في حزيران/ يونيو 1978، وبعد مرور ثلاثة اشهر على اغتيال وديع حداد، انطلقت عملية “مافيير” او “الحارق” وهو الاسم السري لعملية اغتيال علي سلامة (أبو حسن سلامة)، وطُلِبَ من عميل كبير في جهاز “أمان” ـ الوحدة 504 (اسمه الحركي “رومينيغيه” تيمنا باسم لاعب كرة القدم الالماني الشهير) ضخ معلومات عن عادات سلامة اليومية. وكان “رومينيغيه” هذا بالحقيقة تاجرا لبنانيا اسمه أمين الحاج من عائلة شيعية مترامية العلاقات وجرى تجنيده بسبب كراهيته للفلسطينيين ورغبته في الحصول على تسهيلات لنقل بضائع (يقول البعض انها كانت تتضمن مخدرات) في منطقة الشرق الاوسط واحيانا عبر “اسرائيل” من دون اعتراضها في البحر من البحرية “الاسرائيلية”. وكانت تعقد اجتماعات “رومينيغيه” مع مشغليه عادة على متن زورق على مقربة من الشواطىء اللبنانية.
يتابع بيرغمان ان أمين الحاج استخدم علاقاته للحصول على معلومات عن تفاصيل الروتين اليومي لحركة سلامة واكتشف انه يقضي الكثير من وقته في نادٍ رياضي في فندق “كونتيننتال” في بيروت وانه يعيش مع زوجته جورجينا رزق في حي الصنوبرة (فردان) قرب منطقة الحمراء، وقد أعجب رئيس وحدة “قيساريا” مايك هراري بهذه المعلومات، وينقل عنه بيرغمان قوله “لقد كان سلامة رجلا لعوبا وشخصية لامعة في المجتمع الراقي في بيروت حيث من السهل علينا الانخراط في هكذا دوائر، فارسلت عملائي حتى يقتربوا منه الى حد ان تلتقي اكتافهم باكتافه”.
يضيف الكاتب ان “قيساريا” ارسلت احد عملائها الى بيروت حيث حجز غرفة في فندق “كونتيننتال” بهوية اوروبية مزورة وسجل اشتراكاً في النادي الرياضي في الفندق، وكان يذهب إليه يومياً حيث يصادف سلامة هناك بشكل متواصل، وقد عرف ان الأخير يولي اهتماما خاصا بساعات اليد الفاخرة وملابس آخر موضة، فقام بتجهيز نفسه وفقا لاهتمامات سلامة، وكان يغير ملابسه في غرفة الملابس ويتعمد ان يكون اقرب ما يكون الى سلامة. وفي احد الايام، كان اعضاء النادي يهنئون سلامة لنيل زوجته جورجينا رزق جائزة في حفل جرى في الليلة التي سبقت، فانضم عميل “قيساريا” اليهم وتبادل الحديث مع سلامة، بعدها نمت علاقة صداقة بين الرجلين وكانا يتجاذبان اطراف الحديث من وقت لاخر.. “في حالات كهذه، عليك أن تدع الهدف يبادر بالصلة والا ستولد عنده شبهات، لا سيما مع شخص مثل سلامة” كما ينقل بيرغمان عن احد المسؤولين الامنيين الذين كانوا على صلة بالعملية.
كان “رومينيغيه” هذا بالحقيقة تاجرا لبنانيا اسمه أمين الحاج من عائلة شيعية مترامية العلاقات وجرى تجنيده بسبب كراهيته للفلسطينيين ورغبته في الحصول على تسهيلات لنقل بضائع
وعندما عاد عميل “قيساريا” الى “اسرائيل”، ينقل بيرغمان عن هراري قوله انه جرت مناقشة أهمية أن لا تحمل عملية اغتيال سلامة بصمات واضحة مثل دس مادة كيميائية سامة في معجون الاسنان او الصابونة او مُعطّر ما بعد الحلاقة، ولكن بدا هذا النوع يشكل خطرا على العميل المنفذ. فتم البحث بوضع عبوة ناسفة في خزانة الملابس التابعة لسلامة في النادي الرياضي، ولكن هذه الفكرة استبعدت خوفا من قتل آخرين غيره (…)، واستبعد هراري فكرة قتل سلامة في النادي الرياضي او في مكتبه او في بيته بسبب التدابير الامنية المشددة في كل هذه الأماكن.
ما هو الحل؟
“وضع عبوة في الشارع العام وضرب هدف متحرك. في هذه الحالة، سيكون سلامة مشتت الذهن لاهتمامه بالقيادة بمرافقة عربة التويوتا التي تحمل المدفع الرشاش وسيارة اخرى مليئة بالمرافقين. في مكان ما على الطريق التي يمر عليها موكبه، يمكن لعميل ميداني لـ”الموساد” ان يفجر عبوة ناسفة كبيرة من مسافة آمنة للقضاء على الهدف”.
على هذا الاساس، تمت الاستعانة بخبرات ياكوف ريهافي وهو عالم من وكالة الفضاء الامريكية “ناسا” كان “الموساد” قد جنّده ليرأس قسم التكنولوجيا في الجهاز، وقد صنّع لـ”الموساد” معدات خاصة للتدريب على تفجير العبوة عن بعد أثناء مرور الموكب، وخلال التدريب كان على العميل ان يضغط الزر في وقت محدد يرتبط بحركة دولاب السيارة المستهدفة من دون اي تأخير او استباق ولو بثانية واحدة، ويقول عملاء شاركوا في التدريب ان ريهافي نفسه وعميلين اخرين فشلوا في كبس الزر في التوقيت الدقيق وإذ بامرأة تعمل في مكتب مكافحة الارهاب تقول “دعوني اجرّب”، فابتسم ريهافي واعطاها “الريموت” وقد نجحت في كبس الزر في الوقت المطلوب وكررت نجاحها عدة مرات متتالية، وفي النهاية جرّبت الامر بمتفجرة وضعت في سيارة فيها دمى تشبه البشر وجاء مجدداً توقيتها ممتازاً.
ينقل بيرغمان عن مايك هراري قوله “طالما كان الرجال يضغطون الزر، كان هناك يأس وعندما نجحت المرأة مرارا وتكرارا اقتنعت انه يبدو ان النساء في هذا الامر افضل من الرجال.. وهكذا قررت ارسال امرأة أعطيناها اسما حركيا هو “ريناه” لتكبس الزر في بيروت”. يضيف “لم يكن هذا القرار سهلا لانه كان علينا ان نغير كل قصص الغطاء التي كنا اشتغلنا عليها وذلك لأن السيدة يمكن ان تضطر للبقاء لساعات طوال في الشارع الذي سيقع فيه التفجير، فلم يكن كافيا لها ان تعرف فقط كيف تكبس الزر، فسلامة لم يكن يغادر منزله في الوقت نفسه كل مرة، وكان يمكن ان تضطر للبقاء ثماني ساعات على اهبة الاستعداد لكبس الزر من دون ان يغمض لها جفن وحتى من دون ان تذهب الى الحمام لقضاء حاجتها”.
يقول بيرغمان ان الاسم الحقيقي لـ”ريناه” هو ايريكا شامبرز من مواليد انكلترا عام 1948. والدها ماركوس شامبرز كان مهندسا يصمّم سيارات السباق وامضى معظم حياته في ميادين سباق السيارات، وامها لونا مغنية وممثلة من عائلة يهودية تشيكية غنية معظم افراد عائلتها قتلوا في الهولوكوست. درست ايريكا في جامعة ساوثمبتون الانكليزية في الستينيات الماضية، وكانت تقود سيارتها بجنون، حسب معارفها هناك. سافرت ايريكا الى استراليا ومنها الى “اسرائيل” حيث درست شهادة الماجستير في “الهيدرولوجيا” في الجامعة العبرية. احبت فكرة مزج المغامرة بما وصفته “تقديم اسهام مميز للدفاع عن امن الدولة” ونجحت في كل اختبارات التجنيد في وحدة “قيساريا” لتخضع بعدها لعملية تدريب مضنية.
وإذ بامرأة تعمل في مكتب مكافحة الارهاب تقول “دعوني اجرّب”، فابتسم ريهافي واعطاها “الريموت” وقد نجحت في كبس الزر في الوقت المطلوب وكررت نجاحها عدة مرات متتالية، وفي النهاية جرّبت الامر بمتفجرة وضعت في سيارة فيها دمى تشبه البشر وجاء مجدداً توقيتها ممتازاً
في منتصف العام 1975، غادرت ايريكا “اسرائيل” حاملة هوية بريطانية مزورة لتبدأ عملها الاستخباري في الخارج. تم إختيارها مع رجلين آخرين لتنفيذ عملية اغتيال سلامة. وقد استدعت الخطة المعقدة تعاونا وثيقا مع الوحدات الخاصة للجيش لتنفيذ الاجزاء التي لا يمكن لجهاز “الموساد” ان ينفذها.
يتابع بيرغمان ان “ريناه” (الإسم الحركي لإيريكا) وصلت الى بيروت في تشرين الاول/ أكتوبر عام 1978 وقدمت نفسها موظفة في منظمة غير حكومية مهتمة بمساعدة الايتام الفلسطينيين في احد ملاجىء مخيم تل الزعتر (تجدر الاشارة هنا إلى ان حزب الكتائب والقوات اللبنانية قد دمرا هذا المخيم بالكامل في آب/ أغسطس عام 1976 خلال الحرب الاهلية). عاشت “ريناه” في بيروت لمدة شهرين وعملت مع عميل اخر على جمع المعلومات بشأن تحركات سلامة. في بداية السنة الجديدة (1979)، استأجرت “ريناه” شقة في الطابق الثامن في مبنى عال في شارع البقاع في بيروت، وكانت شقتها مطلة على شقة سلامة. وفي 16 كانون الثاني/ يناير وصل الى بيروت عميلان آخران، ولكن بشكل منفصل، احدهما يحمل باسبورا بريطانيا والاخر يحمل باسبورا كنديا. وفي 18 كانون الثاني/ يناير، عبر فريق من وحدة الاغتيال “سرييت ميتكال” الحدود الاردنية في منطقة وادي عربة جنوب البحر الميت، وهو يحمل حوالي مئة كيلوغرام من المتفجرات البلاستيكية والة تفجير، وعلى الجانب المقابل من الحدود، كان بانتظارهم عميل من الوحدة 504 وضع العبوة في سيارته وقادها الى بيروت.
في 19 كانون الثاني/ يناير، التقى هذا العميل في مرآب سيارات تحت الارض بالعميلين اللذين سبق ذكرهما، وأعطاهما كلمة السر المتفق عليها وكانت عبارة عن كلمتين باللغة الانكليزية ليردا عليه ايضا بكلمتين متفق عليهما مسبقا، فسلمهما المتفجرات والة التفجير وودعهما وغادر بعد أن أنجز دوره في العملية.
يضيف بيرغمان ان العميلين وضعا العبوة في صندوق سيارة من طراز “فولكسفاكن” كانا استأجراها قبل يومين لهذه الغاية وثبتا جهاز التفجير في العبوة وركنا السيارة في الشارع المؤدي الى منزل أبو حسن سلامة. وجاء هراري بنفسه الى بيروت للاشراف على تنفيذ العملية خوفا من تكرار الفشل الذي وقع فيه في عملية ليلهامر (إغتيال مواطن مغربي في نادي للسباحة بعدما إشتبه عملاء “الموساد” في أنه علي سلامة).
برزت مشكلة ركون سيارة الفولكسفاكن في الشارع نفسه لوقت طويل. كانت هناك خشية من ان تثير السيارة الشبهة، فكان الحل بتبديل السيارة باخرى عندما لا يكون هناك احتمال لتحرك سلامة، وذلك من أجل الاحتفاظ بالمكان المناسب للسيارة لتفجيرها عندما يتحرك.
كتب رئيس محطة الـ”سي اي ايه” في بيروت حينها فرانك اندرسون لحسن نجل علي سلامة قائلاً “في عمرك خسرت والدي، واليوم خسرت صديقا احترمته اكثر من اي رجل اخر، اعدك بان اكرم ذكرى والدك وان اكون الى جانبك وان ابقى صديقك”
في 21 كانون الثاني/ يناير، غادر هراري بيروت تاركا “ريناه” والعميلين الآخرين لضمان وجود اقل عدد ممكن من العملاء على الارض. وفي اليوم التالي وعند الساعة الثالثة من بعد الظهر، انهى سلامة غداءه مع زوجته جورجينا وقبلها قبلة الوداع وغادر منزله وركب سيارته الشيفروليه وقادها عند الساعة 3:23 باتجاه مكتب القوة 17 (الفاكهاني) وتقدمت موكبه سيارة من طراز رانج روفر كانت محملة بمرافقيه وسارت خلفه سيارة بيك اب تويوتا (عادة تكون محملة برشاش). وما كاد الموكب يقطع حوالي الستين قدماً حتى جاورت سيارة سلامة سيارة الفولكسفاكن المفخخة. كبست “ريناه” الزر، لتشهد بيروت انفجاراً ضخماً تحولت معه سيارة الشيفروليه الى كتلة من نار، وينقل بيرغمان عن احد العميلين ـ وكان يشاهد عن بعد ـ ان سلامة نجح في الخروج من السيارة وثيابه مشتعلة ليسقط ارضا فتمتم العميل لنفسه بالقول “مُتْ يا ابن الـ(…) مُتْ”.
يتابع بيرغمان قائلا ان محمد عودة (ابو داوود) قائد عملية ميونيخ، صادف مروره في المحلة فركض لتقديم المساعدة. رأى عودة شظية معدنية معلقة بجمجمة سلامة الذي نقل على وجه السرعة الى مستشفى الجامعة الاميركية في بيروت، لكنه سرعان ما فارق الحياة. قتل في العملية نفسها ثمانية اخرون هم سائق سلامة واثنان من مرافقيه. كما قتل ثلاثة مواطنين لبنانيين ومواطن الماني واخر بريطاني (صادف مرور هؤلاء في المكان). بعد تنفيذ العملية مباشرة، توجهت “ريناه” والعميلان الآخران الى شاطيء مدينة جونية في شمال بيروت حيث اقلهم زورق مطاطي على متنه جنود من وحدة “فلوتيلا 13″، حيث قام احدهم بحمل “ريناه” الى المركب الذي انتقلوا منه الى مركب كبير في عرض البحر تابع لسلاح البحرية.. وخلال ساعات قليلة كان الجميع في مدينة حيفا.
يقول بيرغمان إن اغتيال سلامة شكّل ضربة كبيرة جدا لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكتب رئيس محطة الـ”سي اي ايه” في بيروت حينها فرانك اندرسون لحسن نجل علي سلامة قائلاً “في عمرك خسرت والدي، واليوم خسرت صديقا احترمته اكثر من اي رجل اخر، اعدك بان اكرم ذكرى والدك وان اكون الى جانبك وان ابقى صديقك”.
يختم بيرغمان هذا الفصل من كتابه بالقول إن “اسرائيل” أقفلت حسابها مع علي سلامة ولكنها لم تنجح في قطع العلاقات بين منظمة التحرير الفلسطينية والولايات المتحدة، فروبيرت ايمز الذي حزن كثيرا لموت صديقه جهد لتثبيت هذه العلاقات مع الرجل الذي عيّنته منظمة التحرير خلفا لسلامة وهو هاني الحسن. وبعد عملية الاغتيال، نجح ايمز في تثبيت موقفه وبات الشخص الاساس في تشكيل خطة ادارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان والتي حصل الفلسطينيون من خلالها على اعتراف اميركي بحقهم في انشاء دولة خاصة بهم.
(*) “الموساد” يطارد أبو حسن سلامة.. مالك شيفرة “لانغلي” ـ عرفات