو احترام الآراء أو المعتقدات المخالفة لآراء الفرد”. ويحدّد قاموس جامعة كامبريدج التعصّب على أنه “حقيقة رفض قبول الأفكار أو المعتقدات أو السلوكيات التي تختلف عن أفكارك”[1]، بينما يربط قاموس أوكسفورد الإنجليزي التعصّب بـ”الخوف المرضي من الأجانب”. وبالتعريف اللغوي، فإن التعصب هو ميل أعمى نحو دين أو رأي أو مذهب. ومن حيث المعنى الاجتماعي، فالتعصّب هو موقف صريح، سلبي أو عدائي، تجاه آراء الآخرين، حتى لو لم يتم اتخاذ أي إجراء لإسكات الآراء المعارضة أو إسكات أولئك الذين يتبنونها.
مظاهر التعصب في المجتمع
لا يمكن لمجتمع متعصّب أن يتسامح مع الأفكار والآراء التي تتحدى عقائده وعاداته وتقاليده، ووفقًا لجمعية علم النفس الأميركية “يسبّب التعصب التفرقة وسوء التفاهم والعداء بين الجماعات، وعندما لا يكون لدى المجموعات فرصة لتسوية خلافاتهم عن طريق المناقشة، فإنهم يكونون عرضة للجوء إلى القتال”[2].
ومن خلال مراقبة حثيثة لتجليات التعصب على منصّة تويتر لاحظنا وجود ثلاثة مستويات:
(أ) التعصب الضار القائم على الصلابة والعقلية المنغلقة والكراهية تجاه مجموعة من الناس؛
(ب) التعصب البديهي الذي ينطوي على رفض المعتقدات أو الممارسات خارج المجموعة؛
(ج) عدم التسامح المتداول، والذي يتضمن التدخل في معتقدات أو ممارسات معينة تعتبر انتهاكًا للمبادئ والقيم الأخلاقية.
يُعَدّ التعصّب – بجميع أشكاله وتعبيراته الممكنة – أحد أكثر أشكال انتهاكات حقوق الإنسان شيوعاً، لأنه يؤثّر على ملايين الأشخاص كل يوم، ويمكن أن يظهر من خلال مجموعة واسعة من التصرفات، ولا سيّما عندما يتم التعامل مع الأشخاص بشكل أقل تفضيلاً من الأشخاص الآخرين في وضع مماثل، فقط لأنهم ينتمون أو يُنظر إليهم على أنهم ينتمون إلى مجموعة أو فئة معينة من الناس.
مظاهر التعصب على تويتر
يُعتبَر تويتر من أبرز منصّات التواصل الاجتماعي قدرةً على نقل التعبير عن الأراء والأفكار المختلفة في لبنان والعالم. ولذلك، فإنه يُظهر بشكل بارز الاتجاهات الجديدة في المجتمع. وكما لاحظنا في الآونة الأخيرة، إنتشرت مفاهيم مثل “الجيوش الالكترونية” و”الذباب الالكتروني” للدلالة على اتجاهات تعصبية تبادر إلى الهجوم على أصحاب آراء مختلفة عن السائد ولذلك تنشط عند كل حدث سياسي أو أمني أو ثقافي أو رياضي أو ديني أو إجتماعي وحتى فني.. مجموعة من الوسوم Tags وقد تتصاعد من خلالها تصورات التهديدات الطائفية مع لجوء الجماعات الحزبية إلى لغة طائفية قاسية لوصف خصومهم حيث انتشرت تغريدات عن أتباع طائفة معينة بأنهم “أعضاء في حزب الشيطان”، و”مرتدون”، و”غير لبنانيين”، و”أتباع إيران”. وفي الوقت نفسه، وصفت التغريدات المقابلة جماعات أخرى بـ”التكفيرية” و”الوهابية” و”العملاء”، أما من كانوا مختلفين عن السائد السياسي في بيئتهم، فكان وسم “جماعات السفارات” هو التهمة الجاهزة لهم، بالاضافة إلى التهديدات العنصرية التي تدعو لابادة هذه الطائفة أو تلك وغيرها من المصطلحات والتعبيرات المهينة أو العنفية الغاضبة التي تولد طاقة سلبية تفقد البعض كل تفكير عقلاني وكل تبصر، فيتصرف بلا عقلانية وبغضب وتنمر وكل مفردات التعبير عن السلبية!
الدوافع وراء الإتجاه التعصبي
تساهم مجموعة متنوعة من العوامل في نمو وتطور التعصب داخل الشخص. بما في ذلك العوامل البيولوجية والنضج وخبرات التنشئة الاجتماعية وهوية المجتمع وأنماط التعلم الثقافي. قد يعكس التعصب ميولاً للخوف من أولئك الذين يبدون مختلفين، وهذه الردة فعل تشبه تقريباً جهاز المناعة النفسي، ولكن، مثلها مثل جهاز المناعة في جسم الإنسان، يمكن أن ينحرف أو يضعف في بعض الأحيان. علاوة على ذلك، فإننا نميل إلى إسقاط أوجه القصور لدينا على الآخرين، وجعلهم كبش فداء في محاولة للشعور بتحسن واكتساب القوة[3].
الشخص المتعصب يخاف من وجهة النظر الأخرى، ويرى فيها تهديداً لوجوده، وهذا قد ينقله من مشاعر الخوف والقلق إلى مشاعر العدوانية
بالإضافة إلى ذلك، يميل الناس إلى رؤية الآخرين من منظور تجارب طفولتهم. “أولئك الذين عانوا من رفض الوالدين وإساءة معاملتهم، يكبرون ولديهم إحساس عميق بعدم القيمة. ثم، كبالغين، يتحول رفض الذات خلال الطفولة، إلى رفض للآخرين الذين يعتبرون عديمي القيمة كما شعروا وما زالوا يشعرون”[4].
يؤكد علماء النفس الاجتماعي أن التمييز بين المجموعات الداخلية مقابل المجموعات الخارجية يلبي حاجة إنسانية أساسية للانتماء ويسهل التعاون الاجتماعي، الذي يقوم على خلق ثقة غير شخصية بين مجموعات صغيرة نسبياً. نتيجة لذلك، قد يفضل الناس بشكل طبيعي الآخر من نفس المجموعات الدينية أو العرقية. علاوة على ذلك، فإن عضوية المجتمع نفسها تولد الارتباط بالمجموعة، مما قد يخلق مشاعر إيجابية بين أعضاء المجموعة نفسها. [5]
أما بالنسبة إلى الحرية الدينية، فانها تتحول إلى نزعة تعصبية عندما يعتبر المتدينون أن الأديان الأخرى مضللة وخاطئة، ناهيك عن أنّ الأشخاص من ذوي المعتقدات القوية، سواء أكانت ثقافية أو دينية، هم أكثر عرضة لعدم التسامح تجاه أولئك الذين لديهم وجهة نظر بديلة للعالم [6]، لذلك فإن الشخص المتعصب يخاف من وجهة النظر الأخرى، ويرى فيها تهديداً لوجوده، وهذا قد ينقله من مشاعر الخوف والقلق إلى مشاعر العدوانية.
يفترض البروز السياسي المتزايد للانقسامات القائمة على الهوية أن المصالح الاقتصادية أو السياسية هي الدافع الحقيقي وراء التعبئة السياسية على أساس ما يبدو أنه خطوط عرقية أو دينية، كما تعتبر النخب، وخاصة قادة المنظمات السياسية أو الاجتماعية، جهات فاعلة رئيسية في الترويج للأفكار المتعصبة من خلال اللغة والرموز والنداءات المتجذرة في تاريخ أو عقيدة أي مجتمع عرقي أو ديني معين أثناء مشاركتهم في صراعات على السلطة، ويلعبون بوعي على هذه الهويات لضمان دعمهم.[7]
أبرز خصائص التعصب اللبناني
أثبت النظام السياسي اللبناني (الطائفي) أنه لا يوفر فرصا متساوية وعادلة بين المواطنين، فالمقاعد الرئاسية والوزارية والنيابية، كما الفئة الأولى في الدولة، محكومة بالكوتا الطائفية والمذهبية، لا بل بلغ الأمر بأهل السلطات المتعاقبة في لبنان، جعل أدنى الوظائف محكومة بالتوازن الطائفي، خلافاً لروح ونص إتفاق الطائف، وهذا ما يجعل الوصول إلى السلطة والوظائف والموارد مرهوناً بالانتماء الطائفي أو المذهبي أو الحزبي.
بهذا المعنى، تترسخ الطائفية يوماً بعد يوم، خلافاً لمنطوق إتفاق الطائف (1989)، سواء في السياسة أو الأمن أو الإقتصاد أو في كل تفاصيل الحياة اليومية حيث ترسم الطريقة التي يحاول بها المواطنون تلبية احتياجاتهم وتديم نفوذ الأحزاب والسياسيين ذوي الانتماءات الطائفية بغض النظر عما إذا كان المواطنون يُعرفون في المقام الأول بأنهم أعضاء في طائفة معينة أم لا، لكن يضطر كثيرون إلى تفعيل هذه الهوية في حياتهم اليومية، لا سيما إذا كانوا يعتمدون على الشبكات السياسية والاجتماعية المرتبطة بالأحزاب الطائفية والمنظمات الدينية[8].
وعلى الرغم من أنّ الدولة اللبنانية دولة مدنية وجميع التشريعات وضعية لا دينية، حتى قوانين الأحوال الشخصية تحصل على موافقة مجلس النواب، لكن يتم تجيير القوانين المدنية لمصالح الطوائف والأحزاب السياسية، وخير مثال على ذلك مجلس الخدمة المدنية الذي أنشىء على أساس مدني بالكامل ولكن الوصول الى الوظائف يتوقف عند حصة كل طائفة من الموظفين والموظفات.
يتأكد، يوماً بعد آخر، ومع تشعّب وسائل وقنوات التعبير، أنّ العلاقة عضوية وعكسية، بين الاتجاه التعصبي ووجود دولة قوية. فكلما كانت الدولة مؤثرة في حياة المواطنين بحيث يحصل هؤلاء على فرص متساوية وعادلة، كلما ضَعُف الاتجاه التعصبي، والعكس صحيح
وبالمستوى نفسه، تظهر الطائفية من خلال المناطق التي يعيش فيها الأفراد حيث تقسم مناطق لبنان الى كانتونات معنوية ورمزية ولكنها مقسمة حسب الطوائف، لذلك لا ننسى ما حصل في الصيف الماضي، عندما رفض أحد المسابح دخول والدة محجبة مع ابنتها غير المحجبة والمتزوجة من رجل مسيحي، ولا ننسى أيضاً ما حصل في احدى بلدات الجنوب بعد نشر فتاة صورها بلباس البحر وأدى إلى اثارة خطابات متعصبة باعتبار أنّ هذه المنطقة من لون طائفي وسياسي خاص يجب احترامه وهذا ما يُظهر الانغلاق المناطقي حسب اللون الطائفي المتزايد يوماً بعد يوم.
غياب الدولة.. تقدم إنتماءات أخرى
لا يخفى على أحد الدور الذي تلعبه المؤسسات الدينية بتزويد الخدمات الاجتماعية للمواطنين، وهذا بسبب غياب شبكة أمان اجتماعي ترعاها الدولة ولذلك لعبت الجهات الطائفية دوراً متزايد الأهمية منذ الحرب الأهلية وخاصة الأحزاب السياسية الطائفية – التي لها مصالح راسخة في الوضع الراهن في تغطية تقصير الدولة من خلال تأمين الدعم الصحي والاجتماعي والتعليمي للمستفيد من نفس الطائفة واللون السياسي، وأظهرت الخطابات السياسية للعديد من الزعماء السياسيين مع بداية الأزمة الاقتصادية، مدى قدرة هذه الأحزاب على الإمساك بزمام الأمور ومنعها من التدهور من خلال تقديم الاعاشات والمساعدات للمحتاجين والفقراء في مناطقهم وهذا الأمر سنشهد فصولاً غير عادية منه في الآتي من الأيام.
من نفس منطلق تغطية العجز الرسمي، برزت المدارس الخاصة وخصوصا الدينية في كل المناطق اللبنانية وحظيت بحرية تامة في تدريس البرامج الدينية والممارسات اليومية كالصلوات والأدعية. وبدلا من أن يكون الهدف النهائي لها اظهار القيم الأصلية المشتركة التي رسختها الأديان واعترفت بها القوانين الوضعية مثل العدالة الاجتماعية والتسامح والحرية، بالاضافة إلى تثبيت القيم الدينية المتقاطعة مع مفاهيم المواطنة أي تنمية مواطنين مثقّفين ومسؤولين يفكّرون بحرية ويساهمون في بناء المجتمع، ساهمت في خلق اتجاهات تعصبية من خلال تجيير مناهجها الدينية إلى أهداف سياسية وطائفية.
ولا يقتصر التعّصب على استغلال التعليم الديني لمصالح سياسية بل يشمل ايضا النزاع القائم حتى اليوم حول تدريس مادة التاريخ في المدارس اللبنانية حيث لم يحصل توافق حول مضمون كتاب التاريخ بسبب التناقضات الشديدة بين الطوائف اللبنانية في نظرتها نحو تاريخها وحاضرها وبالتالي خوفها من المستقبل التي تحاول جاهدة من خلال مدارسها تأطيره ضمن معتقداتها التاريخية بغضّ النظر عن موضوعيتها وصحتّها، ففي حين ترفع كل طائفة لبنانية مظلوميتها تأتي الطائفة الأخرى بمزاعم عن مظلومية أكبر عاشتها وهكذا بالنسبة لكل الصراعات التاريخية التي شهدتها المنطقة.
كنتيجة حتمية لغياب الدولة الفاعلة، فإن ثقة المواطنين بوطنهم ودولتهم أصبحت ضعيفة وبسبب عدم سيطرة الدولة على المؤسسات التعليمية والاجتماعية والصحية فإن خطاب الكراهية والتعصّب يزداد تأثيراً في مقابل غياب ثقافة المواطنة والعيش المشترك. وهذا ما يعكسه النظام السياسي القائم على المحصاصة الطائفية، وحاجة المواطن الضرورية الى طائفته كمصدر للحصول على حاجات العيش الاساسية له ولأولاده، وإنغلاق كل مواطن داخل طائفته، يعني الخضوع لمعايير هذه الطائفة ولاستمرار نفوذ الطائفة يعمل زعماؤها على إظهار الآخر كخطر وتهديد. هكذا، تنمو صور نمطية تعزّز الممارسات التعصبية الكلامية والتعبيرية أو الممارسات المبنية على أفعال عنيفة.
إلى ماذا نخلص في هذه الورقة البحثية؟
يتأكد، يوماً بعد آخر، ومع تشعّب وسائل وقنوات التعبير، أنّ العلاقة عضوية وعكسية، بين الاتجاه التعصبي ووجود دولة قوية. فكلما كانت الدولة مؤثرة في حياة المواطنين بحيث يحصل هؤلاء على فرص متساوية وعادلة، كلما ضَعُف الاتجاه التعصبي، والعكس صحيح. أي، كلما كانت الدولة ضعيفة زادت حاجة المواطن للإنتماء إلى “محميات” المؤسسات الحزبية والطائفية التي تقدم له مصادر العيش، وزاد الاتجاه التعصبي خدمةً لوجود هذه المؤسسات.
قد يكون من المهمّ إذاً، إعطاء الاهمية لإعادة بناء دولة قادرة في لبنان. دولة مبنية على اسس عادلة ومتساوية بين جميع مكونات المجتمع. فلا أفضلية لمواطن على آخر ولا لأغلبية على أقلية، مهما كان الانتماء أو الهوية أو.. العقيدة والرأي.
المصادر والمراجع:
[1] https://dictionary.cambridge.org/dictionary/english/intolerance
[2] https://www.asanet.org/sites/default/files/1924_presidential_address_ellwood.pdf
[3] https://www.psychiatrictimes.com/view/dismantle-racism-in-psychiatry-society
[4] https://www.mentalhelp.net/blogs/intolerance-and-discrimination
[5] ليوني هودي ، “من الهوية الاجتماعية إلى الهوية السياسية: فحص نقدي لنظرية الهوية الاجتماعية ،” علم النفس السياسي (2001) ص : 136-37.
[6]https://www.researchgate.net/publication/343314917_The_Psychology_of_Intolerance_Unpacking_Diverse_Understandings_of_Intolerance.
[7]https://www.researchgate.net/publication/343314917_The_Psychology_of_Intolerance_Unpacking_Diverse_Understandings_of_Intolerance
[8] https://tcf.org/content/report/lebanon-sectarian-identity-test-lab/?agreed=1