وصل نتنياهو إلى واشنطن في اللحظة التي أعاد فيها الرئيس الأمريكي جو بايدن خلط أوراق الانتخابات الرئاسية بتنحيه عن خوض السباق الرئاسي وترشيح نائبته كامالا هاريس لهذه المهمة الشاقة؛ أولاً لأنه اختارها في ولايته الأولى نائبة له، وبالتالي هي أول مرشحة للحلول مكانه وأي محاولة لازاحتها كانت ستُعطى تفسيراً مختلفاً؛ وثانياً لأنها سيدة من أصول مختلطة في مجتمع لا تزال فيه العنصرية ضد غير البيض سائدة بشكل واسع، ناهيك عن استمرار النظر إلى المرأة نظرة دونية في مجتمع ذكوري بامتياز.
ويُمكن القول إن ما حقّقه نتنياهو في هذه الزيارة هو اشباع نرجسيته الفردية كمسؤول سياسي يقف للمرة الرابعة أمام الكونغرس الأمريكي متحدثاً لمدة 55 دقيقة قوطع خلالها بالتصفيق 81 مرة، أي مرة كل أربعين ثانية تقريباً وفي الكثير من المرات كان التصفيق وقوفاً. ولكن أين يُمكن لنتنياهو أن يصرف هذا المشهد السوريالي؟
سيعود نتنياهو إلى تل أبيب مُخلّفاً وراءه المزيد من الانقسام لدى الرأي العام الأمريكي حياله وحيال ما يُمارسه جيشه من حرب إبادة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة للشهر العاشر على التوالي، إذ ليس بالأمر التفصيلي أن يُقاطع العشرات من أعضاء الكونغرس الجلسة التي تحدث فيها نتنياهو، ومن ضمن هؤلاء من كان يُفترض بها أن تترأس الجلسة أي كامالا هاريس نفسها، فيما كان المئات من المتظاهرين يهتفون ضده كمجرم حرب عند أبواب الكونغرس، والأهم من ذلك أنها المرة الأولى التي يُخاطب فيها نتنياهو الكونغرس فيما أحد اعضاءه، أي رشيدة طليب، تحضر الجلسة وهي تلف رقبتها بالكوفية الفلسطينية وتحمل طوال فترة الخطاب يافطة كُتبَ عليها “مجرم حرب” بالإنكليزية.
الأكيد أن نتنياهو يواجه مأزقاً، فإن قرّر مواصلة الحرب، إنما يُغامر بمزيد من الخسائر العسكرية والسياسية والاقتصادية وبمزيد من الانقسام والتفكك في الجبهة الداخلية لديه، ناهيك عن المزيد من العزلة الدولية للكيان “الإسرائيلي”؛ وإن قبل بوقف اطلاق النار الآن، إنما يُغامر بالظهور بمظهر الخاسر بعد حرب استمرت قرابة عشرة أشهر من دون تحقيق أهدافها المعلنة
وفي لقائه مع بايدن كما في لقائه مع هاريس، سمع نتنياهو ما لا يُرضيه عن ضرورة القبول بوقف الحرب وفق الخطة التي اقترحها بايدن في مايو/أيار الماضي، وهو الذي كان يأمل أن يحصل على غطاء من الإدارة الأمريكية لمواصلة حرب الإبادة على الفلسطينيين حتى استسلام حركة حماس، بحسب ما قال في كلمته أمام الكونغرس، فضلاً عن رهانه على امكان حصوله على تفويض بفتح “الجبهة الشمالية” بكل ما يُمكن أن يترتب على هكذا قرار، غير أن الرياح جرت بغير ما تشتهي سفينة نتنياهو، فقد تعرّض خطابه أمام الكونغرس إلى نقد حاد من العديد من الشخصيات الأمريكية وأبرزها رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة والعضو الحالي في الكونغرس نانسي بيلوسي التي قاطعت خطاب نتنياهو وقالت عنه إنه “أسوأ عرض قدمته شخصية أجنبية حظيت بشرف مخاطبة الكونغرس”، يضاف إلى ذلك كل ما شهدته المدن الأمريكية في الأشهر القليلة الماضية من تظاهرات طلابية ضد حرب الإبادة “الإسرائيلية” على الفلسطينيين (شتم رئيس وزراء “إسرائيل” المتظاهرين واتهم إيران بتمويلهم، الأمر الذي ارتد سلباً عليه).
وإذا كان نتنياهو يُخاطب العقل الجمعي الأمريكي وفق المنطق الذي بنيت عليه أمريكا، وهو منطق “الشريف” في أفلام الكاوبوي الذي يتصدى للمجرمين ولو بميزان قوى يكون دائماً مختلاً لمصلحة “الأشرار”، فإنه وبرغم استخدامه إيران كفزاعة وتقديم نفسه على أنه خط الدفاع الأخير عن الولايات المتحدة الأمريكية، “فان انتصرنا انتصرت أمريكا، إن هُزمنا هُزمت أمريكا وبات عليها مواجهة إيران مباشرة” لكن هذا المنطق لم يلقَ آذاناً صاغية عند النخب الأمريكية، ولا سيما عندما قارن بين لحظة 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 ولحظة 11 أيلول/سبتمبر 2001!
وكما كان منتظراً، عقد نتنياهو اللقاء الذي حظي باهتمام الإعلام العالمي مع المرشح الجمهوري صديقه الرئيس السابق دونالد ترامب في ولاية فلوريدا؛ وأظهرت الصورة حفاوة ترامبية، فيما بدّد الرئيس السابق كل ما سبق اللقاء عن “العلاقة السيئة” (عندما كان قد هاجم نتنياهو الذي كان من بين أول من سارعوا إلى تهنئة بايدن بفوزه على ترامب قبل أربع سنوات).
وبمعزل عن المواقف التي أطلقها الجانبان، بعد اللقاء، ولا سيما تعهد ترامب بمحاربة معادة السامية ومطالبته بإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين فوراً، فإن “الأمر لي” في واشنطن حالياً هو لإدارة بايدن، وهو واقع سيستمر إلى تاريخ انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي في 20 كانون الثاني/يناير 2025. والأكيد أن نتنياهو يواجه مأزقاً، فإن قرّر مواصلة الحرب، إنما يُغامر بمزيد من الخسائر العسكرية والسياسية والاقتصادية وبمزيد من الانقسام والتفكك في الجبهة الداخلية لديه، ناهيك عن المزيد من العزلة الدولية للكيان “الإسرائيلي”؛ وإن قبل بوقف اطلاق النار الآن، إنما يُغامر بالظهور بمظهر الخاسر بعد حرب استمرت قرابة عشرة أشهر من دون تحقيق أهدافها المعلنة، أي تدمير حماس واستعادة الأسرى لديها بلا عملية تبادل!
إذاً خلال ساعات، تنتهي “سكرة” نتنياهو بحفلة التصفيق له وقوفاً في مقر الكونغرس ليواجه “فكرة” الحقيقة في قلب الكيان العبري، وفيها بحسب ما ينشر الإعلام “الإسرائيلي” الكثير من الخيبة، فقادة المستعمرات الشمالية أعلنوا أن لا عام دراسياً في مستعمراتهم هذه السنة؛ 35 في المئة من النازحين من هذه المستعمرات أعلنوا أنهم لن يعودوا إليها أبداً؛ آلاف الشركات على مستوى الكيان أقفلت أبوابها، تراجع كبير في التصنيف الإئتماني للاقتصاد “الإسرائيلي” من أهم شركات التصنيف العالمية، مغادرة المهاجرين الأثرياء من “إسرائيل” أكثر من المصرين على البقاء فيها وفق تقرير هجرة الثروات الخاصة للعام 2024 الصادر عن شركة “هنلي أند بارتنرز”، بعدما كانت تحتل المرتبة 12 من أصل 20 دولة؛ عشرات آلاف المستوطنين قرّروا الهجرة المعاكسة من الكيان؛ ميناء إيلات الحيوي توقف عن العمل وسرّح عماله؛ خسائر اقتصادية ناجمة عن الحرب تقدر بحوالي سبعين مليار دولار إلخ..
أما في الشأن العسكري، فقد ذكرت قيادة الجيش “الإسرائيلي” أنها تعاني من نقص حاد في الدبابات والآليات الثقيلة والذخائر، كما ذكرت وسائل الاعلام أن هناك حالة من الإرهاق والتململ لدى الضباط والجنود الذين يخوضون أطول حرب منذ قيام دولة “إسرائيل” في العام 1948.
وبات من الواضح أن أرقام الخسائر البشرية التي تنشر بعد رفع الرقابة العسكرية عنها تشير إلى أكثر من ثلاثين ألف ضابط وجندي قتلوا أو جرحوا أو باتوا في حالة إعاقة دائمة أو “صدمة نفسية”، وفوق كل ذلك باتت مسيرة “الهدهد” التي قامت بزيارتها المعلنة الثالثة خلال شهر تقريباً تؤرق القادة العسكريين بما ينشره حزب الله اللبناني من فيديوهات عن أهداف استراتيجية “إسرائيلية”.
في الخلاصة، صورة “النصر” التي حقّقها نتنياهو بتصفيق أعضاء الكونغرس الأمريكي له بطريقة فيها الكثير من المبالغة لا يمكن صرفها على الارض بشيء ولا يمكن استثمارها، فالعودة إلى أرض الواقع تُظهر أنّ التصفيق لا يُوحّد الموقف الأمريكي حيال حرب الإبادة “الإسرائيلية” على الفلسطينيين ولا يُوحّد الجبهة الداخلية “الإسرائيلية” كما لا يُقدّم لحكومة نتنياهو حلولاً لأمن مستوطنيه النازحين من شمال فلسطين ومن “غلاف غزة” ولا يحل مشكلة اقفال حركة “انصار الله” للملاحة البحرية بوجه السفن “الإسرائيلية” أو السفن التي تنقل بضائع إلى “إسرائيل”، لذلك كل ما يمكن أن يفعله نتنياهو هو أن يحتفظ بصور التصفيق في الكونغرس في أرشيفه الخاص مع ملحوظة أن التصفيق لا يصنع نصراً.