كل هذا الحب.. حيوات كثيرة ومتجددة

أعيش لحظات حساب قريب الشبه بما قرأنا عنه أو اعتنقناه تحت عنوان حساب الملكين. أعترف بأن فى التشبيه تجاوزا أراه محمودا وأن بينهما، الحقيقة والخيال، فجوات واختلافات واسعة ولكن لم تخل واحدة منها أو كلها مجتمعة بجدوى أو متعة الاستغراق فى إجراء حساب على هذا المستوى قبل وقته المقدس.
أقمت الحساب بدون شعائر ولكن فى وجود شهود وجعلت من نفسى مدعية للحق العام والخاص معا، نفسى التى طالما عذبتنى بحساباتها القصيرة المتتالية. لم تكن دائما عادلة أو محايدة أو عفيفة القصد، وطلبت من ضميرى وعقلى وقلبى وبعض أهم الأحاسيس أن يجتمعوا ويشكلوا فيما بينهم طاقم محلفين يحكمون بالعدل ويلتزمون الحق والحياد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
***
كتبت قبل سنة عن طلاوة المرحلة العمرية التى أعيشها. وصفتها بأنها أحلى أيام العمر. طلبت من كل من بلغ من العمر ما بلغت أن يعيد النظر فى كشوف حساباته مع خالقه وأهله وعشيرته ووطنه، ثم مع نفسه. وعدته بأنه، هو أو هى، سوف
يكتشفان أنهما لم يقدرا جيدا حقيقة ما فعلا ولم يثمنا ما أنجزا بما يستحقان. سوف يكتشفان أنهما فى مرحلتهما الراهنة فى هذه الحياة يعيشان بالفعل أياما حلوة، أياما تشهد على أن ما فات من عمر لم يكن كله ولا أكثره مصدر أسى أو دليل فشل. سوف يكتشفان، كما اكتشفت، أن الفرد منا يعيش «حيوات» عديدة وليس حياة واحدة خلال عمره المحسوب بالسنين والأيام.
***
غريبة كانت علاقتى بالزمن. تعلمت فى شبابى وأنا أتحسس المعانى فى مواقع الحكمة فى بعض الثقافات الشرقية، ومنها ثقافة أنتمى إليها وتشربت كثيرا من حكمها وقناعاتها، تعلمت أن فى «حيواتى» القادمة سوف يدعونى القدر مرات ومرات لمصارعة تجرى بيننا وكله أمل أن يرى الناس كيف أن النصر فى هذه الحياة الدنيا مكتوب لقوى الدهر، وبعضها قوى شريرة وظالمة. نعم غلبنى الدهر أحيانا ولكن غلبته فى النهاية. العبرة فى هذا النوع من الصراعات هى أنها تحسب للغالب فى الصراع الأخير. تعلمت أيضا أن القوة ليست حكرا لأحد، وليست بالضرورة محصلة اجتماع عضلات وإرادات وآلات وعناصر كثيرة غاشمة. القوة هى أيضا ذكاء وإرادة وعناصر كثيرة ناعمة. أعرف الشىء غير القليل عن الحب، أهم عنصر فى هذه العناصر الناعمة. أعرف عنه ما فعل بى. ليس المهم أن أصدق أو لا أصدق حكايتى مع العجوز الهندى الذى التقانى صدفة، أو هكذا تخيلت، وأنا أمشى بين مئات المتسوقين فى ميدان كونوت بالعاصمة نيودلهى. تقول الحكاية إن الرجل توقف أمامى وعيناه شاردتان لا تريان. لم أعرف كيف أدور حوله لأتفادى الاصطدام به. لم أخش الأذى رغم ضخامته وغموض نظراته وصفرة أسنانه وطول أظافره السوداء. شىء ما فى الرجل جعلنى ألين. بهرنى نطقه للغة الإنجليزية وسلاسة أسلوبه وجاذبية مفرداته، حتى شعره المترب المنسدل حتى كتفيه لم يثر اشمئزازا أو قلقا بل فضولا وترفقا.
حياة ثالثة عشتها ومعى زوجتى وطفلنا المولود قبل شهور بدأت عندما قفزنا من طائرة إير إنديا وهى تحترق قرب مهبط مطار بومباى عاصمة الفن والاقتصاد والملاحة فى الهند بعد أقل من عامين من لقائى بالفقير الهندى تحت «بواكى» ميدان كونوت وسط عاصمة الهند
ما تزال كلماته عن حياة جديدة فى مستقبلى القريب تتردد فى ذاكرتى. ما كان يمكن أن أنساها وقد بدأت بحديث عن الحب. قال، يا فلان.. يا ابن فلانة.. أتيت إلى بلدى لتقع فى الحب. حب لم تشعر بمثله من قبل. حب فى دلهى ينتظر وصولك. أما وقد وصلت فهنيئا لك ولها ولذريتكما. حب نحن أيضا فى انتظاره. حب يغير ما خططه القدر لكما، وسوف يستمر يرسم لكما حياة بعد حياة، يرسم لكما المستقبل كما يريد هو وليس الآخرين من بنى البشر أو غير البشر.
***
حياة ثالثة عشتها ومعى زوجتى وطفلنا المولود قبل شهور بدأت عندما قفزنا من طائرة إير إنديا وهى تحترق قرب مهبط مطار بومباى عاصمة الفن والاقتصاد والملاحة فى الهند بعد أقل من عامين من لقائى بالفقير الهندى تحت «بواكى» ميدان كونوت وسط عاصمة الهند. حياة رابعة بدأتها فى روما فى تلك الليلة التى شهدت معجزة ثانية من معجزات صراعى المتكرر مع القدر. كان كبار أطباء المعدة والأمعاء فى كل من فيينا وروما ولندن قد أجمعوا على ضرورة إجراء عملية جراحية خطيرة فى معدتى وفى الاثنى عشر المنطلق منها. همس الجراح الشهير فى أذنى ونحن على وشك مغادرة المشفى الكاثوليكى الأشهر فى روما، قال، يا بنى ترددت طويلا فى إجراء عملية على هذه الدرجة من الخطورة لشاب ما يزال فى منتصف العشرينيات، وقضيت الساعات حتى الفجر أصلى وأطلب المشورة من الرب. طلبت أيضا من السماء أن تستمع لصلاة السيدة والدة زوجتك التى قضت اليوم والليل حتى منتصفه على درج كنيسة القديسة ماريا تيريزا فى شارع فينيتو، أرقى منطقة سياحية فى روما، تمد يدها للمارين والفضوليين متسولة ما يتكرمون به لسيدة شقراء ترتدى معطفا من الفرو وتضع بعض أغلى القطع من مصاغها. ندرت فأوفت وفى دين غير دينها. الآن فقط أستطيع أن أنبئك بأن السماء كتبت لك حياة جديدة حين أمرتنى عند الفجر بعدم إجراء هذه الجراحة.
***
بعد أكثر من ثلاثين عاما استيقظت ذات يوم جمعة على آلام فى الصدر لا يخطئها فاهم. طلبت من زوجتى إعداد ما يلزم فقد يصدق حدسى أو فهمى فنضطر للذهاب إلى مستشفى. كدنا ننتهى من الإعداد حين دق الهاتف وكان الزميل الكاتب الكبير فهمى هويدى على الناحية الأخرى كعادته يسأل ويستشير ويناقش فيما يكتب ويقرأ وفيما نكتب ونقرأ. سمع من «أم سامر» بالتطور الحادث فى منزلنا فاستأذن لدقائق عاد بعدها ليعلن أن سيارة إسعاف فى الطريق. سمع صديق آخر بهذه التطورات وكانت الليلة بعد المنتصف بكثير فحضر إلى المستشفى ليسمع أن الحالة خطيرة. دواء معين حيوى فى علاج القلب غير متوفر فى المستشفى أو الصيدليات القليلة المفتوحة فى هذه الساعة. قال لزوجتى اطمئنى سوف أجد الدواء، وبالفعل وصل الدواء بعد رحلة من المغامرات سمعت عن تفاصيلها المذهلة سياسيا وأمنيا بعد أن شفيت خلال زيارة فى مكتبه المطل على كوبرى الجلاء من ناحية وعلى النيل العظيم وفندق شيراتون من ناحية أخرى. رفيف، الزوجة التى ذاقت الأمرين من دأبى على تغيير حياتى بحياة جديدة ومن دأبى على تغيير نوع نشاطى المهنى وجهة عملى، عرفت بالحقيقة المؤلمة من الطبيب الشاب الذى أسر لها بأن الدواء وصل فى لحظة «كنا كجهاز طبى فقدنا الأمل. حياة جديدة بدأها زوج حضرتك عند الفجر عندما حقناه بالدواء الذى أحضره ساعتها الأستاذ (محمد حسنين) هيكل».
***
ملحمة حب أخرى كانت تتكرر منذ أن قررت زميلات وزملاء فى العمل والكتابة والقراءة والبحث وفى الأنشطة الاجتماعية إطلاقها فى مثل هذا الوقت من كل عام. إن نسيت لن أنسى فضل وصدق مشاعر الأستاذة الفاضلة نيفين مسعد. هذه المرة راحت تقود إحدى المسيرات بقصيدة زجل. علقت واحدة من أصغر زميلاتى وهى تلميذتها فقالت «أزجلت الدكتورة فترجل الفرسان وانطلقت من الأفواه الأدعية وانهمرت الرسائل والتغاريد».
أحسنت أم العيال حين لم تبخل على عيالها بالحب، أرضعت ثلاثتهم، الصبى والبنتين، حبا وفيرا ممزوجا ببعض الحليب. هذا الحب عاد ليغمرنى فى كبرى وليؤكد أننى كنت على حق وثقة بالنفس والعقل والقلب حين مهرت بتوقيعى وأنا فى الثانية والعشرين من عمرى على وثيقة زواجى فى حضور أهل الحل والعقد فى الهند الإسلامية. لا أستطيع فى هذا الحيز الضيق والظرف العلنى أن أضيف أو أطيل فى شرح جنان الحب التى نثرت طيبها ورعايتها فى عديد الدروب التى أمشى فيها.
***
كل هذا الحب هو الذى شجعنى على الصمود فى وجه محاولات متواصلة من فيروس الكورونا للتمكن منى وإخضاعى لسطوة هذا الوحش الجبار القادم من وراء الغيب وغيومه. هو أيضا الحب الذى يجدد ويضاعف حماستى لأنطلق الآن، بكل ما أوتيت من قوة عضلية وقدرة على الإبداع وبكل ما بقى من طاقة فى خزائن جسدى، نحو دروب حياة جديدة، أكاد أرى على القرب بعض ملامحها.
(*) بالتزامن مع “الشروق”
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  إنحدار أمريكا يقترب من حد الكارثة
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  إسرائيل قلقة من المُسيّرات الإيرانية: خطوة نحو الصواريخ الموجهة!