لو إستطاع أحد “قراصنة” إنتفاضة 17 تشرين الإستيلاء على خطاب جبران باسيل الأخير، بدقائقه الأكثر من الستين، قبيل تلاوته، لأمكن سرقة أول عشرين دقيقة منه بكاملها، وصولاً إلى تبنيها من كل الشعب اللبناني (الإصلاح، محاربة الفساد، إستقلالية القضاء، ثورة القضاة، إسترداد الأموال المحولة للخارج، الكابيتال كونترول، التدقيق الجنائي إلخ..). هذا خطاب أجمل من أن تصدقه قوى “ثورية” إجتماعية وازنة.
مشكلة باسيل مع هذه العشرين دقيقة أن كل حرف من حروفه يفتقد للمصداقية. هذه معضلة مصداقية كل الطبقة السياسية في لبنان من دون إستثناء أحد. تصوروا مثلاً لو جاء سعد الحريري صاغراً اليوم وقال لباسيل أنت رئيس الجمهورية المقبل وليكن هناك تحالف ثلاثي (تيار المستقبل، حزب الله والتيار الحر)، هل من عاقل لديه أدنى شك بأن خطاب باسيل سرعان ما سيتبخر، كما كان مصير “الإبراء المستحيل” من قبل؟
بكل الأحوال، هذا الجزء من خطاب باسيل مضمونه إيجابي ولا حرف واحداً يمكن أن يُضاف إليه، لكن ماذا عن العنوان الأبرز في مؤتمره الصحافي، أي قضية الحدود البحرية؟
في هذه النقطة تحديداً، وبعد أن أفاض رئيس التيار الوطني الحر في السرد، تبرئة وتخويناً، إقترح “أن يشكّل لبنان سريعاً وفداً مفاوضاً برئاسة ممثل عن فخامة رئيس الجمهورية وعضوية ممثلين عن رئيس الحكومة ووزارات الخارجية والأشغال والطاقة والجيش اللبناني طبعاً، لإستكمال التفاوض مع اسرائيل، ولمراجعة التفاوض مع قبرص، ولبدء التفاوض مع سوريا، وفق معيار واحد وطريقة واحدة بترسيم الحدود”.
لنقرأ بهدوء مواقفه: يقترح باسيل تشكيل وفد سياسي موسّع للتفاوض بدلاً من الفريق العسكري الحالي (مُدعماً بخبير هندسي وأحد أعضاء هيئة إدارة قطاع النفط) وهو يعرف جيّدًا أن هذا الطرح مرفوض من الجميع وبالدرجة الأولى من حليفه السياسي الأول.
نعم، لقد طُرحت أسئلة كثيرة حول موقف حزب الله من الخط 29 ومن قضية التفاوض، وللحزب أن يجيب عليها، لكن القاصي والداني يعرف أن حزب الله كان موقفه حاسماً برفض تشكيل وفد سياسي في الخريف الماضي، عندما إقترح باسيل أن يكون برئاسة مدير عام رئاسة الجمهورية أنطوان شقير وهادي هاشم مدير مكتب وزير الخارجية (مستشار باسيل)، حتى أن أصل وجود شخصيات مدنية ضمن الوفد كان نقطة إعتراض مُعلنة، ولا بأس من العودة إلى البيان الشهير الصادر عن قيادتي حركة أمل وحزب الله فجر الرابع عشر من تشرين الأول/ اكتوبر 2020، وهو البيان الذي جعل رئيس الجمهورية وباسيل يعيدان النظر بقرار ترئيس شقير وعضوية هاشم، ولو على مضض، وخلافاً لوعود كانت قد أعطيت للولايات المتحدة، وذلك على مسافة ساعات من بدء التفاوض وثلاثة أسابيع من فرض العقوبات لاحقاً على باسيل.
كان حزب الله قد بعث برسالة واضحة إلى رئيس الجمهورية وباسيل معاً، في عز الأخذ والرد في موضوع “الخط 29” وعشية زيارة ديفيد هيل: أنتم تحرجوننا وتحرجون أنفسكم وتحرجون لبنان. الأمر لا يحتاج إلى مرسوم ولا إلى حفلة تخوين لكل من يرفض توقيعه
هذه العودة الباسيلية إلى هذا الطرح، وبلغة تجعل سوريا وإسرائيل وقبرص متساوين، أقل ما يقال عنها أنها تحمل في طياتها محاولة جديدة لمغازلة الأميركيين (قال باسيل إن ملف الحدود كلّفه عقوبات، اي أننا نعود إلى بازار العقوبات إياه) أو أنها تحظى بموافقة حزب الله، كما إفترض الأميركيون أنفسهم، لقناعتهم أنه لا يُقْدم على هكذا دعوة من دون موافقة حليفه السياسي!
الثابت أن حزب الله ليس معنياً بإقتراح باسيل، لا من قريب ولا من بعيد، لا بالهمس ولا بالعلن. أكثر من ذلك، كان حزب الله قد بعث برسالة واضحة إلى رئيس الجمهورية وباسيل معاً، في عز الأخذ والرد في موضوع “الخط 29” وعشية زيارة ديفيد هيل: أنتم تحرجوننا وتحرجون أنفسكم وتحرجون لبنان. الأمر لا يحتاج إلى مرسوم ولا إلى حفلة تخوين لكل من يرفض توقيعه. إذهبوا إلى المفاوضات ودافعوا بالحجج والخرائط، لكن خذوا في الإعتبار أن الدولة إذا إلتزمت بالخط رسمياً، سواء من خلال مجلس الوزراء أو رئاسة الجمهورية، وأرسلت المرسوم إلى الأمم المتحدة، عندها لن يكون إلتزام المقاومة قابلاً للتنازل، أي أننا لا نقبل أن يقال لنا هذا خط تفاوض ومن ثم نتنازل عنه حتى نقبل بالـ 860 كلم2. الإلتزام بالخط الجديد شيء والتفاوض شيء آخر. ليس في ثقافتنا ولا ثقافة جمهورنا لا التفاوض ولا الإعتراف ولا التسوية.
بإختصار، كان حزب الله، وبعكس الكثير من المقالات التي كُتبت، يُحذر من جعل الخط “مزارع شبعا” بحرية جديدة. قال الحزب إنه لا يريد أن يلبس هذا القميص، ليس خوفاً من إسرائيل، بل لعدم إعطاء ذرائع داخلية أو خارجية لإطلاق النار سياسياً على مقاومة لطالما إلتزمت دائماً بالوقوف وراء الدولة وخياراتها، سواء أكان من يفاوض الأميركيين رئيس مجلس النواب في السابق أو رئيس الجمهورية حالياً.
ولو دقّقنا في مطالعة باسيل “الحدودية”، لوجدنا فيها الكثير من التناقضات. فقد قدّم نفسه خبيراً استراتيجياً عندما تحدث عن الحرب وضرورة تجّنبها وخبيراً تقنياً (حل محل الجيش وإحداثياته) عندما قال إن الموضوع شائك وهو جاهز لشرحه على الخرائط (المحلية والإقليمية).
شدّد باسيل على أهمية توفير التوافق الوطني حول الملف، وفي الوقت نفسه، اعتبر أن الجدية في التعاطي مع ملف الغاز بدأت فقط عندما تسلم التيار البرتقالي وزارة الطاقة. إتهم الجميع بارتكاب الأخطاء مستثنياً نفسه وكل وزراء التيار.
طالب باسيل بالانطلاق من الخط 29 ولكن “ليس للحدّ الذي يجعل أي تنازل عن مليمتر هو خيانة وطنية” (ردّ ضمناً على أقرب حلفائه)، متناسياً أنه كان وراء حملة تخوين الذين كانوا غير موافقين على تعديل المرسوم 6433/2011 لتخوّفهم من تداعيات ذلك التخوين.
غازل باسيل الولايات المتّحدة الأميركية من خلال طرح الاستعانة بشركة أميركية. لا يتعامل التيار الحر في أدبياته مع إسرائيل بوصفها عدواً، وهذا أمر يخص التيار ولا يُقلل من موقفه الوطني، لكن اللافت للإنتباه إبداء الحرص على المصالح المشتركة من خلال الحديث عن الاستقرار والازدهار والعمل على التوصّل إلى “حل مقبول يسمح لنا نحن وإسرائيل” بالعمل على طرفي الحدود، لا بل ذهب أبعد من ذلك بقوله إن الإسرائيلي فرض أمراً واقعاً، وذهب إلى حد التطبيع المبطّن من خلال طرح استثمار الآبار المشتركة عبر شركة ثالثة، ووصل إلى درجة الترجّي وكأنه يقول لإسرائيل “حيّدي حقل كاريش طالما عندك الكثير من الآبار”.
إعتبر أن العماد عون هو أفضل من يُؤتمن على المصلحة الاستراتيجية للبنان، واتهم من كان قبله (من دون أن يسميه) بأنه باع حقوقنا من زمان لإسرائيل وللأميركيين مقابل الرضى عنه. تجاهل كليا الوفد اللبناني المفاوض متجاهلاً إنجازاته، وكل مجريات نقل الملف من عنده (يوم كان يتابع هو شخصياً مع القيادي المطرود من التيار والمستشار الرئاسي السابق طوني حداد) إلى قيادة الجيش اللبناني التي كانت قد أبلغت رئاسة الحكومة ووزيرة الدفاع أنها مستعدة للسير في الخط 29 حتى لو كان الثمن الإستعداد لخيار الحرب مع إسرائيل.
في الخلاصة، طرح باسيل مبادرة إعلامية، ظاهرها إيجابي وباطنها مفخخ بالسلبيات. عطّل دور الجيش اللبناني والوفد المفاوض ووضع مبادرة صورية زرع بداخلها لغم تفجيرها بمجرد أن طرح جعل الوفد المفاوض سياسياً بإمتياز. لذا، يمكن القول إن عملية المفاوضات حول الحدود البحرية الجنوبية مجمّدة حتى إشعار آخر، فما يجري من مقاربات يدل على الإنتقال من إرباك إلى إرباك ومن عشوائية إلى مطرح جديد يصعب فك حروفه وإدراك مضامينه وأهدافه. كان الله بعون الجيش الذي يكرر أن مهمته تقنية بينما القرار بإعتماد الخطوط والحدود بيد سلطة سياسية غير موجودة!
هذا في الشق المتعلق بالحدود، ماذا عن الحملة التي شنّها باسيل ضد القوات اللبنانية وللمرة الأولى بهذه الحدة السياسية منذ العام 2005 حتى يومنا هذا؟ للبحث صلة.