أما وأننا نُحيي ذكرى التحرير الحادية والعشرين، فذلك يتطلب منّا قدراً من الموضوعية للوقوف على حقيقة ما نحن فيه والأسباب التي آلت إلى ذلك، وهل ثمة مسؤولية تقع على عاتق المقاومة؟
بادىء ذي بدء، ثمة محاولة جادة منذ إندلاع الشرارة الأولى لحراك 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 لتحميل حزب الله ما آلت إليه الأوضاع في لبنان طوال ثلاثة عقود من الزمن، وثمة بروباغندا إعلامية، محلية وخارجية، تُحيل مسؤولية كل الفساد إلى المقاومة وسلاحها. يصوّرون لك أننا لولا حزب الله لكان لبناننا هو دولتنا الفاضلة، وكأن السياسة المالية والاقتصادية والنقدية التي إنتهجناها وأدرناها في حقبة الطائف، هي من صنع وتنفيذ حزب الله.
لا شك ان هذه البروباغندا تخدم حلفاء حزب الله وخصومه في آن معاً، بحيث يجدون فيها ضالتهم لتبرئة أنفسهم من شبهة فسادهم المزمن، تضاف إلى ذريعة (ما خلونا نشتغل) حيث كل فريق يتهم الفريق الآخر بتعطيل مشاريعه الإصلاحية.
ليس خافياً أن حزب الله دخل المعترك السياسي، غداة إتفاق الطائف بخفر، بداية بالتمثيل في المجلس النيابي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، واستفاد من الطائف الذي كرّسه كمقاومة ضد الاحتلال، والذي أتى نتيجة تقاطعات سورية سعودية أميركية، وتمخض عنه تقاسم للنفوذ في لبنان، على أن تتولى الأولى الجانب الأمني والإدارة السياسية والثانية الجانب الاقتصادي والمالي فيما الأخيرة تحتفظ بنفوذها القديم في مختلف المؤسسات العسكرية والأمنية والنقدية والمالية والقضائية.
وعليه، كان حزب الله محمي الظهر بالوجود السوري، فأدار ظهره إلى كل التفاصيل السياسية الداخلية مُصوباً كل اهتمامه على مقاومة الإحتلال الإسرائيلي وصولاً إلى التحرير في العام 2000، لكن بعد الانسحاب السوري من لبنان إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، بات لزاماً عليه دخول الحكومة العتيدة من باب حماية المقاومة على الأقل، من دون أن يتورط كثيراً في الملفات الاقتصادية والمالية، إلى درجة اعتراف رئيس كتلة الوفاء النيابية النائب محمد رعد بأن حزب الله اخطأ في عدم التدقيق ومتابعة الأمور المالية للدولة منذ العام 2005.
نعم، كان على حزب الله أن يرى خطورة المس بشبكة اتصالاته عام 2008 بنفس خطورة المس بشبكة الأمان الاقتصادي الاجتماعي والغذائي.. كان عليه أن يرى الفاسدين عدواً داخلياً أخطر من العدو الخارجي في مكان ما، سواء الإسرائيلي أو التكفيري
الأسوأ من ذلك، أن حزب الله لم يتمثل وفقاً لحجمه في كل الحكومات المتعاقبة، لا من حيث عدد الوزراء ولا من حيث نوعية الوزارات، ويسري ذلك على التركيبة النيابية وتعامله بخفر مع موضوع التعيينات الإدارية والقضائية وغيرها، أضف إلى ذلك، أن وزراء حزب الله لم يتركوا بصمة مختلفة عن نظرائهم من حيث التطوير والتحديث وما شابه.
وما زاد الطين بلة هو إندلاع الحرب السورية عام 2011 حيث كان لحزب الله الدور الرئيس في حماية النظام السوري ودحر الجماعات الإرهابية. لم يعد يعنيه من الداخل أكثر من ضرورة الحفاظ على الستاتيكو الضامن للمقاومة وإن كلفه ذلك الصمت أو السكوت عن فساد حلفائه قبل خصومه، وما زال على هذا المنوال حتى تاريخه. وربما هنا تكمن مسؤولية حزب الله لا أكثر. إلا أن ما يجري اليوم من تحميل مسؤولية “خراب البصرة” للحزب، أمر فيه الكثير من التجنّي والافتراء، إذ لا يُعقل أن نغض الطرف عن الذين أمعنوا بالفساد والهدر والسرقة ونطالب الجهة التي قصّرت في منعهم عن القيام بأفعالهم.
ثمة من يحاول إلصاق التهمة بحزب الله كمسبب رئيس للانهيار من باب حيازته للسلاح وحروبه الإقليمية التي أبعدت الأشقاء العرب عنه وإقلاعهم عن دعمه، واستجلبت حصاراً اقتصادياً على لبنان بقيادة الولايات المتحدة.
ومع الأسف، لقد انطلت الدعاية الإعلامية على الكثيرين منّا، حتى على بعض الذين ينتمون إلى بيئة المقاومة، نتيجة ما وصلت إليه الأوضاع المعيشية الصعبة، التي تقتل الإرادة وتكوي الوعي، إلى أن صُوّر المؤمن بالمقاومة في الشهور الأخيرة وكأن التاريخ قد تجاوزه مع اتفاقات “إبراهام” الإماراتية والبحرينية والسودانية والمغربية.. والحبل على الجرار.
قد تكون لحرب غزة الأخيرة تداعياتها على مجمل مشهدنا العربي، لكن بمعزل عن ذلك، ها هو لبنان يرزح تحت وطأة أقسى أزماته الإقتصادية والمالية. هي لحظة أزمة. لحظة تأسيس ولكن لحظة لم يعد مسموحاً لحزب الله أن يدير معها ظهره للداخل اللبناني، تحت أي مسمى أو عنوان.
صار مطلوباً التدقيق في كل شاردة وواردة إقتصادية وإجتماعية بدل ترك العربة تسير وفق قاعدة “سيري فعين الله ترعاك”. يستحضرني سؤال إحدى الصحافيات لوزير الدولة للشؤون المالية فؤاد السنيورة في العام 1998، عن جرأة الدولة في الإستدانة بالدولار وعن كيفية سدادها؟ فكان رد السنيورة بأن السلام آتٍ، وعقّبت الصحافية؛ وإذا لم يأتِ؟ أجابها السنيورة باللكنة الصيداوية؛ “منفوت بالقزاز”.
نعم، كان على حزب الله أن يرى خطورة المس بشبكة اتصالاته عام 2008 بنفس خطورة المس بشبكة الأمان الاقتصادي الاجتماعي والغذائي.. كان عليه أن يرى الفاسدين عدواً داخلياً أخطر من العدو الخارجي في مكان ما، سواء الإسرائيلي أو التكفيري.
نحن على مفترق طرق. تخاض ضد لبنان حربٌ ناعمة وخشنة في آن، وثمة خشية من أن تحقق الأولى ما عجزت عنه الثانية، وتصبح معها إنجازات المقاومة من التحرير عام 2000 الذي نعيش ذكراه، إلى الصمود الأسطوري عام 2006، وصولاً إلى الانتصار على التكفيريين، هباءً منثوراً كرمى منظومة الفساد. من مدّ يده على ودائع اللبنانيين سيمد يده على الإحتياطي الإلزامي من دون رفة عين ثم على إحتياطي الذهب ومن ثم لن يتردد في بيع الأملاك العامة وصولاً إلى بيع البلد “المُحرّر”.. من يدري؟
عيد التحرير بأي حال عُدت يا عيدُ.