“Scooby-Doo.. أين أنت”؟

ثلاثة أشياء كانت تخيفني وأنا صغيرة. أرتعد، كلّما شاهدتُها على التلفزيون. مرآب سيارات، تُسمَع فيه نقرات أقدامٍ تخطو باستعجالٍ للوصول إلى السيارة المركونة. حوض استحمام، يتحضّر إنسان عارٍ للغطس فيه. وأخيراً، دمية (شقراء) تتكلّم أو تغنّي من دون أن يلمسها أحد!

قد يكون الخوف من المرآب وحوض الاستحمام مشروعاً. فهما يمثّلان المكان النمطي لتنفيذ معظم المجرمين جرائمهم في أفلام الرعب. لكن لماذا الخوف من الدمية؟ فالعروسة الجميلة، التي لطالما أفرحت هديّتُها الفتياتِ الصغيرات، كانت ترعبني. كنتُ أتخيّل أنّ شيطاناً يسكنها. وعندما كبرتُ، عرفتُ أنّني كنتُ أعاني من فوبيا “لُعَب الأطفال”. رُهاب الدمى. أو ما يُسمّى علميّاً “بيديوفوبيا”.

لم يتمّ التعرّف على السبب الأساسي والدقيق للخوف الشديد وغير العقلاني، لهذا الصنف من الرُهاب. فالبعض يُرجِعه إلى حدثٍ مؤلم أو صادم، مثل مشاهدة فيلم رعب فيه دمى. أو حادث مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالدمى. والبعض يرجِّح أنّه ناجم عن الثقافة الشعبيّة. لكن، وبمعزل عن الرُهاب، هناك صدى سيّء لتعبير “دمية”. إنّه التوصيف الذي، إذا ما نعتنا به إنساناً، يعني أنّنا نُقرّ بكونه مجرّد أداة بيد غيره. أداة طيّعة، طبعاً. تسمع وتنفِّذ، فقط. لا تسأل ولا تعبِّر ولا تعترض. أي، بوق يُنفَخ فيه نفخاً. مطيّة تُمتطى لإيصال أحدهم، وبشكلٍ مموّه، إلى حيث يريد. لتحقيق غايةٍ ما.

لا رأي للدمية، إذْ لا رأي لمَن لا يُطاع. لا إحساس للدمية أو كرامة، لأنّها جماد. حتّى لو تكلّمت أو غنّت أو صرخت أو…هدّدت. لذا، يجب ألاّ تخيفنا الدمية. فرُهابها ليس إلاّ خوفاً، لا منطق له. خوف من شيءٍ لا يشكّل، في الواقع، أيّ تهديدٍ فعلي. إذاً، الأمر يتّصل بمَن يعاني من الفوبيا (آنفة الذكر). أي، يتعلّق بمريض الفوبيا، وليس بالشيء المسبّب والباعث لها. وهذا حالنا في لبنان، يا أصدقاء. يخاف الناس، من رؤية الدمى وهي تتحرّك في المقرّات الرسميّة وقصور الحُكم. فلا مسؤولين في ديارنا. بل، مجرّد دمى. هناك مَن يحرّكها. ومَن يُعِدّ نصوص العروض التي تمثّلها. “ميس بيغي”، “بيج بيرد”، “كرميت”، “غونزو”، “فوتزي”، “والدورف”، “ستاتلير”.. هل تتذكّرونها؟

عندنا في لبنان، هناك ثلاثة أنواع من الدمى: الدمى المتحرّكة باليد، وهم “المسؤولون السياسيّون” الذين لديهم مسؤوليّات مباشرة؛ والدمى المتحرّكة بالخيوط، وهم “المسؤولون السياسيّون” الذين يتمّ تحريكهم بدقّة وصعوبة أكبر، وأحياناً عن بُعد؛ والدمى المتحرّكة بالعصي

إنّها شخصيّات الدمى المتحرّكة التي ابتكرها المخرج الأميركي “جيم هنسون”. قدّمها في السلسلة التلفزيونيّة العالميّة الشهيرة The Mappet Show (بين عاميْ 1976 و1981). دمى، أضحكت العالم لسنواتٍ طويلة وهي تنقل حياتهم إلى الشاشة. متوسِّلةً، أحياناً، محتوى عنصريّاً ومسيئاً إلى بعض الحضارات والثقافات. لكنّ “ديزني” تنبّهت للأمر. وتدخّلت لتعدِّل ما تنطق به الـ Mappets. فبالنهاية، هي دمى. والدمى لا تتحمّل أيّ مسؤوليّة. مثل العبد المأمور. كنْ فيكون. إلاّ في لبنان. فلقد غابت كلّ مسارح الدمى المبهجة عنّا، وحلّت مكانها دمى كريهة من لحمٍ ودمّ. دمى تُبكي ولا تُضحِك. تخيف. ولا سيّما الذين يعانون من الـ”بيديوفوبيا”. دُمانا دمى سياسيّة، بغالبيّتها. من كبيرهم إلى صغيرهم. وفي عالم الدمى، كلّهم صغار. يحجزون لنا الصفوف الأماميّة، لنشاهد عروضهم المرعبة عن قُرب. ماذا عن الدمى وآليّات عملها؟

هي عبارة عن مجسّمات اصطناعيّة يتحكّم في حركاتها أشخاص. يُسمّون “محرِّكو الدمى”. تتقمّص الدمى أدواراً، ولا تصنعها. عادةً، تُفبرَك معظم الدمى من القماش والخشب. أو من أشياء ومواد رخيصة (علب الألبان الفارغة أو الخِرَق البالية). هناك متخصّصون في تأليف عروض الماريونيت. ويقوم محرِّكو الدمى بتغيير أصواتهم، مع تغيير الشخصيّات التي يتقمّصون أدوارها. عموماً، لا يرى الجمهور محرِّكي الدمى. فهم يتوارون خلف الستائر والعوازل. لكن، اختُرِع نوع جديد من العروض، تظهر فيه الدمية ومحرِّكها على المسرح، سويّاً. هذا النوع استُقدِم إلى لبنان، بنجاحٍ كبير. دمى تحرص على أن يتعرّف عليها الجمهور. كدمية ومحرِّك، في آن. وأكثر. تنتظر أن يصفّق لها الحضور، إعجاباً وإكباراً. لا داعي لإيراد الأمثلة.

عندنا في لبنان، هناك ثلاثة أنواع من الدمى: الدمى المتحرّكة باليد، وهم “المسؤولون السياسيّون” الذين لديهم مسؤوليّات مباشرة؛ والدمى المتحرّكة بالخيوط، وهم “المسؤولون السياسيّون” الذين يتمّ تحريكهم بدقّة وصعوبة أكبر، وأحياناً عن بُعد؛ والدمى المتحرّكة بالعصي، وهي النوع الثالث الذي أشرنا إليه. أي، الذي يكشف محرِّكه، للجمهور، وجهه وهويّته. وللإشارة، قد يشتمل الكثير من العروض على أكثر من نوعٍ من الدمى.

العماد ميشال عون، كان أوّل مَن تحدّث في الـ 2006 عن جوقة دمى تستقصده (الشكوى الأزليّة الأبديّة للجنرال من الاستهداف الشخصي!). شنّ يومها هجوماً، عبر قناة “المنار” التابعة لحزب الله، على حكومة فؤاد السنيورة وممارساتها اللّادستوريّة والعنتريّة. شكّك بمنطلقاتها “اللبنانيّة”. ووصفها بسفارةٍ أجنبيّة تنشط في بيروت. هو العماد الرئيس ميشال عون إيّاه. لا يتغيّر. قوانين الكون تبدأ وتنتهي، عند قدميْه. لكنّه يعيد صوغها في عرضٍ ديناميكي للدمى. “لا يمكننا أن نعتمد على جوقة الدمى التي يتكلّم أعضاؤها ويهاجموننا بذهنيّة ميليشياويّة”، أكّد الجنرال الواثق أبداً بمنطلقاته الوطنيّة!

يا الله. دمى تهاجم دمى. بالأمس كما اليوم كما غداً، إنْ لم يكن لناظره قريب. يشكّل حُكّامنا فريق دمى للمقاولات السياسيّة. لا شغل لهم أو عمل، إلاّ تسليم أمرهم لمحرِّكيهم. لمشغّليهم. فريقٌ مخضرم في فنون الإلهاء والتمويه وتعطيل كلّ ما استطاع إليه سبيلاً. وهذا الأسبوع، عرضٌ جديد لفرقة دمى رئيس الحكومة المستقيل. ثلّة من الوجوه “البِكْر” في التخريب السياسي. نقّحها “جيم هنسون اللبناني”، بكومبارس من أتباع العصابات الحاكمة. أي، أولئك الذين يتلطّى معظمهم في كواليس المسرح. الأيادي المجهولة المعلومة، ذاتها. العرض الأخير شاهدناه في 6 تموز/يوليو الجاري. يوم استدعى الرئيس حسان دياب إلى “دارته” عدداً من السفراء وممثّلي البعثات الدبلوماسيّة. ومتى نسي المرء “مَن يكون”، يمكن توقّع أيّ شيء منه. ماذا حدث في السراي الكبير؟

ماذا أفعل؟ صرخ دياب في أعماق نفسه. فاللقاء يُبَثّ مباشرةً على الهواء. أدرك، على حين غرّة، أنّ السفيرة الفرنسيّة كشفته. فضحته. عرفت أنّه دمية. ما العمل؟ إقطعوا البثّ. دمية أمرت دمية. فأسرع مساعدوه إلى “حرمان” المشاهدين، من “جلسة بهدلة” عابرة للقارّات والبحار

أُزيح الستار عن منصّة يجلس عليها رئيس حكومة تصريف الأعمال مع بعض معاونيه. لم يدخلوا ككلّ البشر. إنّما، وعلى مرأى من السفراء الأجانب، تدلّت بهم فجأةً من السقف خيوطٌ وضعتهم على المسرح، ثمّ باشرت تحريكهم. وعلى أنغامٍ شعبويّة، وانفلاشٍ ديماغوجي في الكلام، وتسطيحٍ ذهني سياسي، افتُتح العرض. هزّت اليد الطويلة الجبّارة خيطاً، فتحرّكت شفاه حسان دياب. لحظات، وبدأ تدفّق السخافات عبرها. صار صاحبنا يكرّر كلمات، كان قد سمعها من أحدهم على شاشة التلفزيون. ذاك الذي سمعناه، نحن أيضاً. وكأنّه شرب حليب السباع. فبوشرت العراضة الهزليّة، بمشاهد من عالم الخيال السياسي. هواة، يؤدّون مشهديّات تُحجَز في العادة للمحترفين. لكن، اعتقد دياب ومحرِّكه أنّها الطريقة الفضلى لنيل الإعجاب.

إقرأ على موقع 180  لماذا لا نتحمل شَتْمَ مُقدّساتنا؟

شرَعَ بوضع النقاط على الحروف. واستفاض في ما يشبه مرافعة المدّعي العامّ في المحكمة. قال، لمَن يعنيهم الأمر، إنّ لبنان محاصَر. لكنّ الحصار لا يؤثّر على الفاسدين. بل إنّ الشعب وحده مَن يدفع الثمن. حياة اللبنانيّين بخطر، جزم حسان دياب (بكلام تقشعرّ له الأبدان). ومضى إلى حيث منابع التسوّل. فاحتجّ على ربط الخارج تقديم المساعدات، بتشكيل حكومة. أيُعقَل! أين حكومتي؟ ألا ترونها؟ كلمات ليست كالكلمات. كلمات تقلب تاريخنا (كما يقول الشاعر نزار قباني).

إنّها “ثقافة الكيتش” (kitsch). المصطلح الذي تحدّث عنه الفيلسوف الألماني “تورستن بودتز”، ويُستخدَم في حالة التحقير والإزدراء. فأصل الكلمة يعني، جعْل الشيء رخيصاً. أو تقديم شيء لا قيمة له. أو تعني، كذلك، طموحاً لا قيمة له. حرام حسان دياب! ظنّ أنّه من السهل زرع أفكارٍ في عقول الناس، من دون أن يشعروا بذلك. فجميع البشر يتساوون في إمكانيّة خداعهم، كما فَهِم من الدراسات التي أنجزها عالم النفس الكندي “جاي أولسون”. وتحديداً، الدراسة التي تتقصّى في الأساليب الخفيّة لخداع الناس.

تأمّلتْ سفيرة فرنسا بمنصّة الدمى “الكيتشيّة”. لمحت وراءهم محرِّكيهم وهم يبحلقون بالسفراء. أشفق قلبها على الخطيب. لكن، للشفقة حدود. لم تستطع ضبط نفسها. فبدأت “تأنيب” دياب، إنّما بديبلوماسيّةٍ منمّقة. كادت أن تبقّ بحصة سعد الحريري (الشهيرة) وتقول له: “إسكتْ يا رجل، واحترمْ نفسك”. لكنّها، سرعان ما استدركت غضبها. فاكتفت بتذكيره بأنّ العصابات الحاكمة (التي يمثّلها دياب)، هي، وليس حصار الخارج، مَن يتحمّل بأدائها “الكيتشي” مسؤوليّة الانهيار. وذكّرته، في معرض ردّها عليه، بأنّه مُقصِّر ولا يقوم بواجباته. فحكومته المستقيلة قادرة أن تفاوض الهيئات الماليّة الدوليّة لمعالجة التدهور، حتّى في وضعيّة تصريف الأعمال!

ماذا أفعل؟ صرخ دياب في أعماق نفسه. فاللقاء يُبَثّ مباشرةً على الهواء. أدرك، على حين غرّة، أنّ السفيرة الفرنسيّة كشفته. فضحته. عرفت أنّه دمية. ما العمل؟ إقطعوا البثّ. دمية أمرت دمية. فأسرع مساعدوه إلى “حرمان” المشاهدين، من “جلسة بهدلة” عابرة للقارّات والبحار. فعمّ الظلام والظلاميّة. غير أنّ السفيرة الفرنسيّة لم تكن تعرف الدافع الحقيقي، للمّ شمل السفراء في حضرة دياب. في حضرة الغياب (بالإذن من الشاعر محمود درويش). فدياب، قرأ في فنجان رئيس الحكومة المكلّف. أدرك، بشبقه الغريزي للسلطة (يا الله ساعدنا على تحمّل الشبقين)، أنّ هناك قراراً سياسيّاً عابراً للأحزاب، بعدم تشكيل حكومة.

ارتعش قلب دياب من الغبطة. ماذا لو صار رئيساً للجمهوريّة؟ فإذا لم تُشكَّل حكومة، فستتولّى حكومته الحكم بعد رحيل الجنرال الرئيس. سيحكم، مع دُماه، إذا لم يتمكّن Dalloz العهد القوي، من إيجاد فذلكة دستوريّة وقانونيّة تؤبّد وجود الرئيس ميشال عون في قصر بعبدا. فأخذ نفساً عميقاً، وبدأ ببثّ هيبته وتعميمها على ممثّلي الخارج. فالداخل، نسي أصلاً مَن يكون حسان دياب! لذا، وبعد البهدلة الفرنسيّة الأميركيّة المشتركة له، كان لا بدّ من توجّهه إلى الشعب اللبناني ليقول للّبنانيّين: ما يحدث عندنا، هو شأنٌ داخلي أميركي فرنسي إيراني سعودي. وعليه، يُرجى منكم عدم التدخلّ!

كلمة أخيرة. في روايته “عائد إلى حيفا”، يقول الكاتب الفسطيني الشهيد غسان كنفاني (الذي اغتاله الموساد الإسرائيلي في مثل هذه الأيام بالضبط عام 1972): “أتعرفين ما هو الوطن يا صفيّة؟ الوطن هو ألاّ يحدث ذلك كلّه”. إقتضى السؤال.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  معنى 4 آب: لبنان الذي نُريده.. لا الذي يُريدون