وقف “العدوان الثلاثي”.. عبدالناصر وشمعون وثالثهما البستاني!

قبل ست وستين سنة، وفي مثل هذه الأيام، كان العالم قاطبة، يعيش ذيول "العدوان الثلاثي" الذي تعرّضت له مصر من قبل التحالف البريطاني ـ الفرنسي ـ الإسرائيلي بذريعة الرد على قرار الرئيس جمال عبدالناصر بتأميم قناة السويس في السادس والعشرين من تموز/يوليو 1956، وعلى ما ظهر بعد سنوات أن دوراً لبنانياً ليس قليل الشأن، قد أسهم في إيقاف آلة العدوان.

افتتح الإسرائيليون حملة “العداون الثلاثي” على مصر في التاسع والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 1956، وفي اليوم التالي، خرجت صحيفة “الأهرام” المصرية وعلى رأس صفحتها الأولى “اسرائيل تبدأ الهجوم على مصر”. وفي اليوم الذي أعقبه جاء عنوان “أخبار اليوم” القاهرية “بريطانيا وفرنسا تقرران الهجوم على مصر وتطلبان احتلال بورسعيد والإسماعيلية والسويس”. وفي الواحد والثلاثين من الشهر نفسه عنونت صحيفة “الحياة” اللبنانية “قررت فرنسا وإنكلترا احتلال القناة صباح اليوم”.

في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 1956 تساءل قطب الصحافة اللبنانية والعربية كامل مروة في افتتاحيته الشهيرة في صحيفة “الحياة” فكتب “أين الدول العربية؟ والآن وقد سارت قوى الإنكليز والفرنسيين جنبا لجنب مع عدونا الغاشم إسرائيل وأطبقت على القوات المصرية لعزلها في سيناء عن صد العدو وتتركه طليقا في غزو أراض عربية جديدة، الآن لم يعد للصبر أو السكوت مجال، هذا الكلام موجه للدول العربية التي انكمشت على نفسها بإنتظار جلاء الموقف، ألا ترى هذه الدول أنه انجلى كفاية؟ أما حان الوقت لكي تخرج هذه الدول من بُكمها بأكثر من البرقيات والتصريحات”؟

في واقع الحال، لم تؤدِ صرخة كامل مروة إلى فعل عربي او ردة فعل بإستثناء الرئيس السوري شكري القوتلي الذي طالب الإتحاد السوفياتي بتحرك ما فقابله السوفيات ببرودة غير منتظرة، بحسب ما يروي محمد حسنين هيكل في “ملفات السويس” وأما لماذا هذا الموقف؟ فلأن “الأيام الأولى للحرب كانت الأخبار من موسكو غير مشجعة على الإطلاق، فعندما بدأت محادثات الرئيس القوتلي مع القادة السوفيات قال القوتلي إن شعوب العالم العربي تنتظر المساندة الفورية والعملية من صديقها الكبير الإتحاد السوفياتي، وردّ عليه ـ الرئيس السوفياتي ـ خروتشوف قائلا إننا أصدرنا بيانات قوية نشجب فيها العدوان، وردّ القوتلي بأن البيانات القوية لا توقف الجيوش، وكان رد خروتشوف: هل تريدنا أن نشعل نار حرب عالمية نووية”.

الموقف السوفياتي “البارد والمرتبك” في بدايات العدوان الثلاثي، يصادق عليه سامي شرف مدير مكتب الرئيس جمال عبدالناصر ويجتهد في تفسيره وتأويله “لقد أيّد الإتحاد السوفياتي موقف مصر منذ بداية الأزمة، لكن مع بداية العدوان بدأ صوته يخفت تدريجيا نتيجة انشغاله بالثورة المضادة في المجر وخشية موسكو من تدخل الغرب في أزمة المجر إذا ما تدخلت في أزمة السويس، ومن هنا أبلغ خروتشوف شكري القوتلي رئيس سوريا أنه لا يستطيع تقديم مساعدة حربية لمصر، لكن تطور الأمور وتصاعد ردود الفعل العالمية المضادة للعدوان الثلاثي، دفعت موسكو لإعادة ترتيب أوراقها من جديد فسعت إلى صياغة تعاون مع واشنطن في هذا المجال”.

من أين يأتي العون؟

من لبنان، كما يقول محمد حسنين هيكل، ولكن كيف؟

في “ملفات السويس”، يقول هيكل “عندما قامت مدافع الأسطول البريطاني بدك مدينة السويس، وتمكن المصور السويدي أندرسون من التقاط فيلم سينمائي ومجموعة من الصور المؤثرة للدمار الذي حلّ بالمدينة، كان جمال عبدالناصر حريصا على أن يصل الفيلم السينمائي ومجموعة الصور المكملة له إلى لندن بأسرع ما يمكن، وسُلّمت هذه الشحنة كلها إلى جورج براون الذي طلب في اليوم نفسه من رئيس مجلس العموم البريطاني تخصيص قاعة لعرض فيلم وصور تلقاها عما حدث لمدينة بور سعيد، وفي العرض الأول كان في القاعة تسعون عضوا من أعضاء مجلس العموم”.

 كيف وصل الفيلم والصور إلى لندن؟

هذا السؤال يقود إلى كتاب آخر لمحمد حسنين هيكل، وبالتحديد إلى الصفحة 60 من الجزء الثاني من كتابه “كلام في السياسة” وفيها:

“عندما بدأت معارك السويس في تشرين الأول/أكتوبر 1956، فإن انطوني آيدن رئيس الوزراء البريطاني، حاول أمام مجلس العموم أن يدعي بأن القوات البريطانية والفرنسية قامت بعملية عسكرية نظيفة، ثم كان أن تمكن المصور السويدي، أندرو اندرسون، من دخول المدينة والتقط عشرات الأفلام والصور التي تكشف الحقيقة، وجرى اتصال تلفوني مع إميل البستاني، وقامت طائرة مصرية بمغامرة حملت الأفلام والصور إلى بيروت، ومن هناك أخذها إميل البستاني إلى لندن، وبعد أقل من ساعة واحدة، كان يُعرض على أكثر من مائة عضو في مجلس العموم صورا وأفلاما تكشف حقيقة ما جرى في مدينة بورسعيد، وخرج أنيورين بيفان ـ نائب في مجلس العموم ـ من قاعة العرض يدعو إلى مظاهرة، وكان حجمها نصف مليون رجل وإمرأة، وخسر انطوني آيدن معركته السياسية في قلب لندن في الوقت الذي خسر معركته العسكرية على شواطىء بورسعيد”.

إميل البستاني (1903 ـ 1963) هو رجل أعمال لبناني، استهوى السياسة فحمل حقيبة نيابية ووزارية، وفي النبذة التي نشرتها صحيفة “الحياة” عنه في السادس عشر من آذار/مارس 1963 “وُلد في بلدة الدبية قضاء الشوف، تخرج من الجامعة الأميركية في بيروت وأكمل دراسته في الولايات المتحدة، بدأ أعمال المقاولة في مدينة حيفا بفلسطين بين عامي 1936 و1937، وكان المسؤول عن الهندسة المدنية في مدينتي عكا والناصرة، وأسّس عام 1938 شركة المقاولات والتجارة العربية ـ كات ـ في حيفا، وترأس وفد الغرفة التجارية العربية إلى انكلترا، انتخب عضوا في مجلس إدارة البنك العربي، وأسّس شركة لإستخراج النفط” وقد امتدت أعماله من باكستان إلى العراق وتركيا ودول الخليج وصولا إلى افريقيا، وكان يعمل في شركة “كات” حوالي 17 ألف موظف كما تقول (9 ـ 9 ـ 2013) إبنته النائبة السابقة ميرنا البستاني لصحيفة “الأنباء” الكويتية.

في الثالث والعشرين من أيلول/سبتمبر 2013 كتب محمد السماك في صحيفة “المستقبل” اللبنانية عن إميل البستاني:

“كصحافي كنتُ مقرباً منه، عرفت شيئاً وغابت عني أشياء، ففي عام 1956 تعرضت مصر لعدوان عسكري ثلاثي، كان اميل البستاني من الشخصيات القليلة في عالمنا العربي الذي امتلك مفتاحين، مفتاح المعرفة ومفتاح العلاقات، وكان في الوقت ذاته يمتلك مفتاحاً ثالثاً هو ثقة الرئيس جمال عبد الناصر، وكان اميل البستاني يتمتع بثروة من هذه العلاقات مع شخصيات فاعلة ومؤثرة في عملية صنع القرار البريطاني، ولأنه كان يعرف أن من المهمات ما يتطلب من السرية إنكار الذات، لم يتردد في إنكار نفسه وإخفاء دوره حتى بعد سقوط حكومة أنطوني آيدن إثر الحملة التي تعرضت لها على خلفية العدوان على مصر، لم تصدر في الصحافة البريطانية أي إشارة عن اميل البستاني أو الى الدور الذي قام به والذي أدى مع أدوار أخرى الى تلك النتيجة التاريخية، فالسقوط السياسي لحكومة آيدن أسقط الإنتصار العسكري الثلاثي في السويس، كيف فعل ذلك؟ كيف نجح في اقتحام معقل صناعة القرار في دولة كبرى؟ إنه سر اميل البستاني، لم يكتبه بقلمه ولا كُتب بقلم غيره، لقد ذهب، وسرّه ذهب معه”.

إقرأ على موقع 180  عصام عبدالله.. ماذا ستروي لشيرين؟

وكتب سليم نصار في صحيفة “الحياة” في الخامس عشر من آذار/مارس 2013:

“سنة 1994 صدرت في لندن مذكرات أرملة اميل البستاني لورا، وقدّم لتلك المذكرات محمد حسنين هيكل، راوياً عن سيرة البستاني ما تركه من أثر طيب على جمال عبدالناصر، قائلاً إن مصورا حربيا من السويد نجح في التقاط عدة أفلام أثناء حرب السويس 1956 تمنى الرئيس المصري لو أنها تُنقل إلى مجلس العموم البريطاني، ذلك أنها كانت تمثل أفضل شاهد على الجرائم والبشاعات التي اقترفتها القوات البريطانية، واتصل هيكل بإميل البستاني في بيروت، ليجده على أتم الإستعداد لتنفيذ تلك المهمة، وعلى الفور كلّف مصطفى أمين ـ صاحب دار “أخبار اليوم” المصرية ـ بنقل الصور إلى بيروت على متن طائرة مدنية، وتفاديا لمراقبة الرادارات الإسرائيلية، انتقلت الطائرة إلى الخرطوم فجدة وعمّان قبل أن تحط في مطار بيروت، بعد أقل من 24 ساعة، كانت صور مجازر بورسعيد موجودة أمام كل عضو من أعضاء مجلس العموم، وكذلك نقلها إميل إلى ممثلي الجمعية العامة في الأمم المتحدة، وقد أحدثت تلك الخدمة الوطنية الصدى السياسي المطلوب ضد أنطوني آيدن ووزير خارجيته”.

الإقتصادي والكاتب الفلسطيني سميح مسعود يتوقف في كتابه “حيفا/بُرقة ـ البحث عن الجذور” بإعجاب واحترام كبيرين أمام دور إميل البستاني في وقف “العدوان الثلاثي” على مصر عبر قوله “تتوالى المفاجآت التي أثارتني في مسيرة إميل البستاني، ومفاد ذلك خدمة وطنية طلبها منه الرئيس المصري نفسه، وتمكن من خلالها إيصال مجموعة كبيرة من الصور إلى كل أعضاء مجلس العموم البريطاني التقطها مصور حربي من السويد أثناء العدوان على مصر، وتمكن البستاني بمساعدة مجموعة من أصدقائه البريطانيين المتعاطفين مع القضايا العربية من وضع الصورأمام كل عضو من أعضاء مجلس العموم البريطاني كما نقل الصور نفسها إلى الأمم المتحدة، وقد كان لعمله هذا صدى سياسي ضد رئيس الوزراء ـ البريطاني ـ آيدن، زاد من تأليب الرأي العام ضده، وسرعان ما توسعت المعارضة حتى تمكنت من حمل آيدن على الإستقالة”.

في مقالة سليم نصار المسبوقة الذكر، ورد وصول مصطفى أمين إلى بيروت مبعوثا من عبدالناصر، ويفتح هذا الأمر أكثر من تساؤل حول اختيار مؤسس “أخبار اليوم” مع شقيقه علي، وهما المتهمان في وقت لاحق بميولهما الغربية، للمجيء إلى العاصمة اللبنانية والتنسيق مع إميل البستاني في وقت كان على رأس السلطة اللبنانية الرئيس كميل شمعون الغربي الهوى، ومبعث هذا التساؤل: هل كان لشمعون دور في التواصل مع بريطانيا لوقف العدوان الثلاثي، او هل نسّق إميل البستاني معه؟ او هل كان مصطفى أمين صلة الوصل بين شمعون وعبدالناصر؟

من المعروف أن لبنان لم يقطع علاقاته مع فرنسا وبريطانيا خلال “العدوان الثلاثي”، وفي كتاب “أمراء الحرب وتجار الهيكل” لكمال ديب “نفى شمعون أنه وعد بقطع العلاقات، الأمر الذي سيلحق الضرر بمصالح لبنان الحيوية وأن عبدالناصر لم يطلب منه هذه التضحية، ودليل ذلك كما شرح شمعون حضور إميل البستاني إلى القصر الجمهوري ومعه مبعوث مصري هو مصطفى أمين يطلب وساطتي مع لندن لوقف النار، فعملت ما أقدر عليه، وخلال 48 ساعة أخبرتُ عبدالناصر أخبارا جيدة عن وقف النار، وإلا كيف كان بإستطاعتي التوسط لو قطعتُ العلاقات”؟

عن دور مصطفى أمين يقول الوزير والنائب الراحل يوسف سالم في “خمسون سنة مع الناس” إن شمعون وخلال “العدوان الثلاثي”، “دعا إلى مؤتمر قمة عربي يُعقد في بيروت، ولبّى الدعوة رؤساء الدول الأعضاء في الجامعة العربية بإستثناء جمال عبدالناصر المشغول بقيادة المعركة، لكنه أوفد الصحافي مصطفى أمين وفوّض إليه وإلى السفير المصري في بيروت أن يمثلاه في المؤتمر”.

لماذا مصطفى أمين؟

ذاك من علم أسرار السياسة.

يكمل يوسف سالم شارحا موقف الرئيس اللبناني من قطع العلاقات مع فرنسا وبريطانيا، وفي ذلك يقول:

“رأى الرئيس شمعون أن يبقى لبنان على علاقاته بحكومتي لندن وباريس وأبلغ عبد الناصر هذا الرأي وبرره بقوله إن من الخير ان يظل هنالك رئيس عربي معروف بصداقته للغرب قادرا على الإتصال كل دقيقة بالدول الغربية، حتى بدولتي العدوان، ومخاطبتهما مباشرة وبإسم الدول العربية وربما باسم عبدالناصر نفسه، وذلك أفضل من ان يكون رسول عبدالناصر والوسيط بينه وبين دول الغرب رجل دولة أجنبيا كالأمين العام للأمم المتحدة، أو جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند، وهما الصديقان اللذان عرضا وساطتهما وباشراها منذ وقوع العدوان الثلاثي، وهذا يُظهر صواب السياسة اللبنانية”.

الزميل نقولا ناصيف يذهب في كتابه “شمعون آخر العملاقة” إلى قراءة تؤكد دور شمعون في وقف “العدوان الثلاثي” من خلال “الموقف الوسطي” الذي تموضع فيه، ويقول إن شمعون “نجح أولاً في وقف إطلاق النار بين البلدين وتلقى ضمانات من الحكومة البريطانية في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1956، تؤكد أن من جملة الأهداف التي نتطلع إليها هي انسحاب القوات الإسرائيلية من مواقعها الحاضرة سريعاً”.

وهذا الرأي يستطرد بشرحه سامي الصلح في مذكراته، وكان قد حلّ رئيسا للحكومة (18 ـ 11ـ 1956) بعد استقالة عبد الله اليافي “انعقد في بيروت مؤتمر للمسؤولين العرب ـ مؤتمر القمة العربية ـ وحضر جميع المسؤولين العرب بإستثناء الرئيس عبدالناصر، كان ثمة قرار خطير يجب أن يُتخذ، هل سيجر إلى قطع العلاقات مع فرنسا وبريطانيا، وكان لبنان مستعدا لقبول أي قرار إجماعي وإنما قبول عبدالناصر بدخول القوات الدولية إلى منطقة القناة قبل أن يصدر المؤتمر قراره جعل رؤساء المؤتمر يشعرون بإنتهاء الأزمة، وكان القرار المتزن، وكانت المباحثات قد انكشفت عن خلاف عميق في وجهات النظر بين المسؤولين العرب، واحتفظ لبنان بحريته في العمل”.

في الخلاصة سؤال وجواب:

السؤال: ما حقيقة دور الرئيس شمعون في الوساطة بين مصر وبريطانيا خلال “العدوان الثلاثي”؟

الجواب: ما من شك أن وقف “العدوان الثلاثي” اسهمت في إنتاجه أربعة أدوار: صمود المصريين، الدوران الروسي والأميركي، ودور إميل البستاني.

هل يمكن ان يأمل اللبنانيون بـ”بستاني” جديد يوقف حروب العبث الداخلية عليهم؟

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  ميقاتي ومِحَن السياسة في "جمهورية الوحل"