عن أي تغيير نتكلم؟
التغيير هو فعل حركة انتقالية من مرحلة راهنة الى مرحلة جديدة. بالتالي علينا في البداية أن نشخّص جيداً ماهية المرحلة الراهنة: إنه موضوع بحثنا. تكمن أهمية هذا التشخيص في فهمنا له والبناء عليه لتحقيق عملية التغيير.
ما الادوات التي سنستعملها لتشخيص الواقع اللبناني؟ سأغامر، وأستعمل وأطبّق، وأختبر أدوات لطالما نُبذت لعدة أسباب، معظمها أيديولوجية، ونادراً ما تكون علمية بحتة. الأدوات التي اخترتها لهذا البحث هي: “الطبقات الاجتماعية” و”الصراع الطبقي”.
فلنختبرها.
إن البحث مكوّنٌ من ثلاثة مشاهد. أعرّف في المشهد الأول اللاعبين الأساسيين، أي الطبقات الاجتماعية. أدرس في المشهد الثاني أدوارهم وأداءهم في الصراع الطبقي. أعرض في المشهد الثالث بعض الاستنتاجات والعبر التي قد تساهم في قلب موازين القوى داخل هذا الصراع.
قبل البدء بالعرض، لا بدّ من أن أنوّه أن هذا البحث غير مكتمل، فهو ما زال بحاجة للتطوير والتدقيق والنقد، واستكماله ليس بعمل فردي. كما أن الإستنتاجات التي يمكن إستنباطها منه بحاجة إلى عمل جماعي لتفعيلها على الأرض. لذلك، إتخذت القرار بنشر هذا البحث غير المكتمل للاسراع إما بتطويره أو تدميره.
المشهد الأول: اللاعبون الأساسيون
تطبيقاً لمفهوم “الطبقات الاجتماعية”، افترضت مسبقاً[1]، ان المجتمع اللبناني مكوّن من أربع طبقات اجتماعية: الطبقة الريعية، الطبقة البرجوازية، الطبقة الوسطى، الطبقة البروليتارية. في هذا المشهد، أستعرض باختصار شديد اللاعبين الاساسيين في المجتمع اللبناني.
- الطبقة الريعية
الطبقة الريعية مكوّنة من فئات ريعية شكّلت وأرست وجذّرت تدريجياً عبر تاريخ لبنان نظامه السياسي المعروف عموماً بـ”الدولة الطائفية”.
لماذا سُميت بالطبقة الريعية؟
لأنها لا تُنتج شيئاً. بل هي تستحوذ على مقدرات وثروات البلد تحت راية “الزعامة الطائفية”.
هل تستفيد هذه الطبقة من النظام السياسي الطائفي؟
بالتأكيد.
تعتبر الطبقة الريعية أن هذا النظام السياسي (“الطائفي”) هو النظام المثالي، اذ يتيح لها تخليد هيمنتها[2] الطبقية.
تبرز ضمن الطبقة الريعية ثلاث فئات: الاولى، شكّلت تاريخياً النظام السياسي اللبناني. الثانية أرست هذا النظام وارتبطت بالفئة الاولى في محطات تاريخية محددة. الثالثة هي كالطفيليات التي التصقت بهذا النظام وتكاثرت لانها تغذت منه لتصبح فئة الريع الاقتصادي. تتمسك كل هذه الفئات بحلمة النظام السياسي وتمتص منه سبب وجودها. وعليه، تعالوا نُشرّح أكثر فئات الطبقة الريعية في لبنان:
- الفئة الاولى تتكون من عشرات العائلات الاقطاعية التي أنشأتها وكرّست سلطتها قوى خارجية سيطرت عبر التاريخ على لبنان. اطلقت تسمية “الاقطاع الريعي” على هذه الفئة.
- الفئة الثانية، فرضت نفسها بالعنف كمكوّن اساسي في الطبقة الريعية. وبالفعل، كون هذه الطبقة لا تنتمي تاريخياً للطبقة الاقطاعية استحصلت بقوة الامر الواقع على زعامتها الطائفية لتثبت موقعها ضمن الطبقة الريعية. انها فئة “الريع الجديد“.
- الفئة الثالثة هي فئة “الاقتصاد الريعي“، وهي فئة مرتبطة بالفئتين الاولى والثانية.. يقول الاقطاع الريعي للاقطاع السياسي “سهّلوا لي امتصاصي الاقتصادي، مقابل تسهيلي لكم امتصاصكم السياسي، وكل ذلك باسم الاقتصاد الحر والتوازن الطائفي”. هذه الفئة تتكوّن بشكل أساسي من القطاع المصرفي والمالي ومن الاحتكارات داخل قطاعات رئيسية في الاقتصاد اللبناني.
الطبقة الريعية المكوّنة من هذه الفئات الثلاث المحددة اعلاه، تشكل على الارجح 1% من عدد المقيمين[3] في لبنان.
- الطبقة البرجوازية
تعتبر الطبقة البرجوازية نفسها محرك القوى المنتجة في لبنان. ان هذه الطبقة تسعى الى تفعيل الدورة الإقتصادية، وخلق فرص عمل، وتطوير وسائل المعرفة. في سبيل تراكم ثرواتها، تحاول الطبقة البرجوازية استملاك وسائل الانتاج، اي “رأس المال والعمل”. الا انها في الواقع لم تستطع ان تمتلك الاّ جزءا منهما وهو الجزء التى سمحت الطبقة الريعية بأن تستحصل عليه.
تاريخياً، وجدت الطبقة البرجوازية مكاناً لها داخل نظام “الدولة الطائفية”، الا ان طمع الطبقة الريعية والفساد وأزمة الثقة الاقتصادية وعدم الاستقرار السياسي، أدّوا تدريجيا الى خسارة هذه الطبقة موقعها. اليوم تبحث الطبقة البرجوازية عن سبل حتى تبقى حيّة.
لا بد من تمييز عدة فئات داخل الطبقة البرجوازية:
أولاً، فئة كبار المنتجين (كالصناعين مثلاً) بحاجة الى بيئة تشريعية وتنظيمية ومؤسساتية[4] تؤمن ديمومة استثماراتها. في ظل التنافس الاقتصادي الدولي الحاد، فئة كبار المنتجين لا يمكنها الاستمرار من دون تدخل الدولة من خلال سياسات تهدف الى دعم الاقتصاد المنتج. يتبيّن بوضوح انه لا يوجد حتى اليوم رؤية على المدى الطويل لتطوير الاقتصاد اللبناني الحقيقي وخلق فرص العمل. السبب أن الطبقة الريعية تتحكم بكافة مفاصل السلطة ولا رؤية لها باستثناء ابقاء هيمنتها الدائمة.
ثانياً، فئة المهن الحرة[5] تتكون بصورة اساسية من الاطباء والمهندسين والمحامين والصيادلة، بالاضافة الى مهن أخرى.
ثالثاً، الفئة المتوسطة والصغيرة، وهي الأكثر عدداً والأقل تأثيراً أو نفوذاً داخل الطبقة البرجوازية.
الطبقة البرجوازية هي طبقة منتجة[6] لانها تعيش من الاقتصاد الحقيقي وهي في صميمه، الا انها بحاجة الى عامل الثقة لكي تتطور وتنمو.
الا انه يتبيّن لنا ان الطبقة الريعية اليوم لم تعد تؤّمن الحدّ الادنى من الحماية للطبقة البرجوازية، ان كان من ناحية حرية استغلال الموارد او من ناحية تأمين بيئة مؤسساتية مؤاتية. وبالتالي لم تعد الطبقة البرجوازية قادرة على فرد أجنحتها.
- الطبقة الوسطى
من هي الطبقة الوسطى؟
في المبدأ انها الطبقة التي يسعى كل الباحثين الى تحديد ماهيتها، قياسها، تحليلها ووصفها. في معظم الاحيان هي غير مرئية، لكنها اساسية في عملية النمو. هذه الطبقة تُستغل. بينما هي التي تُؤمن الشروط الضرورية للتنمية، اي “رأس المال البشري”.
الطبقة الوسطى هي الطبقة الاكثر تغيّراً مع الوقت بين كافة الطبقات الاجتماعية. داخل هذه الطبقة، يبدو “المصعد الاجتماعي” هو الاكثر نشاطاً:
- إما ترقية أو نجاحاً، وعندها يمكن تصنيف هؤلاء بوصفهم برجوازيين او اقطاعيين؛
- إما ظروف طارئة، إفلاس أو بطالة، وعندها يسقط الأفراد في حالة من البؤس الإجتماعي.
الطبقات الوسطى في البلدان الاوروبية تستفيد من حماية اجتماعية واسعة، (صحة، تعليم، سكن، تقديمات اجتماعية.. الخ) لمواجهة الظروف الطارئة. اما في لبنان فـ”الدولة الطائفية” لا تؤّمن هذا الاطمئنان الاجتماعي.
والسؤال هل حرمان الطبقة الوسطى من الحماية الإجتماعية متعمّد؟
انه أمر أكيد، لأن الحصول على الخدمات العامة مرتبط بالخضوع للريعين السياسي (الإقطاعي) والإقتصادي.
في غياب الولاء، يتعطّل “المصعد الاجتماعي” واذا تأمّن الولاء قد لا يأتي “المصعد الاجتماعي” ابداً، حتى بعد طول انتظار.
من خلال مفهوم “العمل النظامي”، يمكننا ان نميز عدة فئات داخل الطبقة الوسطى. فهي لا تملك سوى بيع قوة عملها لتأمين حاجاتها. بيع قوة عملها يمكن أن يتم اما بطريقة نظامية او غير نظامية. الموظفون النظاميون هم اساساً موظفو القطاع العام، بالاضافة الى بعض موظفي القطاع الخاص الذين يعملون في المؤسسات الوسطى والكبيرة. وهنا تجدر الإشارة الى التأثير الكبير الذي تملكه الطبقة الريعية على وظائف القطاع العام وتحديداً المراكز الرئيسية في الادارة العامة. علينا ان لا ننسى أن هنالك علاقة عضوية بين الوظيفة والولاء مما يعزز الرابط بين الطبقة الريعية وبين جزء من الطبقة الوسطى. لقد حصّل الموظفون النظاميون التابعون لهذه الفئة حدا ادنى من الحماية الإجتماعية نتيجة نضالاتهم الاجتماعية المتراكمة على مدى سنوات. سأسمي هذه الفئة من الطبقة الوسطى:”الطبقة الوسطى النظامية”.
“الطبقة الوسطى غير النظامية” (الفئة الثانية من الطبقة الوسطى) هي فئة ضعيفة جداً امام الظروف الطارئة. غياب اي حماية اجتماعية لها – نتيجة لا نظاميتها – يجعلها هشّة للغاية.
ابّان الحرب الاهلية، السياسات الاقتصادية المتعاقبة[7] والمتشابهة قضت على مجد الزمن الفائت من خلال تدميرها ركيزتين أساسيتين تميزان الطبقة الوسطى: القوة الشرائية والمستوى التعليمي.
الطبقة الوسطى اثناء سقوطها تتمزق وتفيض تناقضاتها. هي طبقة تميل الى الاصلاحات، انما الطبقة غير النظامية أكثر جذرية. لعلّ هذا هو الفرق بين من يتمسك بالامل، ومن يأمل بالتغيير الجذري.
وتُظهر تقديرات سريعة أنه في العام 2016، أي قبل الدخول في الازمة، 55%[8] من المقيمين في لبنان ينتمون الى الطبقة الوسطى. (هذه التقديرات لا تأخذ بالاعتبار تأثيرات الازمات المختلفة التي يواجهها لبنان منذ العام 2019).
- طبقة البروليتاريا
من هي طبقة البروليتاريا؟
تتكوّن طبقة البروليتاريا من الاسر والافراد الذين لا يملكون سوى قوة عملهم لبيعها من أجل تأمين حاجاتهم الاساسية فقط. هذه الطبقة تتألف من الاسر التي تتشبث بالحياة.
ان تكون بروليتارياً، يعني ان تكون مجرداً من كل شيء.
قاموس المنظمات الدولية يعتبر البروليتاريين بالمهمشين او بالاسر التي تعيش تحت خط الفقر.
تقتضي الإشارة الى وجود خطين للفقر:
الخط الادنى للفقر يمثل الحد الادنى من الدخل الذي تحتاجه هذه الاسر لتتمكن فقط من سدّ جوعها.
الخط الاعلى للفقر يمثل الحد الادنى من الدخل الذي تحتاجه هذه الاسر لتؤمن الاحساس بالوجود بالإضافة الى تأمين الطعام.
قبل العام 2019، كانت الطبقة البروليتارية ممثلة بنحو ثلث سكان لبنان. البعض منهم ربط بقاءه على قيد الحياة ببيع روحه وجسده للطبقة الريعية. مقابل الولاء، أخذت الطبقة الريعية على عاتقها تأمين الحد الادنى لإستمرار حياة هؤلاء.
نعم، حياة البعض مرتبطة بخضوعهم.
التحرر من النير يطلق الحكم بإعدامهم.
المشهد الثاني: إستراتيجيات اللاعبين الأساسيين
بعد أن قدمت اللاعبين الاساسيين، أي الطبقات الاجتماعية في المشهد الاول، سأدرس في المشهد الثاني، حركة ادائهم على خشبة المسرح (الصراع الطبقي). ما هي استراتيجياتهم؟ أهدافهم؟ وما هي طبيعة العلاقات في ما بينهم؟
الوعي السياسي (الشخصية)
تمتلك الطبقة الريعية الوعي السياسي. تسيطر، تهيمن وتعي ذلك تماماً. تضع شروط اللعبة او على الاقل تعتقد ذلك، بينما في الحقيقة شروط اللعبة تُفرض عليها.
الوعي السياسي متوفر لدى جزء أساسي من الطبقة البرجوازية. هي تعرف تماماً كيف تدافع عن مصالحها. نسجت تاريخياً هذه الطبقة شبكة علاقات قوية مع الطبقة الريعية، انما بعد الحرب الأهلية بدأت هذه العلاقات تنجرف بعيداً عن مركز القرار. هي تعي ذلك تماماً لكنها تخضع له.
ما العمل؟ فالخيار هو اما الخضوع والسكوت، أو التحرك.
أما الوعي السياسي لدى الطبقة الوسطى فيضعف مع ازدياد تهميشها الاقتصادي. نظرياً الوعي السياسي والتهميش الاقتصادي هما وجهان لعملة واحدة، ونضال واحد. الا ان الوعي السياسي يتبلور من خلال نضال طويل الامد، بينما التهميش الاقتصادي يقصّر هذا الأمد. في ظروف طارئة، عامل الهجرة يشكل حلاً منطقياً لمشكلة تهميش هذه الطبقة إقتصادياً. الهجرة تضعف النضال.
تضع الطبقة البروليتارية استراتيجيات تتيح لها البقاء على قيد الحياة، انما هذه الإستراتيجية تناقض مصالحها الطبقية: هكذا، وللاسف، شبكة الحماية الوحيدة لدى طبقة البروليتاريا هي ان تصبح حامية للطبقة الريعية.
تخليها عن وعيها السياسي يبقيها على قيد الحياة.
جذور الأزمة الحالية (الديكور)
الازمة الحالية هي نتيجة أزمة بنيوية. البعض يعيدها الى الاشهر او السنوات التي مضت، الا ان ذلك غير صحيح : الازمة الحالية هي نتيجة مباشرة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي طبقت منذ انتهاء الحرب الاهلية. ومن الخطأ أيضاً ان نعتبر ان هذه السياسات هي اصل الازمة. فهذه السياسات لم تعتمد صدفة. هي وضعت لخدمة مصالح منفذيها. ان الطبقة الريعية هي من يُعدّ السياسات الاقتصادية والاجتماعية وتنفذها في خدمة مصالحها الخاصة.
اما السؤال الذي يطرح فهو من سمح للطبقة الريعية احتلال هذا الموقع؟ النظام الطائفي سهّل للطبقة الريعية ان تكون في موقع الهيمنة، ووضعها في موقع صانع السياسات التي تخدمها.
هذه الازمة هي ازمة نظام سياسي. وبالتالي هي ليست ازمة استثنائية او ظرفية وليست ازمة اقتصادية واجتماعية عابرة. انها ازمة دائرية متكررة بانتظام مما يجعلها ازمة بنيوية.
انها ازمة النظام الطائفي.
المخرج الوحيد للازمة الحالية يتطلب حلاً جذرياً، أي ضرورة تغيير النظام ولا يكفي فقط تغيير سياسات اقتصادية واجتماعية.
كيف نخرج من هذه الازمة؟
بالتغيير الجذري للنظام السياسي والغاء مصالح الطبقة الريعية كي تزول.
عُنفُ تحرر البروليتاريا سيكون صاعقاً (وسريعاً وبالتأكيد مرئياً).. مثل النابض المضغوط عندما يقفز، عنف تحررها سيعيد نفس طاقة القمع المتراكمة بداخلها. لقد تحملت هذه الطبقة عنف الظل، سترده عنفاً ظاهراً. تحملت عنفاً بطيئاً وطويل الامد، سترده كالبرق. تحملت عنفاً ممنهجاً ومنظماً، قد ترده عنفاً عشوائياً
المسؤوليات (الأزياء)
من يتحمل المسؤولية؟
من الواضح ان الطبقة الريعية بكافة مكوناتها (الاقطاع الريعي، الريع الجديد، الاقتصاد الريعي) هي من يتحمل المسؤولية. ان هذا الحكم بديهي كون النظام السياسي صُمّم خصيصاً لها حتى لو لم تصممه هي بنفسها. في الواقع، وجود الطبقة الريعية في هذا الموقع، يسمح للقوى الاقليمية والدولية بابقاء كل الاوراق في يدها كما يؤمن لها موطىء قدم في الشرق الاوسط. هذا النظام فُصّل على مقاس الطبقة الريعية بشكل كامل. الطبقة الريعية تتقن دورها جيداً: فان كان صحيحا ان النظام الطائفي يؤمن لها استمرارية هيمنتها، الا ان وجودها مرتبط بمكان آخر. الطبقة الريعية تمتلك مفاتيح الدولة (السلطات السياسية والتشريعية والقمعية) ومفاتيح الاقتصاد انما لا تسيطر على قدرها.. من المؤكد ان القوى المكوّنة لفئة الاقطاع الريعي تتصارع في ما بينها لتعزيز نفوذها الا انها تدرك تماماً ان شروط النظام لا تسمح لأي منها ان تستحوذ على كامل السلطة، كما تدرك ان وجودها خارج هذه اللعبة غير ممكن[9].
في هذه المساحة الواسعة، تتصارع هذه القوى على السلطة ودائماً، ولكن من دون الفوز بكل شيء او خسارة كل شيء. اثناء نزاعاتها داخل هذه اللعبة، ورغبة منها بتحصين مواقعها النسبية داخل الطبقة المهيمنة، تستدعي كل فئة من هذه الفئات “الجوكر” (joker): قوى اقليمية او دولية. وفي الواقع تكون هذه القوى بالذات الطرف الذي وضع شروط اللعبة.
هل تطمح الطبقة الريعية لتغيير هذه الشروط؟ حتماً لا. بهدف تأمين ديمومة هيمنتها تتوسّل الطبقة الريعية تبعيتها للقوى الإقليمية او الدولية كما لو كان ذلك قدرها. في تاريخ لبنان الفتيّ، حاولت بعض مكونات الطبقة الريعية أن تخرق هذه الشروط وطمحت للاستحواذ على كل شيء. سريعاً احترقت اجنحتها وعادت كـ”الشاطر” الى القطيع. من قواعد النظام القائم: لا احد يربح. لا احد يخسر. من يرضخ لذلك تكون له كامل الصلاحيات للسيطرة داخل الهامش المحدد. وتكون هيمنته مؤمنة ومن الممكن ان تصبح هذه السيطرة دائمة اذا ما تشاركته مع فئة الاقتصاد الريعي. في واقع الحال، فئة الاقتصاد الريعي تمول الطبقة السياسية وتساعدها على بسط هيمنتها السياسية والاجتماعية تحت غطاء طائفي.
في المقابل، فئة الاقتصاد الريعي تتزحلق على أمواج فقاعة الاسواق المالية والاقتصاد الريعي. هيمنة الطبقة الريعية تتألق بهذا الزواج الشيطاني: الريع الاقطاعي والريع الجديد يمتصان مقدرات الدولة ويخضعونها لسيطرتهما. اما الاقتصاد الريعي فيموّل جهاز الدولة ويجني ارباحا طائلة تثير شهية كبار الرأسماليين في العالم. في بادىء الأمر، سددت الطبقة الوسطى وطبقة البروليتاريا الثمن الاعلى. لكن سريعاً، وجدت الطبقة البرجوازية نفسها مُلقاة جانباً. نَهَم الطبقة الريعية سيؤدي الى نهاية الطبقة البرجوازية.
فيا للعجب، شروط اللعبة التي تحكم النظام الطائفي لا تسمح لمكونات الطبقة الريعية بإلغاء بعضها البعض، انما لا تمنع اياً منها من القضاء على باقي الطبقات. ان تضخم هذا النظام سيؤدي الى نهايته. فمن المتوقع ان يصاب هذا النَهِم بنوبة قلبية.
تاريخياً، إستفادت الطبقة البرجوازية من امتيازات النظام الطائفي. الا ان هذه الاستفادة تضاءلت مؤخراً. الطبقة البرجوازية تعاني اليوم: الاقتصاد الريعي لم يلغ المنافسة فقط، انما الفساد والزبائنية واشكال اخرى من هيمنة الطبقة الريعية قضوا على الطبقة البرجوازية. تتمسك الطبقة البرجوازية بالنموذج الرأسمالي في حين ان شروط تطبيقه في لبنان منتهكة. في النظام الطائفي، لا تستطيع البرجوازية المنتجة أن تطبق النموذج الرأسمالي. وبالتالي يصبح هذا النظام عائقاً امام ازدهار البرجوازية، لذلك من مصلحتها التغيير.
هل تعي ذلك؟
هل لديها القدرة على ذلك؟
تتحمل البرجوازية مسؤوليتين: هي استفادت في البداية نسبياً من هذا النظام واستطاعت دائماً تأجيل المواجهة. ان إنوجدت رغبتها بالتغيير، كَبَتَتها. الاستفادة والتأجيل هما المسؤوليتان الأساسيتان اللتان تتحملهما. البرجوازية تعايشت مع هيمنة الطبقة الريعية. لكن الى متى؟
الطبقتان الوسطى والبروليتاريا تتحملان أيضا جزءاً من هذه المسؤولية. لتاريخه، لم تتمكنا من جمع قوى تهدف الى تسريع عملية التغيير. حتى لو كان السبب قلة الوعي السياسي، او عدم امكانية التحوّل الى قوة تغيير، او الشعور باليأس، او اي سبب آخر، فذلك لا يهم: هاتان الطبقتان سمحتا ببقاء النظام الطائفي.
للوقت ثمن. اليوم ثمن التغيير باهظ. في تسعينيات القرن الماضي كان أقل كلفة. في منتصف القرن الماضي كانت الكلفة لا تذكر. غداً الكلفة ستكون هائلة. في كل يوم يمر وفي كل لحظة تمر، تزداد كلفة التغيير ومحصوله يتأخر. كلما مرّ الوقت، ازدادت الكلفة ألماً.. والحصاد بعداً.
من الواضح ان هذا النظام ليس ابدياً. سقوطه مؤكد، لأن كل ما في التاريخ وفي الكون يتحوّل. لا شيء ثابتاً. التغيير ليس فقط ضرورة، بل هو حقيقة ويقين علمي وتاريخي.
والسؤال هو: متى وكيف وبأي كلفة سيأتي هذا التغيير؟
مفهوم الوقت (الإضاءة)
من المفيد ان نحلّل مفهوم الوقت لدى كافة الطبقات الاجتماعية. الطبقة الريعية والمهيمنة تمتلك عقارب الوقت. هي توقفه، حتى يبقى موقعها ثابتاً سرمدياً. من المهم لها ان لا يتقدم الوقت، وان لا يلاحق التاريخ ديناميكية تطوره. هدفها تجميد كل شيء قدر المستطاع. الطبقة الريعية تتقن فن اضاعة الوقت. كل اعمالها تثبت ذلك: انتخاب رئيس للجمهورية، اجراء انتخابات نيابية، وضع اصلاحات، اقرار موازنات، تكليف رئيس وزراء، تشكيل حكومة، وضع البيان الوزاري.. الخ. الطبقات الاخرى ليس لديها اي تأثير على الوقت. هي تخضع للتجميد الذي تفرضه الطبقة الريعية. الكل ينتظر، يترقب. الطبقة الريعية تنتظر مرور الوقت لتبقى هيمنتها الى الأبد. الطبقات الأخرى تنتظر اما بسبب اليأس واما لعدم قدرتها على تحريك عجلة الوقت. يكفي ان نقارن ماذا حقق العالم بعد مرور ثلاثين عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية (1945 – 1975)، وماذا حقق لبنان منذ انتهاء الحرب الاهلية (1975- 2021). ركض الوقت عندهم، وتجمد الوقت عندنا. هل هذه صدفة؟ كلا. بل ذلك متعمّد. ان هذه المعادلة مصيرية للطبقة الريعية وجريمة بحق الطبقات الآخرى. أجيال كاملة مرّت في تاريخ لبنان دون ان تُلاحظ او ان تترك اثراً. تتكيّف جميع الطبقات مع هذه المعادلة. الكل ينتظر ويعتقد ان عقارب الساعة ستدور بشكل صحيح، بفضل قوى آتية من مكان قريب أو قوى آتية من امكنة اكثر بعداً. لكن، يجب ان نعلم ان هذا “المكان الآخر”، هو ايضاً يكتفي بايقاف الوقت، طالما يخدم مصلحته. هذه ليست فقط ميزة لبنانية، بل هي اقليمية. هذا الانتظار مثير للشفقة.
عائقان اساسيان يفسران عدم استنفار كُلٍ من الطبقة البرجوازية، الطبقة الوسطى والطبقة البروليتارية:
- وعي وادراك أهمية اعادة تحريك عجلة الوقت.
- قدرتها على تحقيق ذلك.
بروز التناقضات (الأداء المسرحي)
تأخذ الازمة البنيوية حالياً، شكل ازمة اقتصادية، وتسمح برفع الغطاء عن تناقضات دفينة منذ امد طويل. اعني بـ”التناقضات” صراع المصالح بين الطبقات، وصراع المصالح داخل كل طبقة. التحليل من منطلق “الصراع الطبقي” يتيح لنا ابراز هذه التناقضات.
التناقضات بين الطبقة الريعية والطبقة البرجوازية
كما سبق وبينا اعلاه، فإن المصالح بين الطبقة الريعية والطبقة البرجوازية بدأت تتباعد. النظام الذي تستفيد منه الطبقة الريعية لبسط هيمنتها، هو العائق الاساسي (وسيبقى) امام تطوّر مصالح الطبقة البرجوازية. هذه الأخيرة لم تعد قادرة على نثر ادواتها الرأسمالية داخل الاقتصاد المنتج، كون الطبقة الريعية تدمّر بطريقة ممنهجة كل مستلزمات التطور الطبيعي للرأسمالية.
تعتقد الطبقة البرحوازية ان بامكانها التعايش مع النظام القائم وايجاد مكان لها. الا ان هذا وهم. على الطبقة البرجوازية ان تعي بأنها تواجه مشكلة بنيوية. النظام الحالي في جيناته، يمنع هكذا تطوّر. فالطبقة البرجوازية هي العدو الطبقي الاكثر خطراً على هذا النظام. من ناحية، يمنع الاقتصاد الريعي تطوّر الاقتصاد الرأسمالي المنتج، ومن ناحية اخرى، لا تسمح الطبقة الريعية باضعاف هيمنتها لمصلحة الطبقة البرجوازية. على الطبقة البرجوازية ان تدرك وتقتنع أن لا مجال لازدهارها الا بعد ان تدّمر هذا النظام. اصلاح النظام لا يُنقذ الطبقة البرجوازية بل يؤجل الاستحقاق. تدميره فقط يُنقذها. هل تعي الطبقة البرحوازية ذلك؟ هل لديها الارادة اللازمة لذلك؟ هل لديها القدرة على ذلك؟
التناقضات داخل الطبقة الريعية
تناقضان اساسيان يبرزان داخل الطبقة الريعية: الصراعات وتضارب المصالح بين الاقطاع الريعي والاقتصاد الريعي. الازمة الحالية والتخبّط الذي عاشته الطبقة الريعية منذ أواخر العام 2019، برهنا عن حدّة الصراع بين الاقطاع الريعي والاقتصاد الريعي. كاد هذا التزاوج ان ينكسر، فالتوترات بين الزوجين تؤدي الى تقاذف المسؤوليات. الازمة الحالية هزّت اركان النظام، وتكاد تهدد هيمنة الطبقة الريعية. من يتحمّل المسؤولية؟ الاقتصاد الريعي يتهم سياسات الدولة، والاقطاع الريعي يلقي اللوم على فئة الاقتصاد الريعي ويشير الى الارباح الهائلة التي جنتها. الكلٌ يرفع المسؤولية عن نفسه، انما في الواقع المسؤولية المشتركة مثبتة: لا وجود لاحد دون الآخر. لكن، ها هي التفسخات قد ظهرت.
الخضوع وضرورة البقاء على قيد الحياة
هنالك صراع بين الطبقة الريعية وطبقة البروليتاريا، مبني على اسس اقتصادية واجتماعية. نظرياً، تقضي مصلحة طبقة البروليتاريا بالانتفاض على الطبقة الريعية المسؤولة عن اخضاعها وحجرها، ولكنها عملياً في حالة شلل. وضعها الاقتصادي والاجتماعي يحجب وعيها السياسي (لكن الى متى؟). ان المدى القصير (الضغط المعيشي اليومي) يطغى على المدى الطويل (نضوج الوعي السياسي)، لذلك تنتظر. فقط ولاءها للهيمنة الريعية، يعطيها فترة سماح للبقاء على قيد الحياة. هل تعي ذلك؟ وهل تعي ذلك سياسياً؟
جزء بسيط من هذه الطبقة يعي ذلك. بينما الاكثرية الساحقة غارقة في هشاشة حياتها اليومية، في حاجاتها الطارئة، التي تلبيها لها جزئياً الطبقة الريعية مقابل خضوعها. ومن الملفت للإنتباه انه غالباً، ومن دون ان تدري، لا تقبل الطبقة البروليتارية فقط بهذه الهيمنة التي هي سبب سوء حالتها، بل تضع ايضا نفسها درعاً واقياً لحماية الطبقة الريعية، تحت شعارات متعددة هي في العمق شعار واحد: الدين، الطائفة، المذهب، العشيرة، العائلة. نادراً ما تنخرط هذه الطبقة بالدفاع عن الاملاك العامة او عن الدولة او عن معنى المواطنة أو عن مصلحتها الطبقية. في الظاهر هذا العماء الايديولوجي ثابت أبدي، لكن التاريخ يبرهن لنا عكس ذلك. يتبلور الوعي السياسي لدى طبقة البروليتاريا عندما تعي مصالحها الطبقية وتعمل لاجلها، وهو ضرورة لانخراطها في النضال من اجل التغيير.
بإختصار: من الواضح ان مصالح الطبقة الريعية والطبقة البروليتارية متعارضة تماماً. الا ان الطبقة البروليتارية لا تعمل وفق مصلحتها النظرية، فهي تقف في الصف الاول للدفاع عن الطبقة الريعية لضمان بقاء جزء منها على قيد الحياة. حتى لو كان من الضروري العمل على تنمية الوعي السياسي لدى الطبقة البروليتارية الا انه، بمعزل عن هذا الوعي، ستكون هذه الطبقة أول من ينقضّ على الطبقة الريعية حالما تبدأ بالسقوط.
التناقضات الداخلية والخارجية
إضافة العامل الدولي على التحليل يغنيه. في الواقع، القوى الجيوسياسية الاقليمية والدولية هي لاعب أساسي في لعبة الصراع الطبقي. علينا ان ندرك ان النظام الحالي مركّب بشكل متقن (على القياس، tailor – made) ليخدم علاقات التبعية للقوى الخارجية. تاريخياً هذه القوى هي من بنت النظام القائم وهي تسعى لتعميمه على مستوى المنطقة نتيجة فعاليته الكبيرة. هو يسمح لها بالامساك بأربعة خيوط تحرّك من خلالها الطبقات الاجتماعية كدمى:
- الخيط الأول: دعم هيمنة الطبقة الريعية، والمحافظة على توازن التناقضات داخل هذه الطبقة من خلال تدخلاتها العسكرية والاقتصادية والسياسية.
- الخيط الثاني: طموح الطبقة البرجوازية للوصول الى مثالية الرأسمالية. فهي تسعى الى هكذا نموذج. تَجلّ الطبقة البرجوازية مثالية الرأسمالية التي تلوح لها من بعيد، وهذا ما يعميها امام واقعها التاريخي: للقوى الخارجية مصلحة صارخة بديمومة النظام الريعي لانه يمنع تطوّر الطبقة البرجوازية.
- الخيط الثالث: تأقلم الطبقة الوسطى مع السكون والجمود، مما يسمح ببقاء مصالح القوى الخارجية ناشطة. وفي هذا السياق، من المفيد دراسة دور الاعلام ووسائل التواصل الإجتماعي في تكوين “الرأي العام”، الذي يشجع على الجمود. عندما نكتشف من يملك ويسيطر على وسائل الاعلام، تصبح لهذه الدراسة اهمية أكبر. دون ان تدري، جمود الطبقة الوسطى يصب في مصلحة القوى الخارجية (لاعتقادها ان ما تفعله هو الصحيح). مثلاً، الهجرة هي احدى استراتيجياتها المعيشية. وهنا لا نقصد الهجرة العائلية انما هجرة الشباب فقط. ان الطبقة الوسطى تنزف. هجرة الشباب، وعدم عودة المتخرجين منهم، يؤديان الى نتيجتين: استحالة تكوين قوة كفؤة ومتعلمة في الداخل تطمح الى التغيير. واستفادة الدول من طاقات شبابنا لتغذية رأسمالها البشري. بهذه الطريقة يستمر الجمود.
- الخيط الرابع: كما في كل الحروب، تستغل اشلاء الطبقة البروليتارية، فهذه الاشلاء رخيصة، وسهلة الترويض، ومتخمة بمعتقدات متطرفة مبنية على قواعد كاذبة، او على قواعد دينية. الفقر لا يقتل، لكن اسغلاله قاتل.
تحمل الطبقة البروليتارية العنف في داخلها. في الواقع أي ألم إذا لم يُعالج جيداً، يغيّب العقلانية ويؤدي إلى تبرير اعمال العنف الحتمية. خلافاً لعنف القمع الذي تحمله منذ عشرات السنين، إنه عنف خفي لا يُرى بالعين المجردة. عنف بطيء وطويل الأمد. عنف في الظل يحمل شراسة الظلم
المشهد الثالث: الإستنتاجات
لا تطمح القوى الجيوسياسية الاقليمية والدولية الى التغيير. تحاول ان تلعب داخل هذا النظام لزعزعته، او لاعادة التوازنات في ما بين القوى السياسية في داخله. الا انها لا تهدف الى التغيير الجذري لهذا النظام، لان هذا الأخير يؤمن لها وجودها. اذا حصل التغيير يكون فقط للحفاظ على سيطرتها.
الاستنتاج الاول: “الآخرون” الذين لا يريدون تغيير الواقع الذي يسمح لهم بالتدخل الدائم. قد يريد هؤلاء تحسينه، لكن مصلحتهم تقضي بإضعاف الدولة وقطع خطوط التواصل المباشر (دون وسيط) بين الشعب والدولة.
من الجلي ان الطبقة الريعية لا تطمح الى التغيير. انها تعتاش من الجمود. هدفها ابقاء سيطرتها وهيمنتها بأي ثمن كان، وبأي وسيلة كانت. هي لا تجيد أي شيء، سوى ذلك. انتاجها الوحيد هو السيطرة. انها تسعى لإستمرار هيمنتها الابدية. وهي تفرض سيطرتها على كامل مفاصل الدولة. لكن بمفردها لا تستطيع انجاز أي شيء، ولذلك تستغيث بالقوى الخارجية عندما تشعر بأن هيمنتها في خطر. وهذه القوى الخارجية تسارع إلى التدخل لمصلحة الطبقة الريعية.
الاستنتاج الثاني: الطبقة الريعية لا تريد التغيير، وفي الاوقات الحرجة ينقذها “الآخرون”.
الاستنتاج الثالث: الطبقة الريعية هي الطبقة الوحيدة، التي لا تخسر شيئاً وسط الحريق. بإمكانها إشعاله وهي تقوم بذلك بالتدرج: تستهدف اولاً قوى التغيير، تؤجج الصراع الطائفي وتخفي الصراع الطبقي، وقبل اشعالها للنيران تستدعي القوى الخارجية.
بناءً على ما سبق، نظرياً، هناك ثلاث طبقات، لها مصلحة في الانخراط في عملية التغيير: الطبقة البرجوازية، الطبقة الوسطى والطبقة البروليتارية.
الاستنتاج الرابع: الطبقات الثلاث التي تطمح نظرياً الى التغيير هي: الطبقة البرجوازية، الطبقة الوسطى والطبقة البروليتارية. بناء جبهة موحدة، ولو كانت مؤقتة، تصبح ضرورة تاريخية.
أمام الطبقة البرجوازية عائق أساسي يمنعها من فرد اجنحتها: النظام الحالي.
الاستنتاج الخامس: يجب على الطبقة البرجوازية الانخراط في عملية التغيير الجذري للنظام. ان اصلاح النظام الحالي لا يسمح بازدهارها.
كيفية تعاطي الطبقات الاجتماعية مع مفهوم الوقت يدل على ان اضاعة الوقت يؤثر فقط على القوى التي تريد التغيير.
الاستنتاج السادس: للوقت كلفة، الطبقات التي تطمح نظرياً للتغيير تدفع ثمن هذه الكلفة. الموت هو في ان لا تقوم باي فعل.
ان الطبقة الوسطى هي الاكثر استعداداً لحمل شعلة التغيير لكن الهجرة تنخر عظامها. من ناحية، الهجرة – خاصة لدى الشباب – هي عامل فعّال لتحييد القوى الحية التي تريد التغيير وهي التي تحمل الادوات الضرورية لتحقيقه. ومن ناحية أخرى، الهجرة تغذي الاقتصاد الريعي (عن طريق تشجيع الاستهلاك من خلال التحويلات المالية، فرملة الاقتصاد المنتج بتشجيع الاستهلاك مقابل الاستثمار، تقليص عرض المهارات في سوق العمل.. الخ). يجب الإشارة الى انه خلال الازمات، تصيب ظاهرة الهجرة الطبقة البرجوازية ايضاً، وتؤدي الى نفس النتائج. الهجرة لدى الطبقة البروليتارية تأخذ شكلاً مغايراً تماماً، فهي غير شرعية وقاتلة.
الاستنتاج السابع: الهجرة تديم النظام. الطبقة الريعية تشجعها لتحد من النضال وتفرغ المجتمع من غير المرغوب بهم.
تحمل الطبقة البروليتارية العنف في داخلها. في الواقع أي ألم اذا لم يُعالج جيداً، يغيّب العقلانية ويؤدي الى تبرير اعمال العنف الحتمية. خلافاً لعنف القمع الذي تحمله منذ عشرات السنين، انه عنف خفي لا يُرى بالعين المجردة. عنف بطيء وطويل الأمد. عنف في الظل يحمل شراسة الظلم. في المقابل، عُنفُ تحررها سيكون صاعقاً (وسريعاً وبالتأكيد مرئياً). يجب ان لا تؤدي رؤيته الى صدمة في رؤوس الكثيرين ومن الضروري فهمه. مثل النابض المضغوط عندما يقفز، عنف تحررها سيعيد نفس طاقة القمع المتراكمة بداخلها. لقد تحملت هذه الطبقة عنف الظل، سترده عنفاً ظاهراً. تحملت عنفاً بطيئاً وطويل الامد، سترده كالبرق. تحملت عنفاً ممنهجاً ومنظماً، قد ترده عنفاً عشوائياً.
الاستنتاج الثامن: لا شيء يفنى، كل شيء يتحوّل، حتى الطاقة العنيفة للقمع. الطبقة البروليتارية، هي بالتأكيد النابض الذي سيقفز عاجلاً أم أجلاً. العنف الذي امتصته، ستعيده حتماً. هل يمكن توجيه هذا العنف؟ العنف هو شرارة تاريخية: يستطيع ان يُسرع عملية التغيير، او ان يحرق المختبر الاجتماعي.
الاستنتاج التاسع: هيمنة الطبقة الريعية هي بمثابة الجريمة. النظام السياسي الحالي خلق دولة مجرمة تغتال شعبها عن سابق تصور وتصميم.
هذا البحث يبيّن ان الازمة الحالية المدوّنة في سجل الازمات الدورية، هي انعكاس لازمة نظام، حتى ولو اتخذت شكل ازمة ظرفية.
الاستنتاج العاشر: الجواب على ازمة بنيوية، يكمن بالضرورة في عملية تغيير جذري للنظام القائم وليس اصلاحه او اعادة توازنه الطائفي.
خلف الستارة
الطبقة الريعية تعيش.
الطبقة البرجوازية تعتقد انها تعيش.
الطبقة الوسطى تسعى للعيش.
الطبقة البروليتارية تقاتل لتبقى على قيد الحياة.
الحياة الفردية هشّة. عندما تصبح قوة جماعية تقهر الموت.
امامنا فرصة ان نعيش لحظة تاريخية، نصنع بها تاريخنا الخاص. اننا في قلب العاصفة، فلنفعل. لنستغل هذه الفرصة. علينا ان لا نخاف من الفشل. دعونا نجرؤ واكثر.
(*) كُتِبَ هذا النص باللغة الفرنسية وترجمه الى اللغة العربية حسام ملاعب ورضا حمدان.
مصادر ومراجع وملاحظات
[1] هذا التقسيم الطبقي يحتاج الى المزيد من الابحاث. يستطيع الباحث اثباته من خلال مؤشرات اقتصادية واجتماعية. قد يكون من اللازم ايضاً ان نبحث في البنية الداخلية لكل طبقة. كما يمكن للباحث ان يستعمل في تحليله للطبقات الاجتماعية عدة مقاربات، منها: المقاربة التاريخية، المقاربة الجغرافية، الطاقة والثروات الطبيعية، الديموغرافيا (الهجرة، النزوح السكاني – اللاجئين- اليد العاملة الاجنبية… الخ). مع الإشارة إلى أن عامل الوقت الضاغط في عملية التغيير شجعني على الاسراع في نشر هذا البحث بالرغم من عدم اكتمال هذه المقاربات البحثية.
[2] مهدي عامل “في الدولة الطائفية”، دار الفارابي، 1986.
[3] تتوزع الودائع في المصارف اللبنانية على الشكل التالي:1% من المودعين يستحوذون على 46% من اجمالي الودائع، و99% من المودعين يتقاسمون النصف الاخر من الودائع. يشكّل الـ 1% من المودعين 22 الف حساب مصرفي من أصل 2.8 مليون حساب مصرفي. هنالك دراسات أخرى حول تركّز المداخيل والثروات، جميعها تؤدي الى النتيجة نفسها.
[4] يفيد تقرير “ممارسة انشطة الاعمال”، “Doing Business” الذي يضعه البنك الدولي سنوياً أن لبنان جاء في العام 2019 في المركز 143 من اصل 190 دولة، في حين كان في العام 2010 في المركز 103.
[5] يلاحظ داخل المهن الحرة أن ظاهرة الفقر موجودة ولو بنسبة غير قليلة. في لبنان هنالك اطباء ومهندسون ومحامون يعيشون تحت خط الفقر. الذي ينتمي الى الطبقة البرجوازية هو من يمتلك وسائل الانتاج ويجب أن يكون محصنا بشبكة علاقات اجتماعية. ان دراسة وممارسة هذه المهن الحرة، من دون امتلاك شبكة علاقات، غير كافية لانتماء هؤلاء الى الطبقة البرجوازية.
[6] سنداً لحسابات اولية يُقدر حجم الطبقة البرجوازية بما لا يتعدى 15% من عدد سكان لبنان.
[7] حصة “العمل” من اجمالي الناتج المحلي انخفض كثيراً خلال العقود الأخيرة.
[8] هذه التقديرات لا تأخذ في الاعتبار تأثيرات الازمات المختلفة التي يواجهها لبنان منذ العام 2019.
[9] من الممكن أن تخرج بعض العائلات من اللعبة الا انه من غير الممكن ان يخرج مكوّن بأكمله.
[10] ترتيب الخلاصات وتداخلها أحياناً لا يعكس اهميتها.