غزو العراق استبقته مغامرة عسكرية أخرى فى أفغانستان.
بتكوينه الفكرى والسياسى، فهو من أبرز صقور «المحافظين الجدد» فى إدارة «جورج دبليو بوش»، الذين أطلق عليهم فى الولايات المتحدة نفسها «أمراء الظلام» ــ محرض على الحرب بغير حق وداع لها بغير حد.
لم يكن غزو العراق عملا تحريريا، أو ديمقراطيا، كما قيل وتردد بالخداع والتدليس على نطاق واسع وقتها، بل كان تدميرا ممنهجا لدولة عربية كادت تخرج من زمرة دول العالم الثالث، دمرت بنيته التحتية، استهدفت مقومات وحدته الداخلية، نهبت المتاحف وامتدت يد التخريب إلى المستشفيات والمدارس والجامعات والجسور والمبانى الحكومية، الدولة كلها والذاكرة الوطنية نفسها وجرى العبث بتركيبته السكانية لإثارة فتن وأحقاد مذهبية وعرقية طلبا لتقسيمه.
الأخطر من ذلك كله تفكيك جيشه.
استهدف العراق فى دوره ووجوده، وكان «صدام حسين» بؤرة الاستهداف.
ثبت بيقين أنه لم تكن هناك أسلحة دمار شامل، وأن التقارير الاستخباراتية التى تردد فحواها فى مجلس العموم البريطانى والكونجرس الأمريكى كانت كاذبة واستخدمت لخداع الرأى العام.
وثبت بيقين أنه لم تكن هناك أدنى صلة لنظام «صدام» بتنظيم «القاعدة»، بل إن التنظيم وجد طريقه لبلاد الرافدين بعد احتلالها.
أسوأ ما جرى أن نظما عربية عديدة كانت طرفا مباشرا فى الاستعدادات العسكرية اللوجيستية لغزو العراق، وشاركت بالتحريض عليه حسب شهادات متواترة وموثوقة.
القضية لم تكن «صدام حسين»، بقدر ما كان العراق نفسه.
هذا ما كان يدركه ويلم بحقائقه «رامسفيلد».
لا راجع نفسه ولا اعترف بخطيئته فى حق مئات آلاف الضحايا.
ولا تعرض للمساءلة كمجرم حرب.
أفلت بجرائمه مثل كل «أمراء الظلام» فى إدارة «بوش»، الذين شاركوه الجرائم نفسها.
فى بحور الدم سقطت الأقنعة وادعاءات الديمقراطية التى وعدوا بها.
تبددت أوهام شاعت قبل الحرب أن الشعب العراقى سوف يقابل غزاته بأكاليل الغار.
يوما بعد آخر بدأت تتكشف فظائع ما يجرى فى سجون الاحتلال.
كانت الصدمة مروعة بقدر ما كشفته الصور من انتهاكات صارخة تضمنت قتلا تحت التعذيب واعتداء جنسيا فى سجن «أبو غريب»، حتى إن جنديا أمريكيا صرخ: «لقد كرهت نفسى»!
لعب الكاتب الصحفى الاستقصائى «سيمور هيرش» دورا رئيسيا فى كشف الفظائع والانتهاكات، التى قوضت ادعاءات إدارة «جورج دبليو بوش» عن الديمقراطية التى يبنيها الاحتلال.
لم يكن غزو العراق عملا تحريريا، أو ديمقراطيا، كما قيل وتردد بالخداع والتدليس على نطاق واسع وقتها، بل كان تدميرا ممنهجا لدولة عربية كادت تخرج من زمرة دول العالم الثالث
اعتداءات مماثلة جرت فى معتقل «كروبر» قرب مطار بغداد الدولى لم يجر الالتفات إليها على أية وسيلة إعلامية دولية حيث كان يعتقل الرئيس العراقى «صدام حسين» مع مائة من كبار معاونيه.
فى وثيقة خطية من (14) صفحة كتبها نائبه «طه ياسين رمضان» من داخل المعتقل، نشرت نصها مطلع تشرين الأول/أكتوبر (2005) على صفحات جريدة «العربى»، تبدى قدر الانتهاكات التى جرت بحق أركان النظام السابق، دون أن يثير ذلك حفيظة أحد.
فى الوثيقة إشارات لاعتداءات جسدية على الرئيس العراقى فور مغادرة قاعة المحكمة، بعدما رفض خلال جلستها تعريف هويته.
قد يقال إنه ارتكب انتهاكات مماثلة، ربما أبشع، لتسويغ الاعتداء بالضرب والتعذيب عليه.
كان ذلك ادعاء متهافتا يسقط أية فروق إنسانية مدعاة، وأية شرعية منتحلة لقوات الاحتلال.
لا يجوز ولا يصح بأية ذريعة تسويغ التعذيب.
هذه قاعدة بديهية بكل حساب إنسانى وقانونى.
جرى ضرب الرئيس العراقى ورفافه، وإجباره معهم على الزحف أرضا لمسافات طويلة، أو الجلوس شبه عراة إلا من دشداشة على الرأس لساعات طويلة.
عندما نقلوا إلى المحاكمة قيدت أياديهم وعصبت العيون، وسحبوا كقطعان غنم.
هكذا بالحرف كتب نائبه «طه ياسين رمضان».
من زاوية إنسانية فالقصة أقرب إلى تراجيديا إغريقية مضى فيها «صدام حسين» إلى النهاية التى اقتربت زحفا على أرض متربة فى معتقل أمريكى.
ومن زاوية سياسية فإنها أقرب إلى تراجيديا إغريقية أخرى مضت فيها الأمة العربية زحفا إلى تهميش أدوارها ومصالحها وحقوقها.
أسوأ ما حدث أثناء محاكمة الرئيس السابق حجم المساومات بالضغوط التى مورست من محققين أمريكيين وعراقيين، أحيانا بشكل مشترك، على معاونى «صدام حسين» للشهادة ضده مقابل التحول من متهمين إلى شهود.
أيا ما كان رأيك، أو موقفك من ذلك النظام، إلا أنه يحسب لرجاله ما أبدوه من ثبات ورباطة جأش فى المحاكمات وعدم استعداد للخيانة أيا كانت الإغواءات.
على التوالى أُعدم الرجلان، «صدام حسين» و«طه ياسين رمضان»، ولقى آخرون مصائر مماثلة، أو أودعوا سجنا طويلا توفوا فيه.
بدت مشاهد إعدام الرئيس العراقى فى (30) كانون الأول/ديسمبر (2006) صادمة للرأى العام العربى بصورة تجاوزت حسابات جلاديه، وألقت بظلالها على حسابات القوى الدولية والإقليمية ومراكز النفوذ فى العراق داخلة فى صراعاتها على مصائر بلد عربى مركزى أخذ يتفكك وتعصف به حمامات الدم والحروب الطائفية.
عند لحظة النهاية بدا «صدام حسين» شامخا، أجبر خصومه على احترامه واكتسب شعبية لم تتوافر له طوال خمسة وثلاثين عاما حكم فيها العراق.
عند لحظة نهاية أخرى لم يلق «رامسفيلد» بعد أن مات على سريره وسط عائلته نظرة احترام لدوره أو تاريخه، بدا مدانا أدبيا على الأقل بنظر بلده نفسها.
يقال عادة.. «ويل للمهزوم».
وقد تجرع العراق مرارة الهزيمة واستغرقته احتراباته الطائفية وسيناريوهات تقسيمه وتوحش جماعات العنف والإرهاب فى جنباته، لكن الهزيمة شملت بالوقت نفسه العالم العربى كله.
بسقوط العراق تقوضت الجغرافيا السياسية فى المشرق العربى وتغيرت حسابات وموازين القوى الإقليمية فالتاريخ لا يعرف فراغ القوة.
كان احتلاله نقطة تحول مفصلية استدعت مشروعات الشرق الأوسط الجديد وسيناريوهات التقسيم.
المفارقة الكبرى فى القصة كلها أن «رامسفيلد» طال عمره حتى يرى بعينيه الهزيمة الاستراتيجية التى لحقت ببلاده فى أفغانستان والعراق حتى بات من أولويات الإدارة الحالية الانسحاب منهما بأقل خسائر ممكنة.
(*) بالتزامن مع “الشروق“