في الوقت الذي تحاول الصين فيه تقديم “بديل حضاري” للعالم، فإن الولايات المتحدة تستدعي ديناميات الحرب الباردة وسياسات الإحتواء لإجهاض بروز مشروع صيني بديل للعالم، كما أن التركيز المتزايد من قبل الغرب على إقليم شينجيانغ (وهونغ كونغ) هو نوع من الإستهداف/التهديد الأمريكي المُركب للصين، يحاول أن يضرب عدة أهداف بحجر واحد، إن أمكن التعبير، كما يتضح معنا في حيز آخر من هذا التحليل.
شبح أسيا أو الحكمة الصينية
لعل أصل المشكلة بين الصين والولايات المتحدة، هو أن الأخيرة تخشى من تأثير الصين المتزايد في العالم، ليس لجهة النزاع على قيادة نظام عالمي متأزم، وإنما لجهة أن الصين أخذت تمثل رؤية مختلفة للعالم، ومنوالاً للتنمية والأمن والإستقرار من خارج المنظور الأمريكي أو الغربي أو الليبرالي.
هذا على الأقل ما كان قرأه الأمريكان من كلام الرئيس “شي جين بينغ” في مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني في تشرين الأول/ أكتوبر 2017، متحدثاً عن “الحكمة الصينية”، وكيف أن العالم اليوم أمام “مقاربة صينية لحل المشكلات التي تواجه البشرية”.[1]
ثمة عولمة ذات طابع صيني أو توجه صيني لـ”قيادة العولمة”، ليس بالفرض أو الإكراه، وإنما بالقبول والتلقي، بل الطلب من قبل العالم. وثمة بالقطع مؤشرات أخرى كثيرة، منها: تَطلّع دول العالم إلى السياسات الحيوية وسياسات الصحة والدواء؛ تجربة الصين في التصدي لجائحة كورونا، وبالطبع تجاربها في التنمية الإجتماعية والإقتصادية؛ بروز الصين قوة لا تُجارى في القدرة على تولي مشروعات عالمية أكبر وتخصيص موارد هائلة للإستثمار في الخارج، مثل “مبادرة الطريق والحزام”، والأمن السيبراني، والصناعات ذات التكنولوجيا الفائقة.
الإحتواء.. مجدداً!
ما تحاوله الولايات المتحدة هو “إعادة إنتاج” سياسات الإحتواء الأمريكية السابقة حيال الاتحاد السوفييتي، بالنظر إلى الصين بوصفها مصدر تهديد يجب التعاطي معه، بدراسة مصادر السلوك أو مصادر القوة، ونقاط الضعف، والسبل الممكنة للتغلب عليه. بكل ما يعنيه ذلك من “شيطنة” الخصم، وإجهاده بأزمات ومشكلات في الداخل والخارج، وتجفيف مصادر قوته، وشن حرب رمزية وثقافية وإعلامية وقيمية ضده، والأهم هو “عولمة السياسة” حياله و”عولمة العداء” له، أي جعل العالم يتعامل مع الخصم بوصفه مصدر تهديد له (العالم) أيضاً.
تقرأ الصين إهتمام الولايات المتحدة بإقليم شينجيانغ، باعتباره جزءاً من سياسات الاحتواء، وبؤرة احتدام وخلخلة داخلية، وصولاً إلى محاولة جعله “موطئ قدم” أمريكية أو بؤرة استنزاف يمكن للولايات المتحدة من خلالها أن تستهدف الصين وتسيء لصورتها وقوتها وتماسكها الداخلي
الحزام والطريق
“مبادرة الحزام والطريق” واحدة من إستراتيجيات الصين حيال العالم،[2] وتُمثل الدول الإسلامية جزءاً منها، وهي ـ كغيرها من المشاريع الصينية – لا تطرح الكثير من السياسة، ولا تتدخل في سياسات الدول الأخرى، ولا تطرح الكثير من الأسئلة، فضلاً عن أنها تركز على البنى التحتية ومشاريع التنمية الكبرى، وتخصّص الكثير من الأموال لمشاريع رئيسة مثل الطرق والموانئ والإسكان والمناجم وقطاعات النقل والطاقة وغيرها.
إن تقدم “مبادرة الحزام والطريق”، سوف يجعل تدفق السلع والأفراد والأفكار أكثر سيولة، وسوف يتغير مسار التفاعلات الإقتصادية والتجارية في جزء كبير من العالم، ولهذا منعكس إجتماعي وثقافي وتنموي واسع النطاق، والأهم أن كل ذلك ـ كما سبقت الإشارة – غير محكوم باشتراطات سياسية تثقل كاهل المجتمعات والدول المشمولة. هذا تطور ثوري في نظم التفاعلات العالمية، يضع نظام الهيمنة الرأسمالي أو الليبرالي أمام تحديات غير مسبوقة.
إقليم شينجيانغ.. “موطىء قدم”!
تربط الولايات المتحدة بين الإيغور وبين استراتيجياتها في أسيا والمحيط الهادئ، ضد الصين. هي إستراتيجية التطويق بالأزمات والأعداء، التي تتمفصل مع إستراتيجيات الإجهاد السياسي والحرب الاقتصادية والحرب الإعلامية، وإستراتيجيات التغلغل والإختراق، بإثارة الإضطرابات في الداخل، ما أمكنها ذلك أو إن أمكنها ذلك، إرتباطاً بالجهاديين الصينيين أو الإيغور الذين ينشطون الآن في أفغانستان وسورية وغيرهما.
تقرأ الصين إهتمام الولايات المتحدة بإقليم شينجيانغ، باعتباره جزءاً من سياسات الإحتواء، وبؤرة إحتدام وخلخلة داخلية، وصولاً إلى محاولة جعله “موطئ قدم” أمريكية أو بؤرة إستنزاف يمكن للولايات المتحدة من خلالها أن تستهدف الصين وتسيء لصورتها وقوتها وتماسكها الداخلي.
لا يغيب عن القارئ، تأثير المدارك والخبرة التاريخية لدى الصين حيال سياسة الولايات المتحدة ضد خصومها، مثل: تجربة “الجهاد الأفغاني” ضد السوفييت؛ تفكك الإتحاد السوفييتي نفسه؛ الحرب السورية؛ وثمة بالطبع العديد من الأحداث والخبرات المرجعية والأطر الإرشادية التي تلعب دوراً في تأطير وتحديد وتعيين سياسة بيجين في إقليم شينجيانغ.
من ذلك مثلاً، أن شريحة في إقليم شينجيانغ، تقع تحت تأثير إيديولوجيا مناهضة، “تتمثل” أو “تستبطن” ـ بالمعنى السيكولوجي والقيمي – ما يريده مناهضو الصين وخاصة واشنطن، أي يتبنون إيديولوجيا مناهضة للدولة المركزية: إيديولوجيا دينية أو جهادية تكفيرية على غرار تنظيم “القاعدة” في أفغانستان وسورية والعراق الخ، وعرقية ذات طابع انفصالي، و”ليبرالية” بمعنى أنها مناهضة للشيوعية الصينية.
“الجهاد الصيني”!
الحديث عن “الجهاد الصيني” هو إستعارة مُعدلة لتعبير “الجهاد الأفغاني”، بمعنى أن الجهاديين الإيغور ورقة تتهيأ واشنطن لتحريكها ضد بيجين، كما تُحرّكها ضد دمشق، مثلما كان الجهاديون الأفغان ورقة واشنطن بوجه الإتحاد السوفييتي.
ما تحاوله واشنطن هو إحتواء او إعاقة مبادرة “الحزام والطريق”، بمحاولة تفجير أزمة في إقليم شينجيانغ، وبالطبع تفجير أزمات ونزاعات أخرى على طريق “طريق الحرير”، أو الإستثمار فيها أو إعادة تحريكها.
أظهرت الصين مقدرة كبيرة على الاستجابة للتحديات المتزايدة في الداخل والخارج. وقد يكون إنجاز الصين الأهم، هو بقاءها خارج خرائط وخطوط الإصطفافات والتحالفات الدولية، الأمر الذي مكّنها من أن تكون شريكاً نشطاً فعالاً مع أطراف وقوى هي في حالة عداء تقليدي لسنوات طويلة
التفاعلات الإقتصادية والإستثمارية الصينية مع باكستان وإيران ودول الخليج العربية وغيرها، هي من المؤشرات الدالة على أن لا مشكلة مع الدين أو العرق أو القومية إلخ.. وليس لدى الصين مقاربة محض دينية أو مقاربة خاصة بالإسلام ـ بما هو دين وقيم روحية – لما يجري في إقليم شينجيانغ، إنما هي مقاربة تحرص على ألا يكون الدين أو الظاهرة الدينية عامل تفجير وتأزيم في الإقليم أو في علاقات الصين الدولية.
الاستجابة للتحديات
أظهرت الصين مقدرة كبيرة على الإستجابة للتحديات المتزايدة في الداخل والخارج. وقد يكون إنجاز الصين الأهم، هو بقاءها خارج خرائط وخطوط الإصطفافات والتحالفات الدولية، الأمر الذي مكّنها من أن تكون شريكاً نشطاً فعالاً مع أطراف وقوى هي في حالة عداء تقليدي لسنوات طويلة، وبأقل قدر ممكن من التوتر والإحتكاك السلبي مع فواعل النظام العالمي، الأمر الذي يتطلب من الصين خلق استجابات مركبة وبما أمكن من الفعالية:
- الاستمرار في خط التنمية الداخلية، والتفاعلات الدولية، ومباشرة دور عالمي يتناسب مع إمكانات الصين ورؤيتها. وهذا يقتضي، ونحن هنا نأخذ عبارات للرئيس “شي جين بينغ”، “بناء مجتمع الحياة الرغيدة على نحو شامل بعمق”، و”ترسيخ الثقة الذاتية بالنظام السياسي”، وتعزيز التفاعل والوحدة بين القوميات الـ (56) في البلاد، من خلال المساواة والوحدة والحكم الذاتي، وحرية الاعتقاد الديني، وقانونية النشاطات الدينية، والإتحاد مع “الجماهير المؤمنة والجماهير غير المؤمنة”.
- إذا واصلت الولايات المتحدة سياسات الاحتواء تجاه الصين، فمن المفترض بالأخيرة أن تُقابل ذلك بنوع من “الاحتواء المعكوس”، بمعنى دراسة مصادر السلوك الأمريكي ضد الصين، وتقصي نقاط الإستهداف ضد الصين، في الداخل والخارج، حتى لا تتمكن الولايات المتحدة من إستغلالها.
- مراجعة مدارك التهديد – الفرصة، وإعادة قراءة السياسات والإستراتيجيات، وتقدير السيناريوهات المحتملة في المواجهة بين الصين والولايات المتحدة، على جبهات ومستويات عديدة: جنوب شرق أسيا؛ التجارة؛ التكنولوجيا؛ الأمن السيبراني؛ سباق التسلح؛ الحرب الثقافية والإعلامية؛ تفجير مناطق توتر في الأطراف أو الجوار؛ التطويق بالأزمات والخصوم والأعداء.
أظهرت الصين إندفاعة غير مسبوقة في الإستجابة للتغيرات المتزايدة في التفاعلات الدولية، وللتحديات المتزايدة أيضاً من قبل الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، وعلى الرغم من أنها لم تشأ أن تغيّر نمط الخطاب والفعل السياسي، إلا أنها أبدت حيوية نشطة بهذا الخصوص، وأنها مستعدة لـ”اتخاذ ما يلزم” من الإجراءات لضمان أمنها ومصالحها الإستراتيجية، بما في ذلك صورتها وتفاعلاتها ومكانتها ودورها المتزايد في النظام العالمي.
[1] Elizabeth Economy, “China’s New Revolution: The Reign of Xi Jinping”, Foreign Affairs, May/June, 2018. https://www.foreignaffairs.com/articles/china/2018-04-17/chinas-new-revolution
[2] شي جين بينغ، حول الإدارة والحكم، ج2، بيجين: دار النشر باللغات الاجنبية، 2018، ص515-573.