عن “شكي، عن بكي”.. الطعام والتراث

للتراث علاقة قديمة وعضويّة بحضارة الطعام. حضارةٌ نجدها في الكثير من العادات التي تتمحور حول أطباق معيّنة وفي مناسبات معيّنة. نجدها أيضاً في بعض الأمثال والأقوال الشعبيّة التي نُردّدها. لذلك عندما نتجاهلها (وأنا أقصد الجوانب الإيجابية في علاقة الطعام بالتراث) نفقد جزءاً مهمّاً من هويّتنا ولغتنا وسيكولوجيّتنا (نستبدلها بأخرى لا نفقه فيها أو عنها شيئاً).

نعم، علاقة الطعام بالتراث هي من ركائز النفس البشريّة، خصوصاً تلك التي تربط الفرد بنفسه وبمجتمعه. فكما المزاح واللعب هما لزوم التوازن في حياتنا، إذ لولاهما لكنّا عقلانيّين إلى درجة التفاهة. كذلك الأمر مع الطعام وعلاقته بالتراث. لولا هذه العلاقة، لكنّا كالشجرة المقطوعة من جذورها، تفقد مصدر غذاءها وما يربطها بأرضها ومحيطها، فإذ بها مع الوقت تذبل وتموت. بالمقابل، كلّما تعمّقت هذه الجذور، نشطت الشجرة و”ترحرحت”. لذلك نجد عند أكثر الناس، أن الطعام هو أحد أهمّ المداخل إلى تراثهم ومرآة لذواتهم ومجتمعهم.

***

عندما كنّا صغاراً وأثناء العام الدراسي، كنّا نجتمع في بيت العائلة في بيروت (في منطقة البسطة التحتا) أيام الأعياد أو الآحاد لنأكل الترويقة (وجبة الفطور) معاً، والتي كانت إجمالاً عبارة عن فول مدمّس وحوائجه (من خضار وكبيس و..). ولم أكن إطلاقاً من المعجبين بالفول المدّمس في ذلك الوقت، وسبب ذلك أنّهم كانوا يُحضّرونه بطنجرة الضغط (Presto) فتنبعث منها رائحة “لا تفتح القابلية”، حسب التعبير الشعبي. وكان يتميز بيت العائلة في ذلك الوقت بصورة كبيرة للزعيم الراحل جمال عبد الناصر تتوسّط جدار غرفة الإستقبال (تمّ استبدالها في ما بعد بصورة رفيق الحريري عندما أصبح رئيساً للوزراء وزعيماً للسنّة في لبنان).

ولتشجيعنا على أكل الفول المدمّس، كانت عمّتي تقول لنا: “إذا أكلتم الفول، تصبحون أقوياء مثل القائد جمال عبد الناصر ومثل البطل محمّد علي كلاي“. منذ ذلك الوقت، كرهت عبد الناصر ومحمّد علي كلاي، وكرهت معهما الناصريّة والإسلام السياسي؛ كيف يمكن لي أن أكون ناصرياً وأكره عبد الناصر أو “إسلمجيّاً” ولا أكنّ الودّ للملاكم الأمريكي الشهير.

لكن، وكما كانت تقول جدّتي، رحمها الله، “من يشلح (يخلع) ثيابه يبرُد“؛ وهي عنت طبعاً من ترك أهله وتراثه يصبح كالمقطوع من شجرة. ومع الوقت، لم يدم طويلاً القطع مع عبد الناصر ومحمّد علي كلاي والفول المدمس، بل أصبحت من المعجبين بهم (ولذلك أسباب عديدة).

***

للطعام وظيفة مجتمعية. هو عامل من العوامل “الصامتة” للحمة المجتمع والعائلة. مثلاً، صناعة طبق معيّن في مناسبة معيّنة هي حالة يُعبّر فيها المجتمع عن ترابطه مع بعضه البعض وعلاقته بتراث معيّن. مثلاً، في عيد المولد النبوي الشريف، نجد عادة تحضير “الحدف”، وهو نوع من البقلاوة يُصنع من الطحين الأسمر (أي طحين القمح الكامل) ويُحشى بالجوز، وكأنّ المناسبة تتطلّب نوعاً فريداً من الحلوى له مكوناته الخاصّة التي لا نستخدمها في أطباق مشابهة. فيصبح “الحدف” كالصمغ الذي يجمع الناس: ننتظره ونتحدّث عنه ونأكله ونهديه لبعضنا البعض في هذا العيد. ونجد أيضاً أن “الحلونجيّة” يمتنعون عن تحضير “الحدف” في غير هذه المناسبة، وكأنّ لسان حالهم أنّهم يريدون الحفاظ على هذه الميزة والتي هي قربانهم الذي يقدّمونه كأصحاب كار في ذكرى مولد الرسول. وعندما لا يطلب الناس “الحدف” خارج هذه المناسبة، فهم أيضاً ينخرطون في هذا الديالكتيك التذوقي الجميل.

وهناك عادة تحضير “الكلاّج” في شهر رمضان. أو “البوش دو نويل” (Bûche de Noël) في عيد الميلاد عند المسيحيّين.. والأمثلة كثيرة. لذلك عندما يُصبح الربح المادي هو المعيار الوحيد لصناعة هذه المأكولات، تصبح متوفّرة في خارج وقتها، فتفسد علاقة الناس بها والتي هي علاقة بتراثهم، ونفقد ميزة هذه العوامل الخفيّة في خلق نوع من اللحمة بين الناس. فيصبح همّنا البحث أو إصطناع عوامل أخرى تخلق التلاحم الإجتماعي.

***

هناك بعد آخر لعلاقة التراث بحضارة الطعام نجده في بعض التعابير التي نُردّدها ونستخدم فيها أسماء الفواكه أو الخضار أو مأكولات معينة للتعبير عن واقع إجتماعي أو سياسي أو إيماني إلخ..

مثلاً، هناك قول: “عن شكي، عن بكي، عن دبس شديد بعلبكي، ما بينشال لا بالإيد ولا بالحديد، إلا بصبيع ستّي أم سعيد” (وهو قول مشابه لعبارة “كان يا مكان في قديم الزمان”). لم نكن نفهم معنى قول “عن شكي، عن بكي…”، ومع ذلك كنّا نحبّ أن نسمعه لأنّنا كنّا نتصوّر أن الدبس المذكور هو دبس العنب الذي كان جدّي وسِتّي يقومان بتحضيره لنا في آخر موسم الصيف، وكنّا نعتقد أيضاً أنّ “ستّي أم سعيد” المذكورة هي نفسها جدّة جدّي، فينولد لدينا شعور بالكبرياء والتفاخر بعائلتنا التي أنجبت سيدة مهمة كعبلة آل عبس أو شجرة الدرّ.

لنفكّر في هذا القول. من جهة، هناك “العنعنة” (عن شكي، عن بكي) والتي هي مأخوذة من تراث الحديث النبوي الذي يتطلّب إسناداً يدلّ على كيفيّة تناقله من راوٍ إلى آخر، إلى أن يصل إلى النبي محمد أو أحد أصحابه. في هذا القول تحديداً، “بكي” أخبر “شكي”، أي من بكى لعدم قدرته على تناول الدبس البعلبكي أخبر عن شكى الذي هو أيضاً ندب حظّه العسير ولم يحظَ به. وخلاصة القول هنا إنّ أشياء كثيرة في الحياة لا يُمكن حلّها بالعضلات المفتولة والبطش، بل “مفتاحها” في يد إمرأة قادرة، لها باع بالتراث، وتقارب الأمور بحنكة وخبرة. وبعكس الصورة النمطيّة عن المرأة العربيّة أنّها خاضعة ومقهورة ولا رأي لها، فإن ستّي أم سعيد هي اختصار للمرأة الريفيّة الحافظة للتراث (القوة الناعمة بالمفهوم الذكوري). وكم من “أم سعيد” في الأرياف اللبنانية، اليوم.. كما في الأمس الغابر.

إقرأ على موقع 180  ميدل إيست آي: فرنسا تتطلع لنفوذ إقليمي أوسع عبر بوابة العراق

وهناك عبارة “شُو بِتْذَكّر مِنَّك يا سفرجل، كلّ مَصَّة بِغَصَّة“، والتي تقال عن شخص خيّب أملنا أو كان لنا معه تجربة سيّئة. السفرجل إذا ما أكلناه نغصّ في أثناء بلعه لأنّ ليس في أليافه ماء يساعد على البلع السهل (بعكس التفّاح). لكن هذا القول لا يُعطي السفرجل حقّه، لأنّ له رائحة جميلة جدّاً عندما ينضج، ولعل مربّى السفرجل هو من أفخم المربيّات، بل شيخها على الإطلاق، وله مذاق رائع ومميز جدا بحلاوته وخشونته وطراوته في آن معاً.

وهناك المثل الشعبي القائل “لِبْيِدْرِي بْيِدْرِي، وِلْمَا بْيِدْرِي بِقُول كَف عَدَس” والتي تقال للتمييز بين من يتحدّث وله معرفة بالأمور وبين الجاهل الذي يرمي بالكلام علّه يصيب. وكم من مرّة وجدنا فيها أنفسنا نحاور شخصاً جاهلاً لا يتردّد في إعطاء رأيه السخيف في أي موضوع كأنّه أفلاطون زمانه.

وهناك عبارة “لَيْش مْدَخّل حالك بين البصلة وقشرتها” والتي تقال لمن يتدخّل في موضوع لا يعنيه.

وهناك مقولة “كثرة الطباخين بتحرق الأكل” والتي تعني أنّ تعدّد الآراء ليس دائماً بالأمر الجيّد. ولمن يعتقد بأنّ الديموقراطية هي العلاج الوحيد لكلّ الأمراض السياسيّة عليه أن يُردّد هذا القول.

وهناك القول الشهير “عالوعد يا كمّون” والذي يقال لمن نعتقد أنّ وعده غير صادق أو أنّ عادته أن يؤجّل ما وعد به إلى وقت آخر. وقصّة المثل، حسب ما يقال، أنّ المزارع يهمل ريّ نبتة الكمون لأنّها قادرة على تحمّل العطش، فـ”يعدها” بأنّه سيسقيها في المرّة المقبلة، وفي كلّ مرّة ينقض بوعده ويؤجّل.

ويمكن أن نسرد أقوالاً أخرى، لكن ما ذكرنا يكفي.

وهناك جانب كبير لعلاقة الطعام بالتراث هو الجانب الديني، والذي هو موضوع المقال المقبل.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  كيف ألوذ من سحر "السفير" وطلال سلمان؟