تعارك الشعب الفلسطيني مع الانتداب والاحتلال الصهيوني. تحديات طبعت مصائر أجيال بعد أجيال. الطفل ولد شاباً، والشاب كبر ليكون شهيداً أو أسيراً أو مشتتاً خارج تراب فلسطين. شعب لم يهدأ. ولم يدع غاصب أرضه أن يطمئن لتهدئة. الشعب الفلسطيني كابد الاقتلاع من بيوته، وتجذّر في أرضه كأشجار زيتونها. إنه الشعب الذي ينمو من الجذور.
ولكن، ثمة محطات ثلاث تدخل في إطار التحقيب الزمني والعملي مصنوعة باليد الفلسطينية وممهورة بنتائجها، بعيداً عن شعاع دوائر تأثيرات العوامل الخارجية.
في مرحلة أول الرصاص كانت ولادة الثورة الفلسطينية – الكفاح المسلح العام 1965، وامتدت إلى العام 1982 إثر اجتياح اسرائيل لبنان وخروج قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ومقاتليها من لبنان.
حقبة أول الرصاص، أشعلت النفوس في فلسطينياً وعربياً، واستقطبت مؤيدين ومنتمين من دول وجنسيات عديدة وأحرزت فيها منظمة التحرير موقعاً متقدماً على الصعيد العالمي، كممثل شرعي وحيد، وباتت تنافس أنظمة وحكومات وحكاّماً، وربما حملت في طيّات هذا التنافس أسباب ضعفها وضبابية مواقفها المتماوجة ما بين الثورة والديبلوماسية، ما بين الكفاح المسلح وسلاح الكفاح.
في حقبة أول الرصاص، وقد امتدت لأكثر من عقدين ونصف العقد، فرضت قضية فلسطين حضورها على الأجندات الدولية. ونالت من التأييد وتقديم التبرعات والأموال الطائلة ما يوازي حجم موازنة دولة. وقدمت من الشهداء، والعمليات الاستشهادية النوعية في داخل فلسطين المحتلة ما لا يمكن لذاكرة أن تتجاهله. كما قدمت من الشهداء القادة بمن فيهم مؤسسها ومطلق رصاصها الشهيد ياسر عرفات (أبو عمار). وتربعّت على عرش القلوب والأفئدة. وطوّبت تلك السنوات باسمها: مرحلة الثورة الفلسطينية.
وبعيداً عن مناقشة الأخطاء والخطايا، والدعسات الناقصة، وتلك الملتبسة إلى حدود الشبهات في الحديث عن مرحلة أول الرصاص، سواء في التعديلات التي أدخلتها منظمة التحرير الفلسطينية على ميثاقها الداخلي لجهة تغليب منطق التسوية على حساب العمل المقاوم، أو في حروبها الجانبية، ظالمة كانت أم مظلومة (نموذج لبنان والاردن)، أو في سعيها للدخول في أية تسوية مهما كانت طبيعتها، فكانت اتفاقية أوسلو حبل المشنقة الذي وضعته قيادة مرحلة أول الرصاص على رقبتها، ورقاب القضية. لكن، وبالرغم من كل تلك الملاحظات وهي كثيرة ولا مجال هنا لتعدادها سلباً وإيجاباً، فإن مرحلة من تاريخ الشعب الفلسطيني مختومة على عنوان أول الرصاص.
غير أن أخطر ما أطاح بمرحلة أول الرصاص تلك المسافة التي تفاقمت وتجلّت في تعاظم تضحيات الشعب الفلسطيني بأكثر مما استطاعت قيادته أن تتناغم مع تلك التضحيات. كان التناقض واضحاً بين منطق الثورة لدى الشعب وقدرته على العطاء والصبر والاحتمال، وبين خطط قيادته، أو بالأحرى خطط قائدها الفردية البعيدة عن الثبات، واستراتيجية النفس الطويل. لقد أضاعت القيادة تضحيات شعبها.
الشعب الفلسطيني عظيم بما يفوق التصور والخيال. والحاجة إلى قيادة وطنية جامعة وشفافة بعد مرحلة أول الصواريخ لا بد أنها ستكون الانتصار الأقوى في معركة السلاح
إنطلقت مرحلة أول الحجارة في 9 كانون أول/ ديسمبر 1987 وعلى أرض فلسطين المحتلة لتشعل من جديد لهب القضية الفسطينية، وتعيد فلسطين إلى الخارطة الدولية، وتفرض مصطلح الانتفاضة بكل اللغات. انتفاضة الحجارة أذهلت العالم، واحتلت الخبر الأول في وسائل الاعلام العالمية المؤيدة والعدوة. وقدّمت من التجارب ما تنحني له الجباه.لاولم تبخل بشهدائها وأسراها وسرّية عملها وأنشطتها. وتقاسمت فتات خبزها ومؤونة أيام راشقي حجارتها بوجه حاملي أعتى الأسلحة. (لمن يرغب بمعرفة تفاصيل دقيقة عن هذه التجربة التي استمرت من كانون أول/ ديسمبر 1987 إلى 1988 و1989 أنصحه بقراءة كتاب “انتفاضة 1987 – تحوُّل شعب” الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية – بيروت).
لم تكن مرحلة أول الحجارة بعيدة عما وصلت إليه مرحلة أول الرصاص وذلك عندما وقعت في قبضة قيادة منظمة التحرير، أو – بالأحرى قيادة العمل الفردي – لأنه وفي المرحلتين (أول الرصاص وأول الحجارة) كان منطق التسويات لدى القيادة قد أضحى السلوك الأثير لديها بمعزل عن خيارات أخرى. وانتهت انتفاضة الحجارة على أبواب وعود مؤتمر مدريد للسلام ومذبحه العام 1991. وذهبت التضحيات أدراج اتفاقية أوسلو وما ألحقته من كوارث على الشعب الفلسطيني، حتى بدا وكأنه يعيش مرحلة هجينية، فلا هو ثورة ولا هو سلطة، لا هو دولة مستقلة ولا هو دولة تحت الاحتلال.
وهكذا أضاعت القيادة تضحيات شعبها مجدداً.
مرحلة جديدة يعيشها الشعب الفلسطيني، وعليها عيون العالم، وهي مرحلة أول الصواريخ.
أول الصواريخ حقبة جديدة ومفصلية في أدوات النضال الفلسطيني على طريق تحرير فلسطين وإنهاء الاحتلال الصهيوني. تفجّرت في حي الشيخ جراح في القدس، وساندتها صواريخ غزة، فكانت انتفاضة وتحولت إلى معركة سيف القدس. معركة الصواريخ قلبت قواعد الاشتباك، ولعلع أزيزها في المعادلات العسكرية الاسرائيلية.
في انتفاضة حي الشيخ جراح اشتعلت جوارح الشعب الفلسطيني العاشق لتقديم التضحيات. توحّد باحساس الفداء للقضية الواحدة. داس على تقسيمات جغرافية فرضها الاحتلال والاختلال بقياس النتائج لممارسات قيادية خاطئة، فانمحت التقسيمات ما بين غزة والضفة وفلسطينيي العام 1948. صارت فلسطين كل فلسطين. وصار الشعب الفلسطيني شعباً واحداً.
في مرحلة أول الصواريخ، تناغمت القيادة والقضية مع قدرة الناس على التضحيات، لكن، وبكل قلق، علينا أن نتوجس ممن سيعمل على تفتيت إمكانية قيام قيادة وطنية موحدة تؤتي ثمار وحدتها بالمزيد من حقوق الشعب الفلسطيني لإنهاء الاحتلال. وما صورة الانقسامات والمنقسمين، وسذاجة المراهنين على سلام وتعايش، وسماجة المتفقهيّن بجدوى التفاوض والتحاور، إلا دليل على هذا القلق وتلك الخشية.
الشعب الفلسطيني عظيم بما يفوق التصور والخيال. والحاجة إلى قيادة وطنية جامعة وشفافة بعد مرحلة أول الصواريخ لا بد أنها ستكون الانتصار الأقوى في معركة السلاح.