مائة عام كافية لتبرهن على العقم السياسي، وعلى الاهتراء المتنامي والنهائي. طبعاً، هناك كيانات أقل سوءاً من سواها. كيانات الدول النفطية تعوم على أموال ولكنها غارقة في مستنقعات الانقسامات العربية والأحقاد المزمنة، ولكنها ايضاً مقيدة في خدمة حماتها الغربيين، وهم حماة بأسعار مليارية وشروط مطاعة، بلا نقاش. هذه كيانات تعيش على الإملاء، وهي تتقن فن عدم التورط في العناد. الاثمان باهظة جداً.
ما تبقى من كيانات، تعيش على فائض الازمات، ولا حظ عندها للخروج إلى العافية السياسية. كلها مأزومة حتى الثمالة. بعضها غارق وموغل في الدم والتصفية. بعضها لا يلتم على بعض. قبائل واعراق ومذاهب وطوائف وولاءات وارتهانات. كلها تتقاتل من جنوب الجزيرة العربية إلى ليبيا مروراً بالعراق وسوريا والسودان ولبنان، او ما تبقى من لبنان، لأن لبنان في حالة ذوبان تامة واهتراء مستفحل ومجهول عدمي، بقيادة “الآلهة” التي تم تطويب لبنان لها، بإرادة طوائفية مبرمة.
حالات تدعو إلى الرثاء والبكاء. لا انتظارات او معجزات او انفراجات. لم يعد جائزاً البكاء على الاطلال العربية. غرغرينا طائفية ومذهبية واقوامية وعرقية وجهوية، نغتذي من لحمها، برعاية “حلفاء” من الغرب، يتوقعون أن تسقط المنطقة كلها، في شباك التطبيع، الذي يحمي انظمة ويقيد شعوبا بالخوف. التطبيع شهادة حسن سلوك لأنظمة تشرعن الأمن والاستبداد، بأثمان غالية.
ما لنا ولهذا العالم العربي الزاحف على جبهته إلى زواله. سيكون موجوداً بصيغة شاهد “ما شفش حاجة”. غيره يشوف عنه، ويدله على الطريق السياسي إلى نهايته.
فلنقلع باتجاه المستقبل إذا. المستقبل في خطر كبير، إلا إذا خطر المستقبل هو أن يكون او يولد من رحم عربي موبوء، مهترئ، عفن، كريه، تمتنع فيه القيم والمبادئ والحياة والحرية والانتاج.
الخوف، الا إذا..، من أن يهجر المثقفون والمستنيرون والاحرار والمستقلون والرؤيويون والناس الطيبون، فكرة الإمكان. إمكان أن تكون ارادة للتغيير اولاً، وما عدا ذلك يأتي ثانياً وأخيراً. السياسة ليست مسألة قدرية. هذه البلاد لم تصل إلى حضيضها بأسباب قدرية، بل بأسباب سياسية، داخلية واقليمية ودولية، وبدعم داخلي واقليمي ودولي، استناداً إلى عسكر او “حزب” او دين او مذهب او دولة حامية. هذه دول لم تستقل إلا لماما، ولبضع سنوات عجاف. الخروج من القعر لا يحصل الا بجهد الصعود من الهاوية، بفكر جديد، يرى إلى واقعه بعيني العقل والمصلحة، ويرنو بنظره إلى افق المستقبل.
لا فرق كبيراً بين قضائكم وسجانينا. كما لسنا بحاجة إلى مذاهبكم وطوائفكم. اسلامكم ليس من الاسلام الصافي. ولا الاسلام الواقعي. انه اسلام الفتنة، وليس اسلام النص ولا اسلام الروح. الاسلام السياسي فاشل جداً ومذنب. عنفه مستفحل. يريد أن يبني دولة الدين، بأدوات القمع والعنف والارهاب
فمن أين نبدأ رحلة الالف ميل، للسنوات والعقود التالية؟
قد نحتاج إلى سنوات وعقود وأكثر. ولكن من يجازف ببناء مستقبل من هذا الركام، كأنه يصنع المستحيل. نعم، المستحيل العربي ممكن، اذا.. ( ضع الكلام المناسب في هذا السياق).
نبدأ بالسؤال المفتاح: ما العدة التي يلزم أن تكون بحوزة رواد هذا المستقبل الذي يقارب المستحيل، ومع ذلك، لا خيار امامنا: اما هذا الخراب المقيم، او ذاك المستحيل الممكن، إذا توفرت ارادات وعقول وادوات وتضحيات ومحاسبات وخرائط لطرق لبلوغ الحالة السوية، وليس إلى الأولوية بين الامم والدول والشعوب.
الجواب الاول: لسنا بحاجة ابداً، في عدة جهوزية رحلتنا إلى المستقبل، إلى أي من مقومات الدول الراهنة. لسنا بحاجة إلى دولة بوليسية ديكتاتورية تسحق الانسان وتجعل من السجون مكان اقامة الأحرار والعقلاء.
الخريطة العربية مكتظة بالسجون الظالمة والمظلمة. وهي فاقدة لسلطة القضاء التابع والقانع والخانع. القضاء، هو امرأة قيصر، كما هو مفترض. امرأة قيصر العربية، من لبنان إلى المحيط إلى الخليج، هي خريجة اسواق دعارة. وعذراً على التشبيه. اياك أن تدعي بان بلادنا تعرف عدلاً وعدالة، برغم غزارة المواد القانونية والدستورية.
لسنا بحاجة إلى هذا الارث “المرت”، أبداً. لا فرق كبيراً بين قضائكم وسجانينا. كما لسنا بحاجة إلى مذاهبكم وطوائفكم. اسلامكم ليس من الاسلام الصافي. ولا الاسلام الواقعي. انه اسلام الفتنة، وليس اسلام النص ولا اسلام الروح. الاسلام السياسي فاشل جداً ومذنب. عنفه مستفحل. يريد أن يبني دولة الدين، بأدوات القمع والعنف والارهاب. منذ قرن والدين مشتبك مع الدولة، والدولة تترصد الدين وحركاته. والبلاد كانت ضحية يومية، لهذا الاشتباك، بين الاسلام دين دولة، وبين الاسلام، دين لا دولة. ويستعاض عن الدين، من قبل دول الارتزاق السياسي، بأحلاف وتعاون، مع دول الالحاد والمصالح والغايات. قرن كامل من تشظي الاسلام، إلى منظمات قتالية، ومتقاتلة. تتوالد كالفطر. وكلها تدعي انتسابها إلى الاسلام. لقد اجهز الاسلام السياسي على الفكر والادب والاقتصاد والحرية والمرأة و… وهو لا يصلح أن يكون عدة بناء المستقبل. انما، لا مفر من الدين. للدين مكانة سامية على مستوى الايمان والقلب والروح، بشرط أن يكتفي بأن يكون ديناً ودنيا، مع الحفاظ المقدس على حرية الاعتقاد، والمساواة التامة بين المواطنين، وبين الرجال والنساء، وان يكون للقانون المدني الاولوية، وان تكون المقتضيات الشرعية اختبارية. فالدين والدنيا يستقيمان. اما الدين والسياسة فيفترقان. إذا لم يكن ذلك كذلك، فليس امامنا الا أن ننظر إلى احوال الدين والدنيا والسياسة في المائة سنة الماضية. الجحيم ارحم من هذه البلاد.
هل نحن بحاجة إلى تفاهمات بين هذه الكيانات المتعادية؟ انظروا إلى هذه الخريطة. انها مكتظة بين “الاخوة الاعداء”. كل دولة تعادي جارتها. المستقبل يقوم على أن ينفتح الكيان على الآخرين بأفق التعاون والتعاضد والتلاحم، وحل المشكلات، على قاعدة المشترك من المصالح، لا على قاعدة الصدام الذي يخسر فيه الطرفان. لسنا بحاجة راهنا، وما بعد ايضا، إلى وحدة قومية او اقليمية. هذه ستكون نتيجة نجاح التعاون والتضامن واساليب المواجهة للمخاطر المشتركة. راقبوا الاخطار المقيمة في ديارنا وكيفية تعامل الكيانات معها. انه لأمر يشبه الجحيم. صلح الكيانات كلها، طريق سهل لبلوغ تأسيس محور او جبهة او اتحاد أو..
ماذا بعد؟
حتى الآن، لا نحتاج في عدة بناء المستقبل البعيد، إلى أي من مركبات النقص السياسية والاجتماعية السائدة من المحيط إلى الخليج.
هل هذه كل شيء؟
لا. أبداً. ماذا عن الاقتصاد؟ ماذا عن فلسطين؟ ماذا عن التنمية المتوازنة؟ ماذا عن الصناعة والزراعة؟ ماذا عن الانتاج الرقمي؟ ماذا عن برامج التربية والتعليم؟ ماذا عن بناء مؤسسات الدولة؟ ماذا عن البحث؟ ماذا عن الحرية والتحرر؟ ماذا عن الابداع والفن؟
مثل هذه الاسئلة جوابها ليس من الماضي والحاضر. ماضينا وحاضرنا في غربة تامة وعدائية مبرمة مع هذه القضايا والآمال والطموحات. لن يكون مستقبلنا من رحم هذه الحمأة المزمنة.
والى اللقاء في مقالة تالية.