لا عروبة بلا مصر ولا مستقبل لمصر خارج عالمها العربى
A man take photo of statue is displayed at Egypt's new National Museum of Egyptian Civilisation (NMEC), in the Fustat district of Old Cairo, Egypt, during its official reopening a day after the Pharaohs' Golden Parade ceremony on April 4, 2021 in Cairo, Egypt. (Photo by Ziad Ahmed/NurPhoto via Getty Images)

في خريف (2017)، لمح الرئيس الصيني «شي جين بينج» علامات إعجاب وانبهار على محيا ضيفه الرئيس الأمريكي السابق «دونالد ترامب»، وهما يتجولان معاً فى «المدينة المحرمة» درة الحضارة الصينية بقلب العاصمة بكين: «نحن أقدم حضارة فى العالم».
التفت «ترامب» للمغزى السياسى فى العبارة التى استمع إليها تواً: «لكن الحضارة المصرية أقدم منكم».
لم يكن لديه ما يرد به على رسالة الرئيس الصينى المبطنة سوى أسبقية الحضارة المصرية القديمة وتأثيرها الذى يفوق إرث أية حضارة أخرى.
ــ «هذا صحيح، لكن حضارتنا اتصلت»، قاصدا أن الصين حافظت على لغتها وهويتها رغم ما ألم بها من تراجع فادح وتخلف طالت معاناته بفعل الغزو الأجنبى وهيمنته على مقاديرها.
التجربة المصرية اختلفت بعد غروب الأسر الفرعونية، غيرت لغتها لمرات عديدة من المصرية القديمة إلى القبطية واليونانية حتى استقرت على العربية وغيرت ديانتها لمرات عديدة أخرى حتى سادها الإسلام.
بمضى العقود والقرون انمحى الاتصال اللغوى حتى بدت الآثار المصرية القديمة لغزا هائلا غير قابل للفهم، أطلق عليها المصريون البسطاء «المساخيط»، حتى جرى اكتشاف حجر رشيد عام (1799)، وفكت أسرار ما هو مكتوب على جدران المعابد وفى البرديات.
هكذا تجلت عظمة الحضارة المصرية القديمة، مهد الضمير الإنسانى فى العالم بأسره، وبدأ سؤال الهوية يطرق الأبواب المغلقة: من نحن؟!، وتزداد وطأته بأوقات الأزمات.
لم يكن مفاجئا أن فنانا كبيرا مثل السيناريست التلفزيونى الراحل «أسامة أنور عكاشة» طرح السؤال نفسه فى رائعته «ارابيسك» عام (1994)، وكان قد شرع فى كتابة المسلسل إثر الغزو العراقى للكويت.
فى ذلك الوقت أعرب عن عدم اقتناعه بـ«العروبة السياسية»، دون أن يتخلى عن «العروبة الثقافية».
حتى لحظاته الأخيرة ظل يعلن انتسابه إلى «جمال عبدالناصر»، الرجل الذى تنسب إليه القومية العربية المعاصرةـ، وكانت تلك معضلته الفكرية والإنسانية.
فى نهاية المسلسل تساءل: من نحن.. فراعنة، عرب، أفارقة، شرق أوسطيون.. ننتسب إلى ثقافة البحر المتوسط أم أننا «بزرميط» نجمع بينها جميعا؟!
لم تكن الإجابة مستعصية، لكنه قلق الفنان.
حسب المفكر الجغرافى الدكتور «جمال حمدان» فإن مصر إذا ما انعزلت داخل حدودها تتعرض للتهميش السياسى، تستباح تماما، وإذا ما خرجت إلى محيطها الطبيعى تنهض وتتقدم وتكتسب صفة الدولة الإقليمية الكبرى
بالثقافة والمصير والتاريخ فمصر عربية مشدودة إلى محيطها العربى، الانعزال عنه حكم بالإعدام التاريخى وإهدار لأمنها القومى فى صميم اعتباراته.
باليقين هناك مصادر إضافية تثرى هوية الشخصية الوطنية.
فمصر عربية، تعتز بإرثها الفرعونى، متأثرة بثقافة البحر المتوسط، وجزء من الحركة الفوارة فى الإقليم، منتسبة إلى قارتها الإفريقية، ومتداخلة مع عالمها الإسلامى، متنوعة دينيا، والتنوع عامل قوة لا ضعف.
تراكمت تجاربها وخبراتها فى أنحاء حياتها، أثر الحضارة المصرية القديمة ظل ساريا فى اللغة والعادات والتقاليد وطبائع الشخصية، رغم اختلاف الأزمان.
إنكار التاريخ تجهيل بما جرى فعلا على شواطئ النيل عبر القرون.
وإنكار التراكم تجهيل آخر بحقائق الأمور، المنطقة التى نحيا فيها اختلفت، جوارنا عربى ومحيطنا الحيوى عربى وأمننا القومى عربى، مصادر التهديد القديمة كـ«الهكسوس» اختفت من على خرائط الجغرافيا السياسية وحلت مكانها مصادر أخرى تنذر بتهميش الدور المصرى.
عروبة مصر ليست قضية معلقة فى فضاء المساجلات.
من حق كل مصرى أن يفخر بإرثه الحضارى دون أن ينكر ما جرى للبلد بعد انقضاء الحضارة المصرية القديمة من غزوات واحتلالات وهجرات واختلاط دماء.
الكلام عن النقاء العرقى وهم مطلق فضلا عن كونه عنصرية صريحة، أو كامنة.
الحضارات القديمة كلها صبت فى مجرى تاريخى واحد لتصنع الإنسانية المعاصرة.
الاعتزاز لازم وإنكار الحقائق انتحار.
فى لحظة الفخر الجماعى، التى انتابت المصريين فى احتفالية موكب المومياوات الملكية الفرعونية، جرت مداخلات على شبكة التواصل الاجتماعى حاولت إنكار عروبة مصر، قيل كلام كثير عن «الاختراق الوهابى» للمجتمع المصرى فى السبعينيات وما بعدها، كأن العروبة تتحمل مسئوليته والإسلام يمكن تلخيصه فى ذلك المذهب بالغ الرجعية.
فى أوقات سابقة جرت حملات أعلنت الطلاق مع العروبة بهدف تصفية الحسابات مع ثورة يوليو بعد حرب أكتوبر (1973).
لم تكن تلك الحملات عشوائية وانطباعية وغير مؤسسة فكريا، كالتى بثت أخيرا على شبكة التواصل الاجتماعى، فقد تبناها مفكرون وأدباء كبار كـ«توفيق الحكيم» و«لويس عوض» و«حسين فوزى»، ورد عليها فى وقته وحينه جمهرة المثقفين المصريين على رأسهم الناقد الأدبى الكبير «رجاء النقاش».
فى مساجلات السبعينيات دعا «الحكيم»، إلى «تحييد مصر»، أو بصياغة أخرى انعزالها عن عالمها العربى، لا شأن لها بأزماته وقضاياه.
كان ذلك صداما مباشرا مع صلب نظرية الأمن القومى فى مصر، حقائق الجغرافيا والتاريخ معا.
حسب المفكر الجغرافى الدكتور «جمال حمدان» فإن مصر إذا ما انعزلت داخل حدودها تتعرض للتهميش السياسى، تستباح تماما، وإذا ما خرجت إلى محيطها الطبيعى تنهض وتتقدم وتكتسب صفة الدولة الإقليمية الكبرى.
إذا كان هناك من يتصور إن إنكار العروبة ممكن فهو واهم.
لا عروبة بلا مصر ولا مستقبل لمصر خارج عالمها العربى
لم تخترع ثورة يوليو المشروع العروبى، لكنها جسدته أملا حيا على الأرض بسياسات تبنتها ومعارك خاضتها.
قيمة «عبدالناصر» فى التاريخ ليست أنه حكم مصر، أكبر دولة عربية، ولا أنه أنجز بقدر ما يستطيع، أصاب وأخطأ، وهذا كله يستحق مراجعته بالوثائق الثابتة لا الأهواء المتغيرة.
قيمته أنه عبر عن فكرة أن مصر تستطيع أن تكون قوية وتجعل العالم العربى قويا معها فتتضاعف قوتها.
كان صراع الأفكار والسياسات قبل يوليو، هو من أعطى زخما ميدانيا للفكرة العروبية بمعانيها الحديثة.
أرجو ألا ننسى أن الفكرة العروبية الحديثة نشأت فى المشرق العربى، الذى يتعرض الآن لتخريب لمقدراته وتلوح فوق الخرائب خرائط التقسيم، لمناهضة سياسات «التتريك»، كما أنها دمجت المسلمين والمسيحيين فى نسيج فكرى وثقافى وسياسى واحد على نحو غير معتاد من قبل، وأحد الأسباب الجوهرية الماثلة حاليا لزعزعة الوحدة الداخلية لبلدان عربية كثيرة، غياب أى مشروع للدمج على أساس قواعد المواطنة والمساواة أمام القانون بين مكوناته وتنويعاته.
كان دخول مصر إلى حلبة التاريخ بعد تأميم قناة السويس عام (1956) وتصدرها لقيادة حركات التحرير الوطنى فى ذلك الوقت إيذانا بضخ دماء جديدة فى المشروع العروبى.
أيا ما كانت متغيرات السياسة فلا عروبة بلا مصر ولا مستقبل لمصر خارج عالمها العربى.
(*) بالتزامن مع “الشروق
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  "الفلتانون" في "مجاعة 2021" في لبنان: الأمر لنا!
عبدالله السناوي

كاتب عربي من مصر

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  مُظفر النوّاب.. عابر القلوب بلا إستئذان