طار وزير الإعلام السعودي عبد العزيز خوجة من الرباط إلى بيروت، على وجه السرعة، بأمر من الملك السعودي عبدالله بن عبد العزيز الذي كان يقوم بزيارة رسمية للمغرب. كان خوجة، السفير السعودي الأسبق في لبنان، أحد أعضاء خلية العمل السعودية المناط بها متابعة ملف الانتخابات النيابية اللبنانية التي جرت في ربيع العام ٢٠٠٩، وأفضت إلى فوز فريق ١٤ آذار بأغلبية مقاعد مجلس النواب. الأمر الملكي إلى خوجة كان محصوراً بمقابلة الزعيم الدرزي اللبناني النائب وليد جنبلاط. لماذا؟
لم تكد تمر ثلاثة أشهر على صدور نتائج الإنتخابات النيابية، حتى فجّر وليد جنبلاط قنبلة أعادت خلط التحالفات السياسية بإعلانه أن تحالف الحزب التقدمي الاشتراكي مع فريق ١٤ آذار “كان بحكم الضرورة”.. و”لا يمكن أن يستمر” (٣/٨/٢٠٠٩). جاء تصريح الأب الروحي لفريق ١٤ آذار كالصاعقة على فريقه ورافعته العربية المملكة العربية السعودية.
وضع البعض هذا التحول الجنبلاطي في خانة المزاجية والابتزاز السياسي. لكن الرادارات السياسية لزعيم المختارة لم تكن مُخطئة. استشعر الرجل أن طبخة ما تُحاك في “دولة الظل”، برعاية سعودية ـ سورية، من دون أن يكون شريكاً في الحياكة والتفصيل.
باللغة اللبنانية “الدارجة” (العامية)، يُقال إن شهر آب/أغسطس هو “آب اللهّاب”. هكذا كانت النشرة السياسية في بيروت عندما وصل الموفد الملكي الى مقر إقامة جنبلاط في حي كليمنصو يوم الأربعاء (٥/٨/٢٠٠٩). وتسمية كليمنصو تعود إلى رئيس وزراء فرنسا السابق جورج كليمنصو، وهذه المنطقة عبارة عن تلة صغيرة محاذية لأختها الأكبر رأس بيروت المطلة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط.
اتفاقية السطور الستة: يتوافق أركان “دولة الظل” على القرارات الحكومية قبل إنعقاد جلسات مجلس الوزراء. عدم استخدام سلاح حزب الله في الداخل. اسقاط القرارات الاتهامية الصادرة عن الدولة السورية بحق سعد الحريري وثلاثين من فريق عمله. وأخيراً الغاء مفاعيل المحكمة الدولية
ومن بين لهيب الجو السياسي، بادر خوجة إلى السلام، مُستذكراً الزعيم الراحل كمال جنبلاط صديق الملك عبدالله بن عبد العزيز. ثم مُذكّراً كيف أن جنبلاط الأب كان يحترم حلفاءه. ليضع النقاط على حروف مهمته قائلاً “يقول لك جلالة الملك عبدالله إن الأوضاع في المنطقة حسّاسة جداً ولا تحتمل الخطأ”.
يقرأ وليد جنبلاط جيداً ما بين السطور. ويعرف أكثر قراءة رياح النشرة السياسية. استشعر ذلك نتيجة الانتخابات النيابية وكيف تقلّص حجم كتلته النيابية، فضلاً عن خوفه الأكبر من القرار الظني للمحكمة الدولية المعنية بقضية اغتيال رفيق الحريري. يومها صدرت مقالات في الصحافة الأجنبية (كندا وألمانيا وفرنسا) تُحوّل الإتهام من سوريا الى حزب الله، وتلمح إلى أن هذا القرار سيُعرّض لبنان الى هزة أمنية قد تتدحرج الى حرب أهلية. وفي الحالتين، سيكون جنبلاط مُحرجاً بالإتهام الداخلي، ما يُهدّد مساحة نفوذه الجغرافية المتداخلة مع المكون الشيعي، وبالتالي يُعرّض موقعه في السلطة الى الانحسار وربما الانقراض.
تلقى خوجة كلام جنبلاط وتبريراته على طريقته المعهودة. ابتسامة ناعمة، قبل أن يُعقّب قائلاً إنه لا يشارك جنبلاط هواجسه، شارحاً له أن فوز فريق ١٤ آذار في الانتخابات هو فوز له. ثم أن المحكمة الدولية لم تعلن قرارها الظني بعد.. والأهم شبكة الأمان الداخلية والخارجية التي تريدها المملكة للبنان وهو حتماً سيكون في صلبها.
شعر خوجة بأن جنبلاط لم يقتنع بكلامه فأراد تلطيف الأجواء الملتهبة قائلاً “مكانك ومكانتك محفوظان عند الملك عبدالله”، لكن جنبلاط كان متوجساً من مكانته المفقودة في “دولة الظل”، مُدركاً أن مكانته السياسية في الخارج لن تسعفه في الحفاظ على موقعه في السلطة. هنا باح جنبلاط بوحاً كبيراً مبدياً خشيته من تقارب سعودي ـ سوري (سين سين) على حساب موقعه ومكانته السياسية. ردّ خوجة أن المملكة لا تزال تعتبره صديقاً وحليفاً برغم إنعطافته، وأن الملك يحثه على مراجعة موقفه حرصا على مستقبل لبنان.
في اليوم التالي، أطلق جنبلاط موقفاً وضع في خانة التراجع عن موقفه السابق. فقد أطلّ من القصر الجمهوري، بعد اجتماعه بالرئيس اللبناني ميشال سليمان، معلناً وقوفه الى جانب الرئيس سعد الحريري، داعياً إلى مراجعة شعارات ١٤ آذار بالحد الأدنى. ما لم يقله جنبلاط هو أنه لم يتوقف عن رصد الحركة النشطة لبعض رموز “دولة الظل”. إستشعر مناخات بين عواصم إقليمية لا يتم وضعه في أجوائها تتمحور حول تداعيات القرار الظني للمحكمة الدولية. كانت قناعة جنبلاط قوية تجاه “دولة الظل” التي أقصته عن اتفاق ما تجرى حياكته بين الرئيس سعد الحريري والأمين العام لحزب الله برعاية سعودية ـ سورية، مبدياً خشيته من تكرار تجربة “إتفاق الرياض” (2005) الذي أُقصي عنه، وكان أحد أبرز المساهمين في إسقاطه قبل ولادته.
لم يكن جنبلاط يوماً بعيداً عن “دولة الظل”. ربما هو أحد المؤسسين لهذا النظام الموازي لجمهورية الطائف يداً بيد مع الرئيسين نبيه بري ورفيق الحريري وغيرهم ممن ساهموا في بناء سردية حكم لبنان في “الحقبة السورية”. إستظل جنبلاط بالحماية السورية طوال عهد الياس الهراوي (1989 ـ 1995) وصار رئيساً رابعاً، لا تتخذ “ترويكا” الحكم (الهراوي والحريري وبري) قراراً إلا بالتنسيق الكامل معه، بأمر عمليات سوري. هو يعلم جيداً أن آلية صناعة القرار في لبنان تبدأ خارج الدولة وأحياناً خارج الحدود. وأن حجم المشاركة في دولة الظل لها معياران: أولاً، زعامة الطائفة. وثانياً، التحالفات بين زعماء الأحزاب (الطوائف). كل هذا وذاكرة جنبلاط ما تزال طرية إزاء أحداث ٧ أيار/مايو ٢٠٠٨ الدامية وما كان يمكن أن تؤدي إليه من خطر وجودي على الزعامة الجنبلاطية.. لأجل ذلك استشعر براداره السياسي أن ثمة طبخة ما اتاحت تكليف سعد الحريري برئاسة حكومة ما بعد انتخابات العام 2009. أما الكلام عن شبكة الأمان الذي سمعه من خوجة فقد أكد له المؤكد.
برغم ذلك، ولدت الحكومة الحريرية الأولى بعد مفاوضات شاقة أدت إلى تدخل الرئيس السوري بشار الأسد لدى الملك عبدالله لإقناع الحريري وفريقه بتوزير جبران باسيل الراسب في الإنتخابات النيابية.
وكان الحريري قد كُلّف برئاسة الحكومة للمرة الأولى في حزيران/يونيو ٢٠٠٩ خلفاً للرئيس فؤاد السنيورة. وقد سعى الرئيس المكلف بكل ما أوتي من قوة مدعمة باتفاق الطائف وممارسته واتفاق الدوحة الحديث الولادة الى تشكيل الحكومة قبل أن يُعلن بعد ثلاثة أشهر وتحديداً في أيلول/سبتمبر ٢٠٠٩ اعتذاره عن التكليف. إعتذار كان عبارة عن مناورة كونه كان يدرك مسبقاً انه سيعاد تكليفه مرة أخرى، بحسب اتفاق “دولة الظل”. أعاد رئيس الجمهورية ميشال سليمان، بعد أيام قليلة، تكليف الحريري لينجح في تشكيل حكومته الأولى وفي فترة زمنية قصيرة نسبياً.
وبين التكليفين الأول والثاني، عقد لقاء هو الأول من نوعه بعد حرب تموز ٢٠٠٦ بين سعد الحريري والأمين العام لحزب الله. تم الاتفاق بين الرجلين على ما يعرف بـ”اتفاقية الأسطر الستة”، وجوهرها الآتي: يتوافق أركان “دولة الظل” على القرارات الحكومية قبل إنعقاد جلسات مجلس الوزراء. عدم استخدام سلاح حزب الله في الداخل. اسقاط القرارات الاتهامية الصادرة عن الدولة السورية بحق سعد الحريري وثلاثين من فريق عمله. وأخيراً الغاء مفاعيل المحكمة الدولية وقرارها الظني محلياً. تمت المصادقة على هذا الاتفاق ووضع موضع التنفيذ بمباركة سعودية ـ سورية تحت مظلة “السين سين”.
عدة محطات مفصلية حدثت بعد نجاح الحريري بتشكيل الحكومة. لعل أهمها الزيارة التي قام بها رئيس الحكومة الى دمشق في كانون الأول/ديسمبر٢٠٠٩. زيارة جاءت ترجمة لتفاهم “السين سين”. ثم تلتها زيارتان أولى وثانية لوليد جنبلاط الى دمشق في ربيع العام ٢٠١٠، قبل أن يزور سعد الحريري مجددا دمشق في الثامن عشر من أيار/مايو من العام نفسه.
شعر خوجة بأن جنبلاط لم يقتنع بكلامه فأراد تلطيف الأجواء الملتهبة قائلاً “مكانك ومكانتك محفوظان عند الملك عبدالله”، لكن جنبلاط كان متوجساً من مكانته المفقودة في “دولة الظل”، مُدركاً أن مكانته السياسية في الخارج لن تسعفه في الحفاظ على موقعه في السلطة. هنا باح جنبلاط بوحاً كبيراً مبدياً خشيته من تقارب سعودي ـ سوري (سين سين)
لم تكن فترة رئاسة الحريري الابن الأولى سلسة بأي شكل من الاشكال. فقد طغت العراقيل الوظيفية والدستورية على آلية صناعة القرار في “دولة الظل” فانعكست على حركة الحكومة وانتاجها. ظل فشل “الاتفاق الرباعي” (٢٠٠٥) مهيمنا على العقل السياسي للنخبة الحاكمة. تلك التجربة المريرة التي سكنت أذهانهم عند وضعها قيد الامتحان. زد على ذلك مرض الملك عبدالله وسفره إلى أمريكا للعلاج وتسلل الأمريكيين من هذه الثغرة للضغط على الواقع السياسي اللبناني من خلال سلاح المحكمة الدولية والقرارات الدولية ولا سيما القرار ١٥٥٩. كل هذه العوامل أضعفت خيار “السين سين”. عاد الجميع إلى نواياهم المستترة. ذهب كل فريق من النخبة الحاكمة لتفسير فشل “الاتفاق الرباعي” من منظوره. فقد وضع فريق ١٤ آذار سبب الفشل عند استخدام حزب الله سلاحه في الداخل يوم أحداث ٧ أيار/مايو ٢٠٠٨. أما فريق ٨ آذار فكانت وجهة نظره أن المحكمة الدولية وقرارها الظني بالتحول من اتهام سوريا الى حزب الله هو سلاح دولي مشهور في وجه حزب الله. وتصريح وليد جنبلاط الذي أعلن فيه بعد زيارته الرئيس بشار الأسد أن اتهام دمشق كان اتهاما سياسيا.. كانت هذه الهواجس حاضرة في جميع اللقاءات التي تمت بين سعد الحريري وقيادة حزب الله. هي مرحلة دقيقة من الصراع الإقليمي الذي كان يدور ويستعر. مفاوضات من خلف الستار بين واشنطن وطهران وبرعاية عمانية ظللت ساحات الصراع على كافة رقعة الشرق الأوسط. وقعت “اتفاقية الستة أسطر” كما سبقها “الاتفاق الرباعي” في فخ تناقضات الإقليم. فأعلن موتها عند أبواب البيت الأبيض في مطلع العام ٢٠١١.
كان العام ٢٠١١ مكلفاً جداً. هو عام تصفية الحسابات واثبات النفوذ لـ”دولة الظل”. في هذه السنة، وصل تأثير فريق من “دولة الظل” اللبنانية الى داخل المكتب البيضاوي في واشنطن، عندما استقبل الرئيس الأمريكي باراك أوباما رئيس حكومة لبنان سعد الحريري. وعلى التوقيت الزمني لواشنطن وليس طهران أو الرياض أو دمشق استقال ثلث الوزراء المنتمين لفريق 8 آذار من الحكومة (زائد “الوزير الملك” عدنان السيد حسين من حصة رئيس الجمهورية)، لتؤدي هذه الاستقالات الى فقدان الحكومة نصابها الدستوري واعتبارها مستقيلة.
في المحصلة، عوّل الفريقان في لبنان على إدارة ذاتية رديفة للإدارة الإقليمية. ظنوا أن العواصم الدولية والإقليمية تشتغل عندهم. لم يذكّرهم أحد أن “لعبة الأمم” الأولوية فيها لحسابات “الكبار”.. وأن ما يُمكن أن توفره “السين سين” لـ”دولة الظل” يبقى ناقصاً من دون ختم “العم سام”.. بهذا المعنى، كانت “اتفاقية السطور الستة” تعبيراً عن خلل مزدوج. خلل يحاول التوفيق بين تقارب إقليمي وتوافق لبناني كلاهما مناقض لحقائق المنطقة والعالم.
(*) بالتزامن مع “الشروق“