شكّلت لحظة اغتيال الجنرال قاسم سليماني وابو مهدي المهندس مطلع كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٠ نقطة تحول عميقة في حاضر العراق. أراد الأميركيون من خلال الإغتيال هذا، وعلى أرض العراق بالذات، إصابة أكثر من هدف في آن معًا:
-الأول، ضرب العقل السياسي لمشروع التمدد الإيراني في المنطقة، وهو مشروع لم يكن ليبلغ ما بلغه، لولا إزاحة صدام حسين وإنهيار البوابة الشرقية للعالم العربي.
-الثاني، إعادة التوازن إلى الساحة العراقية بعدما مالت دفة الأمور لمصلحة الإيرانيين، سياسيًا وأمنيًا وعسكريًا.
بعد أحداث أيلول/ سبتمبر ٢٠٠١، سافر ريان كروكر الديبلوماسي الأميركي المخضرم شرق أوسطيًا مع عدد من المسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية للقاء مسؤولين ايرانيين (من “مكتب الحج قاسم” سليماني) في جنيف. خلال الإجتماع، سلّم الجانب الإيراني الأميركيين خرائط تحدد مواقع لحركة “طالبان” في أفغانستان، غير معروفة للأميركيين. بالمقابل، سلّم الأميركيون للإيرانيين اسماء قادة ينتمون إلى تنظيم “القاعدة” يقيمون على الأراضي الإيرانية. التقى الطرفان على عدو مشترك في افغانستان هو “طالبان”. اجتاح الأميركيون افغانستان، واستمر التعاون الثنائي حتى جاء موعد خطاب حالة الإتحاد بعد سنة وأعلن فيه الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش أن ايران إحدى الدول المكونة لـ”محور الشر”.
“كلمة واحدة، في خطاب واحد، تغيّر مجرى التاريخ”. قالها ريان كروكر وكان قد اصبح في مطلع ٢٠٠٢ سفيرًا اميركيًا في كابول. قبل انهيار المباحثات بين طهران وواشنطن، فاتح كروكر الإيرانيين في احتمال ضرب او اجتياح العراق، فأجابه ممثل الجانب الإيراني ان طهران لا تحبذ مثل هذا الأمر، وتابع ان ملف العراق مثل ملف افغانستان من ضمن مسؤوليات “الحج قاسم” (سليماني).
بعد إطاحة الأميركيين بنظام صدام حسين في العراق، كلفت إدارة بوش الإبن الديبلوماسي كروكر بمهمة إنشاء مجلس الحكم الإنتقالي في بغداد. إقتضى الأمر تجديد التواصل مع الإيرانيين حيث توافق الجانبان، بشكل غير مباشر، على اسماء المرشحين الشيعة للمجلس، فكانت مشاورات المجلس الإنتقالي حينها بابًا لعودة المفاوضات الأميركية الايرانية في العام ٢٠٠٣.
بالتزامن مع تعثر الأداء الأميركي في العراق عام ٢٠٠٤، أعطى الإيرانيون الضوء الأخضر للبدء بتنفيذ عمليات عسكرية ضد القوات الأميركية، حيث لعب حزب الله اللبناني، ممثلًا بالحاج عماد مغنية، دورًا محوريًا، في تأسيس كتائب حزب الله (العراق) وتدريبها وتسليحها والتحكم بمنسوب عملياتها، ولم تكن سوريا بعيدة أبدًا عن القرار الإيراني، بدليل المواقف التي أطلقها بشار الأسد، وقتذاك، مع كل من فضائية “الجزيرة” وجريدة “السفير” اللبنانية، وإعتبر فيها أن المقاومة العراقية ضد الإحتلال الأميركي “مشروعة”.
“كلمة واحدة، في خطاب واحد، تغيّر مجرى التاريخ”. قالها ريان كروكر وكان قد اصبح في مطلع ٢٠٠٢ سفيرًا اميركيًا في كابول. قبل انهيار المباحثات بين طهران وواشنطن، فاتح كروكر الإيرانيين في احتمال ضرب او اجتياح العراق، فأجابه ممثل الجانب الإيراني ان طهران لا تحبذ مثل هذا الأمر
منذ العام 2004 وحتى العام 2020 (16 سنة)، توالى على رئاسة الوزراء في العراق كل من: اياد علاوي، ابراهيم الجعفري، نوري المالكي، حيدر العبادي، عادل عبد المهدي ومصطفى الكاظمي. السؤال الذي يطرح نفسه يتصل بالدرو الذي يلعبه الكاظمي حاليًا، تعبيرًا عما يُشكّله من تقاطع أميركي ـ إيراني.
ومثلما هناك سابع من أيار/ مايو لبناني، أيضًا هناك مثيله العراقي في العام 2020، وهو التاريخ الذي توّج وصول مصطفى مشتت الغريباوي (المعروف بالكاظمي) إلى رئاسة الوزراء في بلاد الرافدين.
سلسلة أحداث سبقت وصول الكاظمي، أبرزها إندلاع الحراك التشريني (2019) في العراق؛ إغتيال سليماني والمهندس حيث بلغ الإشتباك الأميركي الإيراني ذروته على أرض العراق؛ إنسداد سياسي داخلي عبّر عنه تكليف أكثر من شخصية برئاسة الحكومة قبل أن تفضي إلى الكاظمي.
من يعرف الكاظمي يُدرك أن الرجل لم يُفاجأ بالتكليف. كان قد إلتقى بالجنرال سليماني في بغداد قبيل إغتيال الأخير بأسابيع قليلة، بحضور القيادي في حزب الله اللبناني الشيخ محمد كوثراني، وإلتقط أول إشارة لإنتقاله من إدارة المخابرات إلى إدارة توازنات العراق الدقيقة، حيث لم يعد بإستطاعة احد تأليف حكومة من دون مراعاة مصالح كل من إيران واميركا في الوقت عينه. معادلة ادركها الكاظمي سريعًا وتطلبت منه أن يمسك العصا من الوسط في مرحلة إنتقالية ستفضي حتمًا إلى مرحلة جديدة مستقبلًا.
تدرج الصحافي والناشط الحقوقي ومدير المخابرات في المسؤوليات بشكل اتاح له إكتساب تجربة غنية توّجها بشبكة علاقات مع قادة أجهزة إستخباراتية عربية وإقليمية ودولية، فضلًا عن تحويل جهاز المخابرات في بلاده إلى منصة وطنية عراقية يتوحد تحت لوائها الجهاز الأكثر تواصلًا مع الخارج والأكثر متابعة للداخل. فتح الكاظمي كل القنوات الممكنة مع ايران ذات الحضور الطاغي في العراق، كما مع السعودية والإمارات وتركيا ومصر والأردن وكذلك مع الولايات المتحدة التي تمتلك تأثيرًا قويًا جدًا في الساحة العراقية.
وجد الكاظمي سلسلة من التحديات تنتظره. أولوية تخطي الأزمة الإقتصادية والمالية، محاربة الفساد المستشري في كل شرايين الدولة العراقية، مواجهة وباء كورونا والقضاء على فلول تنظيم “داعش” في مواجهة محاولات إعادة تعويمه عراقيًا وإقليميًا.
يُحسب للكاظمي داخليًا انه يحظى بدعم من الجيش النظامي العراقي بكافة تشكيلاته ورتبه، ويحسب له انه استطاع السيطرة على ربع المعابر الحدودية، ولا سيما الشمالية، بالتعاون مع الأكراد والأميركيين. ويحسب له انه سجل بعض التقدم في الحرب على “داعش”، ويحسب له التخفف من استعمال القمع الى حدٍ مقبول ويحسب له العمل على رفع سعر صرف الدولار (ولو ان البعض يحسبها عليه) ما اتاح للبنك المركزي توفير اكثر من 4.5 مليار دولار خلال اشهر ثلاثة، فضلا عن إقرار موازنة السنة الجديدة وإطلاق الحرب ضد الفساد.
الرافعة الأساس للكاظمي هي الولايات المتحدة من جهة وإيران من جهة ثانية. كلما إقتربت هاتان الدولتان من بعضهما البعض، إتسعت هوامش الكاظمي وكلما تباعدتا ضاقت الهوامش وإذا إصطدمتا تكون نهايته الأكيدة
أما ما يحسب عليه، فهو عدم القدرة على اعادة اعمار المناطق المهدمة في محافظة نينوى وفي الموصل تحديدًا وعدم القدرة على اقناع الأثرياء في هذه البيئة بالعودة الى العراق والإستثمار في مناطقهم التي تعرضت للنهب والدمار. ويحسب عليه تفلت بعض فصائل “الحشد” وقدرتها على ضرب امن بغداد والمنطقة الخضراء فيها. ويُحسب عليه عدم وقف مسلسل إغتيال الناشطين وعدم إماطة اللثام عن منفذي الإغتيالات السابقة.
ويُحسب عليه فشله في اعادة الربط الكهربائي العربي برغم توقيع اتفاق حوله عام ٢٠١٩ واستمرار ايران بالسيطرة على تزويد العراق بالكهرباء اضافة الى سيطرتها على بيع منتجاتها للسوق العراقية. كما يُحسب عليه أنه لم يضع يده على مكامن الفساد الكبرى وأنه أهمل قضية تعطيش العراق.
ويحسب عليه اخيرًا عدم نجاحه في تشجيع وتحفيز وتحرير واطلاق القطاع الخاص وتاليًا تأمين فرص عمل للشباب العراقي في بلد يمتاز بثروات طبيعية هائلة، غير معروف اين تذهب مكاسبها، وبلدٌ كان زراعيًا وصناعيًا الى حد مقبول جدًا. ويحسب عليه ترهل القطاع العام والذي تبلغ كلفته رواتبه السنوية رقمًا خياليًا يلامس 60 مليار دولار.
انتقل الكاظمي من العراق الى الإقليم لممارسة أدوار ووساطات كبيرة بين مصر وتركيا وبين السعودية وايران وكذلك الإمارات والأردن ومصر مع ايران ايضًا، لكن ليس للعراق أية قدرة حقيقية على ممارسة الضغوط على اي من الأطراف الإقليمية. الرافعة الأساس للكاظمي هي الولايات المتحدة من جهة وإيران من جهة ثانية. كلما إقتربت هاتان الدولتان من بعضهما البعض، إتسعت هوامش الكاظمي وكلما تباعدتا ضاقت الهوامش وإذا إصطدمتا تكون نهايته الأكيدة.
اراد الكاظمي تحويل العراق من نقطة صدام اقليمي إلى منصة تواصل. اول الغيث جاء بعد زيارته إلى كل من السعودية والإمارات، في مارس/ آذار وأبريل/ نيسان الماضيين؛ بحثا عن مساعدات مالية، لتخفيف العجز المتوقع لميزانية العراق والبالغ نحو 20 مليار دولار هذا العام، أو الحيلولة دون إجراء تخفيض آخر لقيمة العملة الى ١٦٠٠ دينار للدولار بدلًا من ١٤٥٠ الآن بعدما كان ١٢٠٠ قبل اربعة اشهر لكن ما حصل عليه الكاظمي هو التزام البلدين الخليجيين بضخ استثمارات في العراق بمعدل ثلاثة مليارات دولار لكل منهما، على ان تستهدف تلك الإستثمارات بشكل اساس قطاع الطاقة المتجددة، وهي اتفاقات يحتاج تفعيلها وضمان تنفيذها، الى حماية عراقية لتلك الإستثمارات بقوانين وقضاء حر ومحيط مستقر. ويعد مبلغ الـستة مليارات دولار محاولة لفتح الباب أمام الأعمال التجارية الخاصة بين العراق وبين هذين البلدين الخليجيين، من خلال شركتي “أرامكو” السعودية و”بترول أبو ظبي الوطنية”.
امام الكاظمي العازف عن خوض الإنتخابات النيابية المقدر اجراؤها في تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢١، مرتكزًا الى تحالفات داخلية ودعم اقليمي ودولي، فرصة للعودة الى رئاسة الحكومة بعد الإنتخابات؛
نعم، امامه فرصة تنشيط العلاقات مع العرب من خلال تشجيعهم على زيادة استثماراتهم في القطاعات كافًة؛
فرصة لتطوير حقول النفط والغاز حتى يتحرر العراق على مستوى الإنتاج.
الأهم، ان يجد الكاظمي التوازن بين القطاعين العام والخاص العراقيين لإستعادة المبادرة الإقتصادية وزيادة النمو عبر قطاع خاص يكون عامل ازدهار حقيقي، عراقي الهوى والهوية.
الأهم من ذلك أن يسهم تفعيل دور العراق الإقليمي في حفظ مناعته الداخلية وتثبيتها وصولًا إلى تحقيق الإستقرار.. أي خيار غير ذلك، يكون إستنساخًا للتجربة اللبنانية الراهنة، حيث يمارس اللبنانيون سادية تدمير بلدهم فيما المنطقة تقترب من لحظة الصفقات والتفاهمات الكبرى.